حاتم علي صاحب "عمر" و"الزير سالم" و"الأندلسيات" التي غيّرت أذواقنا

حاتم علي صاحب "عمر" و"الزير سالم" و"الأندلسيات" التي غيّرت أذواقنا


31/12/2020

إبراهيم الجبين

أسهل الكتابة صياغة المراثي بعد رحيل المؤثرين، غير أن الأصعب منها أن تكتب عمّن رحل وكأنه يقرأ سطورك الآن. لا كأنه وحسب، بل أنت متأكد أنه يجلس الآن، كما كان يجلس على مقاعده الشرقية المصدّفة ببيته في سفح هضبة دمّر، أو على كرسي من القش في مقهى “الروضة” بشارع العابد في دمشق، يقرأ وكل شيء في جسده هادئ إلا حركة حبّات سُبحته وهي تدور وتدور لتخفي عن الآخرين فرحه الخجول بهذا الاهتمام الكبير الذي حظي به خبر موته. لكنّ المبدعين لا يموتون. لا نشعر بموتهم أساساً. وأحد الذين أثروا على حياتنا خلال العقود الثلاثة الماضية، كان ابن الجولان السوري اللاجئ البسيط حاتم علي.

في الماضي كتبتُ عنه كثيراً، وكان يتحمّس لأيّ حوار أرغب بإجرائه معه، باعتباره بمثابة مؤامرة مشتركة، سواء على الورق أو على شاشة التلفزيون. مؤامرة على السلطات وانحطاط الذوق، مؤامرة على الرّداءة، وانحياز إلى تلك الدرجة الرفيعة من الجودة التي لم تتوفر لدى أيّ مخرج عربي آخر لا قبله ولا بعده.

جاء حاتم علي من عالم الأحياء الفقيرة البائسة، عرّش مثل الكرمة بعد أن أغوته كتابة القصص القصيرة، قبل أن تسرقه الشاشة ليدرس التمثيل ويصبح ممثلاً، وليفتح جناحيه في عالم الإخراج التلفزيوني والسينمائي الذي أبدع فيه حتى آخر لحظة من عمره القصير.

أسرار حاتم علي

حين نقول إنه لم يكن يصدّق أنه بات من بين عظماء المخرجين في تاريخ الشاشة العربية، لا تكون هذه مبالغة، كان بالفعل مبهوراً بردود الفعل على كل ما يفعل، لم يعتد عليها أصلاً، ولك أيها القارئ أن تتخيل ذلك الطفل الذي حمله خاله على كتفيه وهو يهرب لاجئاً من الجولان مشياً على الأقدام لعشرات الكيلومترات، ذاك الذي عاش منكسراً حزيناً، خجولاً، كيف يمكن أن يتعامل مع الأضواء المبهرة والنجاحات الفائقة التي لم يكن يتخيل أنه سيحققها. لكنه فعل وغيّر الشاشة العربية إلى الأبد.

سرّه أنه لم يكن مخرجاً، كان مشاهداً لأعماله وهو ينجزها، كان يحرص على الدقة في كل لقطة، وعلى أن تكون الأشياء حقيقية، لا مجرد ديكورات مؤقتة، أصلية لا كرتونية هشة. باذخة لا بسيطة، وهذا كله كان قبل أن نفكر في الممثلات والممثلين الذين أدارهم وأشرف عليهم، لا كأنه أستاذ وسيّد في مواقع التصوير، بل كمشاهد أيضاً يعطيهم حريتهم في التعبير وخلق الشخصية، بل وحتى في تغيير حواراتهم وحركاتهم المرسومة إن رأوا هم ذلك.

قد يكون عدد الأسئلة التي طرحتها عليه أكثر من ألف سؤال، سواء في جلسة تصوير أو في تبادل لأطراف الحديث ولكن حين سألته هل يحرجك التعامل معك، كمسؤول عن المحتوى الثقافي للعمل، وأنت المخرج؟ أم أنك تفضل تحميل الكاتب مسؤولياته وإبقاء التبعات البصرية فقط على عاتقك؟ قال “هذا سؤال دقيق جداً، يكشف طبيعة العلاقة ما بين الكاتب والمخرج، وما يشوب هذه العلاقة من لبس وغموض، وهو سؤال يطرح بصيغ مختلفة، من بلد إلى آخر، ويشير إلى فهم مختلف لتلك العلاقة، في مصر على سبيل المثال، يحمّل الجمهور، النجم، المسؤولية الفنية والفكرية عن العمل الفني، بينما الجمهور السوري يميل إلى إلقاء المسؤولية على المخرج، وفي هذا تثمين لدوره كصانع للعمل الفني، أنا شخصياً أُسال، وخاصة في مصر، أسئلة من نوعية: هل شطبت بعض المشاهد للمؤلف؟ أو هل (تدخّلت) في أداء الممثل؟ وهذه أسئلة جاهلة، ولا تصدر عن معرفة، ما يظهر على الشاشة، هو نتاج عمل مشترك، ما بين المؤلف والمخرج، وهما يتحملان مشتركين المسؤولية كاملة، وإسهامات المخرج عادة، لا يمكن اختصارها بحذف المشاهد أو إضافة أخرى، فالمخرج، عادة يعيد كتابة ما سبق وسطّره المؤلف على الورق بالكلمات، المخرج يعيد هذه الكتابة، ولكن بأدوات مختلفة، وهو بالتالي يمكن له أن يخون شريكه المؤلف دون حذف، أو إضافة كلمة واحدة. ما أريد قوله، بالمحصّلة، هو أن المخرج، عادة مسؤول مسؤولية كاملة عن العمل الفني، ليس فنياً وحسب، بل فكريا وسياسيا أيضا”.

هكذا كان يفكّر، العمل الفني ليس مجرّد صنعة وتخصصات، بل موسيقى مشتركة، بين المخرج والكاتب والممثل والفريق حتى أصغر أفراده، لذلك كانت أعماله التاريخية أقرب إلى الكتب الثمينة والمخطوطات النادرة، ولم يكن يتردد في الاشتراط على الجهات المنتجة أن يصوّر في أقصى المغرب أو المشرق، وفي القصور والصحارى والأماكن صعبة الوصول، من أجل مشهد عالي الحرفية، أو أقواس هندسية تشبه أقواس الأندلس، أو بادية مثل تلك التي دارت فيها حرب “الزير سالم”.

سرّه أنه كان يبحث عن الفكرة، ولا ينتظرها. يقدح شرارتها مع الكتاب، فهو ليس من ذلك النمط من المخرجين الذين ينتظرون على طابور الفرص، ولا حتى من أولئك الذين يتزاحمون عليها بحثاً عن المزيد من الأعمال. لم يكن يعنيه ذلك كله. كان يذهب إلى ما يريد هادئاً ومتردّداً دوماً. فهو يفتقد إلى تلك اللعنة التي تلاحق المبدعين عادة، الغرور والغطرسة والاعتداد بالذات.

أول مرة يراه الجمهور فيها كانت في مسلسل “دائرة النار” للمخرج هيثم حقي في العام 1988. وكان لا يزال في منتصف العشرينات من عمره، ولكن جمهور الأدب يعرفه، فقد كان يقرأ قصصه في الأمسيات الأدبية في مخيم اليرموك وغيره. كثيرون يعتقدون أن علي هجر الكتابة، وأنها كانت مرحلة عابرة في حياته، لكنه وعلى النقيض من ذلك، كان ملتصقاً بها حتى بعد أن تحول إلى التمثيل والإخراج، بصور مختلفة. وكان أول فيلم كتبه “زائر الليل”، وكذلك مسلسل “القلاع” الذي أخرجه مأمون البني، كما شارك في كتابة فيلم “آخر الليل” وغيرها من الأعمال.

مسؤولية المخرج

تسأله “باعتبارك مسؤولاً عن المحتوى الفكري كما تحب أن نراك، فلنفكّر معاً، بما يدور في أذهان جمهورك السوري، عندما يشتغل حاتم علي على عمل معاصر، شائك، يضرب على حديد السياسة المعاصرة.. يذهب نحو التاريخ السياسي المصري. ألا توجد مشاريع (غير رسمية) لإعادة كتابة التاريخ السياسي السوري المعاصر عبر الدراما؟ يجيب هكذا “هذا يقودنا إلى طبيعة المساحة المتاحة، في سوريا، أمام كتابة مغايرة وجديدة، أظن أن بداية تشكل الدولة السورية وتطورها في ما بعد، وانتقالها من نظم سياسية مختلفة، هو أمر درامي بامتياز، وفي الوقت ذاته، إشكالي، من الناحية الفكرية، وهذان عنصران مغريان، كمنطلق لدراما جذابة ومعاصرة، لكن كما يبدو، الوقت ما زال غير ملائم”.

وتحاول استدراجه إلى إجابة أعمق فتقول إنه ربما يعود سبب غياب أعمال تحفر في الشخصية السورية إلى عدم الاهتمام أصلاً بتشكل تلك الشخصية، ولذلك تجدها عرضة للرياح المختلفة؟ فيدرك أن الأفق ما يزال مغلقاً، ليس فقط بسبب الرقابة، آنذاك، قبل نحو 15 عاماً، بل لأن أدوات التذوق لم تكن جاهزة بعد، يقول “لذلك فإنك لا تجد مناقشات جادة في الدراما السورية لمواضيع من هذا النوع. ويتم تجاوز الفكرة إلى مواضيع محسومة”.

 المشاهدون العرب يعرفون عن علي أكثر ممّا يعرف كل من يودّ الكتابة عنه وعن سيرته، فهم صحبه وشركاؤه وجمهوره في بيوتهم وغرفهم ويومياتهم، هو ذاته وبعد أن عرف أنه يمكن له التعبير بالصورة، مخرجاً، كما يطيب له، ذهب إلى الحد الأقصى، وكأنه طفل وجد حريته في اللعب.

من يصدّق أن عملاً مثل “الزير سالم” يسجّل أعلى الأرقام القياسية في المشاهدة، حتى قبل انتشار موضة العدادات على اليوتيوب. يقول علي “هناك من روى لنا أنه شاهد المسلسل كاملاً أكثر من 30 مرة حلقة حلقة ومشهداً مشهداً على جميع القنوات التي عرضته”. ماذا يعني ذلك؟ أما الأعمال الأندلسية التي كتبها وليد سيف فقد عوملت معاملة خاصة حتى من قبل الجمهور غير المعتاد على اللغة العربية الفصحى. تناولها الناس وصادقوا أبطالها وألفوهم وباتوا يرددون ما يقولونه على الشاشة كأمثال تحكى وكقصص يتعلمون منها أصول الحب والحرب.

كثيراً ما كان يقول لي إنه مشغوف بالعلاقة ما بين “الحاكم” و”المحكوم”، أراد أن يحفر فيها أعمق وأعمق، حتى يفكك أكبر قدر ممكن من ألغازها. ولذلك رفض اتهامي له بأنه “شرشح” الزير سالم وأهان الأيقونة الشعبية التي يمجدها الناس. قال ببساطة “هذه هي الحقيقة، لماذا لا نعرضها بعيداً عن سلطة الشخصيات وقداستها في وجدان الناس؟”.

تلك العلاقة التي شغلت باله طيلة حياته، سيلاحقها دارسو الفن ومؤرخوه وسيجدونها قابعة في كل زاوية من زوايا مسلسلاته وأفلامه ونصوصه، وفي أعماله الاجتماعية، كان دفتر يوميات المشاهدين أيضاً، الشباب والشيوخ، الفتيات وسيدات البيوت. الطبقات فقيرها وغنيها، وكان الحاكم هو القدر والمحكوم هو الناس.

مدرسة علي ستبقى خارج التصنيفات، وهو الذي حرص على دعمها بالتجريب، وإن بدت رصينة، لكن من يدقق جيداً سيجد كم كان جريئاً بتصوير مسلسل كامل بحركة مهتزّة على سبيل المثال. وهو أمر لم تعتد عليه العين العربية. لم يكن مغامراً فقط في تناول النصوص، بل أيضاً في تقنيات التصوير وخلق المؤثرات.

ليس عادياً أن يتلاعب المخرج ويصنع لقطات لم ينسها المشاهدون رغم مرور سنوات، في مشاهد لم تكن تحوي أيّ حوارات للممثلين، هذا يعني أن المجال كان متروكاً له وفق السيناريو ليفعل ما يشاء فاختار الكتابة بالكاميرا والصوت. حاكم ومحكوم؛ المخرج والمشاهد، وفضاء الحرية بينهما.

مغامرته في “الملك فاروق” كانت اختراقاً ليس فقط للساحة المصرية الغنية بالطاقات الإخراجية والتمثيلية، بل أيضاً للمزاج العام السياسي والثقافي والاجتماعي، بإعادة الاعتبار لآخر ملوك مصر الذي أجبرته ثورة الضباط الأحرار على التنازل عن العرش. دخل علي مصر من ذلك التناقض بين ما أراده مؤرخو السلطات، وما يميل إليه التأريخ الشعبي، فسكن وجدان الشعب المصري وحين غادر الدنيا غادر من مصر لا من غيرها.

ما قدّمه علي فوق كل شيء، هو صورة المخرج المثقف، الذي يدرك قيمة موجة الماء في مشهد للأمير المعتمد بن عباد والهواء يدفعها في إشبيلية جنة العشاق، بينما يرّدد صاحبها المفتون “صنع الريح من الماء زرد” منتظراً أن يكمل شطر البيت الثاني أحد مرافقيه، فلم تجبه سوى تلك التي وقع في غرامها وبقيت معه حتى منفاه في المغرب بعد خلعه، اعتماد الرميكية “أيُّ درعٍ لقتال لو جَمَدْ”. وستكون في جميع أعمال علي بصمات لذلك المختفي خلف الكاميرا، يطل مرة ممثلاً ومرة كاتباً ومرة راوياً، كما في “التغريبة الفلسطينية”، وكما في “عمر” أو “العراب” وغيرها من الإنتاجات ذات القيمة العالية.

رحيل حاتم علي ليس موتاً مفاجئاً، بل هو اشتداد حلكة الرداءة التي لم يتحملها قلبه، اغتيال بتخطيط وتدبير وتنفيذ من ظروف مختلفة، ليس أوّلها السياسة والاغتراب عن وطنه وملعبه السوري، ولا آخرها الانحدار الكبير الذي ضرب الأذواق كعاصفة لا ترحم. ولا الظروف المأساوية التي يعيشها السوريون والعرب عموماً، أيّ قلب يتحمل كل هذا، وهو الذي اعتاد الخفقان من أجل العمل والإنجاز وحسب؟ ماذا يفعل المبدع وسط كل هذا الخراب؟ الأفضل له أن يرحل وهو في ذروة مجده وعطائه على أن يتآكل بين الخرائب.

عن "العرب" اللندنية



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية