جوزيب بوريل...فيل أهوج في محل للخزف الصيني

جوزيب بوريل...فيل أهوج في محل للخزف الصيني

جوزيب بوريل...فيل أهوج في محل للخزف الصيني


19/10/2022

سليم ضيف الله

اللياقة واللباقة، والكلمات المحسوبة بدقة مهندس الذرة، صفات كانت ولا تزال تختزل العمل الدبلوماسي، حتى تسربت هذه الصفات والمواصفات إلى الحياة العامة، فأصبح "العصبي" مثلاً قليل الدبلوماسية، أو عاجزاً عن السيطرة على الكلمات أو الأفكار.

ولكن الأحداث والوقائع كما حصل في الأيام القليلة الماضية، تكشف حجم الهوة التي أصبحت تفصل بعض الدبلوماسيين، عن الدبلوماسية مثل السيد جوزيب بوريل الممثل الأعلى للشؤون الأعلى الخارجية الأوروبية، أي عملياً وزير الخارجية والدبلوماسي الأول في أوروبا اليوم، في عالم يعيش من الأزمات ما لا يعد أو يُحصى.

من حرب أوكرانيا، إلى مشاكل الهجرة غير الشرعية، ومن العلاقات مع دول جنوب المتوسط، إلى دول أقصى الشرق الآسيوي، ومن النووي الإيراني، إلى قضية الصحراء المغربية، ومن التطرف الإسلامي، إلى الشعبوية اليمينية المتنامية في أوروبا، مشاكل وتحديات وملفات تطرحها بنفسها بقوة على أوروبا وعلى وزير خارجيتها ودبلوماسييها الأول، الذي فشل أكثر من مرة في السيطرة على طبعه الحاد، وأفكاره الشخصية الغريبة التي طبعت مسيرته الشخصية والسياسية، من بلاده في إسبانيا، وزيراً سابقاً وزعيماً لبعض أجنحة الحزب الاشتراكي، خاصةً للجناح المتشدد ضد القوميين والانفصاليين الكاتالونيين، الذين لم يتورع السيد جوزيب بوريل في أكثر من مناسبة وهو الكاتالوني الأًصل والمولد والمنشأ، عن وصفهم بالخونة ويطالب بأشد العقوبات ضدهم حتى قبل أزمة الاستفتاء على الانفصال عن إسبانيا منذ أعوام قليلة.

ومنذ تعيينه على رأس خارجية الاتحاد الأوروبي، في 2019، تعددت هفوات وأخطاء الرجل المكلف بالحفاظ على مسيرة الخارجية الأوروبية خالية من المشاكل والصدامات والنزاعات، فقبل حملة جوزيب بوريل الأخيرة، ضد بقية العالم، الذي وصفه بالغابة، عند حديثه عن البستان أو الحديقة الغناء، أوروبا، المهددة بغزو العالم الخارجي، الغابة، في كلمة ألقاها بصفة رسمية في بلجيكا وسط طلاب وباحثين جامعيين، وقع السيد بوريل في أكثر من فخ نصبه لنفسه، وسبب له ولدبلوماسية الاتحاد الأوروبي الكثير من الحرج الذي لم يكن يحتاجه الاتحاد ومؤسساته خاصة في مثل هذه الأوقات العاصفة والصعبة.

وبمناسبة الأزمة الأوكرانية والموقف من روسيا، لم يتحرج الرجل مثلاً رغم الدور المحوري للدبلوماسية في الأزمة ثم في الحرب التي تبعتها، ففي سبتمبر (أيلول) الماضي، فوصف روسيا بالدولة "الفاشية"، في تعليقه على الحرب الدائرة في أوكرانيا، ما أثار حنق وغضب موسكو عليه وعلى المؤسسة الأوروبية بشكل عام، التي هددت بإجراءات قاسية ضده ومفوضية الشؤون الخارجية، ما دفع الاتحاد إلى حجب تصريحه من الوثائق الرسمية المنشورة للاتحاد، في حين اكتفى بوريل بالنفي واتهام المترجمين بتحريفه كلامه وتصريحاته.

وفي الوقت الذي كانت فيه موسكو، تغلي، كرر بوريل قلة اللباقة والكياسة، في أواخر سبتمبر (أيلول) الماضي أيضاً، ولكن هذه المرة ضد شريك وحليف مقرب من الاتحاد الأوروبي تجارياً وسياسياً وثقافياً، المغرب، عندما هاجم الرجل حكومة بلاده، إسبانيا، التي قررت إعادة النظر في موقفها السياسي والدبلوماسي من قضية الصحراء المغربية، بعد قرار حكومة الحزب الاشتراكي الإسباني الذي كان بوريل أبرز قادته على امتداد عقود، الاعتراف بخطأ مواقفها السابقة من القضية، والاعتراف بأن الإصرار على فصل الصحراء عن المغرب، خطأ استراتيجي وتاريخي يجب التراجع عنه.

طبعاً يمكن للسياسي أو المسؤول مثل غيره من البشر الخطأ والصوات، ولكن إصرار وزير خارجية سابق، ومسؤول في حجم المسؤول عن السياسة الخارجية للتكتل الأوربي، مسألة مثيرة للاهتمام بكل المقاييس، خاصةً أن الرجل معروف منذ بداية مسيرته السياسية بعدد غير مسبوق من الهفوات والأزمات التي أثارها أو تسبب فيها، مثل أوكرانيا التي تدور فيها حرب اليوم، وذلك منذ 2005 عندما اتهمها بالتحالف مع بولندا، التي التحقت حديثاً وقتها بالاتحاد، لتقويض التكتل الأوروبي نفسه، قائلاً إن بولندا، أقرب إلى أوكرانيا منها إلى سائر الدول الأعضاء في الاتحاد.

ثم انتقل القصف إلى الولايات المتحدة الأمريكية نفسها الحليف الأول لإسبانيا التي قال عنها في 2018، أثناء توليه مسؤولية وزراة الخارجية في بلاده، إن الأمريكيين "قتلوا 4 هنود، للحصول على الاستقلال" ما فجر عاصفة حقيقية وحملة إدانة واسعة في واشنطن ضد الوزير المتهور، الذي اضطر إلى الاعتذار وطلب الصفح بعدها.

وفي 2019 بعد تسلمه مهام الشؤون الخارجية في بروكسل، لم يجد بوريل أفضل من بلجيكا لتدفع ثمن تصريحاته. ففي أوج الأزمة التي أثارها الاستفتاء في كاتالونيا على الانفصال عن إسبانيا، والرد القاسي من مدريد واضطرار بعض القوميين في برشلونة للهرب واللجوء إلى دول الجوار، مثل زعيم الانفصاليين يومها كارليس بوغديمونت الذي استقر في بروكسل، هاجم وزير الخارجية السابق والمسؤول الأول عن الشؤون الخارجية في أوروبا، القضاء البلجيكي من بلجيكا نفسها التي تحتضن مؤسسات الاتحاد، متهما إياه بقلة الكفاءة بسبب رفضه التسرع في حسم مسألة لجوئه إلى بلجيكا المؤقت، ولكن أيضاً بسبب رفض القضاء تسليم قوميين باسكيين، لحكومة مدريد، ما تسبب في عاصفة أخرى ضده أيضاً ومطالبات بالاعتذار والأسف.

ولم تتوقف عجلة بوريل عن الدوران، فطالت الناشطين البيئيين والخضر، الذين طالب ممثلوهم في البرلمان الأوروبي بوريل رئيس البرلمان السابق بين 2004 و 200، بالتراجع عن تصريحاته المشينة ضد أحزاب الخُضر في أوروبا، والمدافعين عن البيئة الذين وصفهم بضحايا أو "مصابين بأعراض غريتا" المراهقة السويدية غريتا ثانبورغ، ليعود بعدها الرجل الذي قضى في الاعتذار والأسف وقتاً أطول من الوقت المطلوب لإلقاء كلمات رسمية، أو تصريح على ما يبدو.

ومن المواقف المشهورة الأخرى لبوريل هجومه العنيف في 2019 على صحافي من دويتشه فيلا الألمانية، وانسحابه من اللقاء بسبب سؤال عن عدائه الشخصي والشديد للاستقلاليين الكاتالونيين رغم أنه كاتالوني أولاً قبل أن يكون إسبانياً، وهنا لا يمكن التغاضي عن رفض الرجل، استقلال كاتالونيا عن إسبانيا، رغم أنه من أبنائها بالولادة على الأقل، في مقابل إصراره على انفصال الصحراء المغربية التي كانت جزءاً على امتداد تاريخ المملكة، عن الرباط.!

ولكن الخطأ الأبرز في مسيرة الرجل السياسية يبقى أخلاقياً بالدرجة الأولى، بعد أن أدانته في 2018، أثناء توليه وزارة الخارجية، لجنة رسمية في بلاده، وغرمته 30 ألف يورو، بسبب استغلاله موقعه ومنصبه لتحقيق مكاسب مالية وشخصية في صفقة بيع 10 آلاف سهم في شركة طيران إسبانية.

ورغم الإدانة والمطالبات باستقالته، رفض بوريل الانسحاب أو الاعتذار، عن الصفقة، أو قلة احترام النساء والسيدات، على حد قول المناوئين له، الذين يذكرون رفضه، عندما كان وزيراً للخارجية في 2018، وحتى قبل ذلك ومنذ 1991، عندما تولى أول منصب في حكومة الاشتراكيين بقيادة فيليب غونزاليس، الحديث عن "اجتماع مجلس الوزراء والوزيرات" والإصرار على "اجتماع الوزراء" رغم أن الصيغة الرسمية المعتمدة في مدريد خاصة بعد عودة الاشتراكيين للسلطة في 2018 بقيادة بيدرو سانشيز المؤيد بقوة للمرأة، كانت ولا تزال "مجلس الوزيرات والوزراء" رسمياً، بعد تشكيله حكومة أكثر من نصف أعضائها نساء، ولكن بوريل لم يلتزم بالتوجيه السياسي من رئيس الحكومة ما تسبب له في انتقادات واسعة من الصحافة والإعلام والمجتمع المدني، إضافة إلى زميلاته في الحكومة.

إن المتأمل في هذه السيرة والمسيرة، خاصةً في ظل الإخفاقات المدوية، والأزمات الدورية التي فجرها الرجل أو تسبب فيها، يقف حتماً أمام سؤال عن وصول الرجل إلى هذا المنصب من جهة، وبقائه فيه طيلة هذه المدة، فالاتحاد والمفوضية فشلا على ما يبدو في دفعه لطلب الاستقالة، في ظل استحالة إقالته، لأسباب قانونية ودستورية معقدة وطويلة، أو إلزامه بالوفاء بمقتضيات العمل الدبلوماسي من تحفظ وتكتم، ومن لباقة وكياسة على الأقل في انتظار استبداله في العام المقبل.

عن موقع "24"


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية