جمال حمدان: فيلسوف عبقرية المكان

جمال حمدان: فيلسوف عبقرية المكان


25/04/2018

"إنها علم بمادتها فن بمعالجتها وفلسفة بنظرتها"، بهذه الرؤية تجاوز جمال حمدان تلك النظرة التقليدية "المدرسية" إلى الجغرافيا بأن جعلها تستعير بحرية من كل فروع العلوم الطبيعية والاجتماعية، فنجح في أنسنتها بدل أن تكون مجرد "علم أشياء"، وجعلها مدخلاً إلى التفكير الإستراتيجي في التاريخ والأنثروبولوجيا والحضارة والسياسة؛ متتبعاً بالتحليل أدق تفاصيل الأحداث والجزئيات، ليضعها في صورة أعم وأشمل ذات بعد مستقبلي، ليصبّ كل ذلك في مؤلفاته العديدة التي تمثل مشروعه الذي نذر له حياته.

نبوغ مبكر

ولد جمال محمود صالح حمدان في قرية تاي بمحافظة القليوبية عام 1928، اهتم والده مدرس اللغة العربية، بتحفيظ أبنائه السبعة القرآن الكريم وتجويده، كان منذ صغره مولعاً بالكتب ويتنافس في شرائها مع شقيقه محمد، منذ أن كان بمدرسة شبرا الابتدائية، بدأ نبوغه مبكراً، فكان ترتيبه السادس على الجمهورية في الابتدائية، وإثر ذلك حصل على منحة تعليم بالمجان، رغم عدم وجود المجانية آنذاك.

تابع المرحلة الثانوية بالمدرسة التوفيقية عام 1943، وكان خلالها لاعباً متميزاً في كرة القدم، وكان يمكن أن يصل به الأمر حد الاحتراف، وعقب نيله للشهادة الثانوية التحق بكلية الآداب قسم الجغرافيا بجامعة فؤاد الأول "القاهرة"، تخرج منها عام 1947 ، وكان من أساتذته الدكتور محمد عوض والدكتور سليمان حزين، تفوقه الدائم دفع الجامعة لإرساله في بعثة إلى جامعة ريدنج البريطانية عام 1949، ليحصل منها على الدكتوراه في فلسفة الجغرافيا عام 1953 عن رسالته "سكان وسط الدلتا قديماً وحديثا"، وهو لم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره.

اختار حمدان الاعتكاف علمياً حتى آخر حياته في شقته المتواضعة في الدقي التي قضى فيها دون أن يتزوج

عين بعد عودته، مدرساً في جامعة القاهرة بقسم الجغرافيا، ثم أصبح أستاذاً مساعداً، وخلال بضع سنوات لفت إليه الأنظار من خلال كتبه الثلاثة: جغرافيا المدن، والمظاهر الجغرافية لمجموعة مدينة الخرطوم "المدينة المثلثة"، ودراسات عن العالم العربي، حتى أنه منح عنها جائزة الدولة التشجيعية عام 1959.

لم يدم ربيعه الجامعي طويلاً، ففي عام 1963 قدم استقالته احتجاجاً على الظلم الذي شعر به، عندما منح قسمه "أحد المحظوظين" رتبة الأستاذية دون اعتبار لأية كفاءة علمية؛ ولم تقبل الجامعة استقالته إلا بعد عامين حاولت خلالهما ثنيه عن قراره دون جدوى، يقول في كتابه شخصية مصر "واحد من أخطر عيوب مصر هي أنها تسمح للرجل العادي المتوسط، بل للرجل الصغير بأكثر مما ينبغي، وتفسح له مكاناً أكبر مما يستحق.. فشرط النجاح والبقاء في مصر أن تكون اتّباعيّاً لا ابتداعيّاً، تابعاً لا رائداً، محافظاً لا ثوريّاً، تقليديّاً لا مخالفاً، وموالياً لا معارضاً.. وهكذا بينما تتكاثر الأقزام على رأسها ويقفزون على كتفها، تتعثر أقدامها في العمالقة وقد تطؤهم وطئًا".

قدّم 79 بحثاً ومقالة و29 مؤلفاً

اعتكاف علمي

في ظلّ هذا الواقع، اختار "أبو الجغرافيا العربية" الاعتكاف علمياً حتى آخر حياته في شقته المتواضعة في الدقي التي قضى فيها دون أن يتزوج، ليتفرغ للتأليف العلمي، فقدم 79 بحثاً ومقالة و29 مؤلفاً بأسلوبه الأدبي الرفيع منها: "المدينة العربية" 1964، "الاستعمار والتحرير في العالم العربي" 1964، "اليهود أنثروبولوجيا" 1967، وفيه يثبت جمال حمدان أن يهود إسرائيل ليسوا أحفاد اليهود الذين خرجوا من فلسطين، بل هم في معظمهم ينتمون إلى أقوام الخزر الذين اعتنقوا اليهودية في القرن الثامن الميلادي، سابقاً بذلك "أرثر بونيسلر" صاحب كتاب "القبيلة الثالثة عشر" الذي صدر عام 1976.

أما أهم مؤلفاته؛ بل الأهم عربياً في مجاله، فهو ملحمته العلمية "شخصية مصر" الذي سعى فيه إلى تجنب مراهقة شاعر القبيلة في المغالاة والتطرف في مديح بلده، وقد استغرقه العمل به قرابة عشر سنوات؛ إذ أنجزه بصيغته الأولى عام 1967، ثم أصدره في أربعة مجلدات في الفترة ما بين 1981- 1984. وسعى فيه إلى أن ينفذ إلى "روح المكان"، ليستشف "عبقريته الذاتية" التي تحدد شخصيته الإقليمية الكامنة التي لا تقف عند وصف المكان، بل تتعداه إلى فلسفته.

تفرغ للتأليف العلمي فقدم 79 بحثاً ومقالة و29 مؤلفاً بأسلوبه الأدبي الرفيع

وكان يحرص فيه على ألا يفهم طرحه تدعيماً للعودة الانفصالية أو دعوة للشوفينية، فمصر، كما يقول، فرعونية بالجد عربية بالأب، وإن شخصيتها مهما تبلورت أو تجوهرت، ليست إلا جزءاً من شخصية الوطن العربي الكبير، وإنما خصها حمدان بالدراسة؛ لأنه ببساطة جغرافي عربي من مصر "ليس مما يضير قضية الوحدة العربية... أن يكون لكل قُطرمن أقطارها شخصيته الطبيعية المتبلورة بدرجة أو بأخرى داخل الإطار العام المشترك. هذا التنوع والتباين في البيئات، إنما يثري الشخصية العربية العامة.. من الزاوية السياسية والقومية، فإن "الإقليم" الوحيد بالمعنى الصحيح في العالم العربي، إنما هو العالم العربي نفسه"، لكنه حذر من المبالغة المتشنجة في تسويد القومية وتغليبها على الوطنية خشية رد الفعل المضاد ما يخلق، كما يرى، نوعاً من الازدواجية والتضاد بين القومية والوطنية اللذين يؤكد كل منهما الآخر.

وأثبت في كتابه غير عابئ بالتيارات السائدة أن معظم سكان مصر اليوم من القبط مسلمين ومسيحيين، بينما الأجناس الوافدة على مر التاريخ لم تؤثر في الجنس المصري إلا بالنزر اليسير.

كانت سعادته في البحث العلمي لا يعدل بها أي شيء من متاع الدنيا، مؤثراً ثلاثين عاماً من العزلة، وكان لهزيمة حزيران عام 1967 أبلغ الأثر في طريقة تفكيره، حتى غدا بكامل إرادته زاهداً في كثير من الفرص والإغراءات المادية معتمداً على دخل بسيط من عائد حسابه البنكي؛ إذ قدم له محمد حسنين هيكل عرضاً مغرياً للكتابة في جريدة "الأهرام" فرفضه‏، كما رفض أكثر من منصب في غير بلد عربي. وكان مضرب المثل في الأنفة والكبرياء، حتى أنه خاصم أحمد بهاء الدين، عندما أثار قضية عدم صرف راتب التقاعد له لأسباب بيروقراطية تتعلق بمدة خدمته الجامعية.

وعلى الرغم من كل مشاغله العلمية، كان بحسه المرهف يجد وقتاً لممارسة هواياته في الخط والرسم وكتابة الشعر، وكان إلى ذلك متذوقاً للموسيقى والغناء من الطراز الأول.

رؤية استشرافية

كان جمال أبو حمدان ذا رؤية استشرافية بامتياز، فهو أول من أشار إلى تأثير البترول سياسياً وإستراتيجياً في كتابه "بترول العرب" 1964، كما تنبأ في كتابه "إستراتيجية الاستعمار والتحرير" عام 1968 بانهيار الاتحاد السوفيتي.

حصل حمدان على جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية عام 1986 لكنه رفض تسلمها، كما نال وسام الجمهورية من الطبقة الأولى عن كتابه "شخصية مصر" عام 1988، أما جائزة التقدم العلمي من الكويت عام 1992 وكانت قيمتها 12500 دينار كويتي، فقد وزعها على معارفه.

رحل إثر حريق بشقته في ظروف غامضة عام 1993 واكتشف المقربون اختفاء مسودات كتب كان بصدد إنهائها

رحل جمال حمدان إثر حريق بشقته في ظروف غامضة عام 1993؛ إذ اكتشف المقربون منه اختفاء مسودات ثلاثة كتب كان بصدد الانتهاء من تأليفها، أحدها عن اليهودية والصهيونية، ويقع في ألف صفحة، وكتاب العالم الإسلامي المعاصر، وهو توسع لكتاب أصدره عام 1965. أما الثالث، فكان عن علم الجغرافيا.

لقد زادت مثل آراء جمال حمدان السياسية من عزلة "فيلسوف عبقرية المكان"، وهذا قد يفسر أنّ واحداً من أهم العقول العربية في العصر الحديث، لم تجد جنازته وهي تعبر شوارع القاهرة التي طالما عشقها أكثر من ثلاثين شخصاً ليشيعها، وكأنها في وحدتها ماتزال تردد كلمات عتابه "إن ما تحتاجه مصر أساساً، إنما هو ثورة نفسية، بمعنى ثورة على نفسها أولاً، وعلى نفسيتها ثانياً؛ أي تغيير جذري في العقلية والمثل وأيديولوجية الحياة قبل أي تغيير حقيقي في حياتها وكيانها ومصيرها... ثورة في الشخصية المصرية وعلى الشخصية المصرية".


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية