
بينما تعاني ليبيا من انسداد سياسي خلال الأعوام الأخيرة منذ عام 2011، ذهب النائب بـ "المجلس الرئاسي" موسى الكوني إلى التأكيد على "ضرورة العمل بنظام الأقاليم الثلاثة، مع مجالس تشريعية مستقلة؛ لضمان تحقيق الاستقرار في مختلف مناطق البلاد".
ويبدو أنّ الانقسام الذي تعانيه ليبيا منذ أكثر من عقد قد أدى إلى تصاعد الحديث عن نظام الحكم الفيدرالي، ممّا يثير مخاوف عميقة من سيناريو التقسيم.
موسى الكوني يدعو إلى اعتماد نظام الأقاليم الثلاثة لضمان الاستقرار
في هذا السياق، قال موسى الكوني، خلال لقائه سفير المملكة المتحدة لدى ليبيا، مارتن لونغدن، مطلع الشهر الجاري: إنّ "العمل بنظام المحافظات بوصفه سلطة تنفيذية يضمن حصول جميع مكونات الشعب الليبي على حقوقهم، من خلال تسليم ميزانياتها لإدارة مشاريعها، وتقريب الخدمات من المواطنين في مناطقهم، حتى تتفرغ الدولة لممارسة دورها السيادي وتخفيف الضغط على العاصمة".
ويُعتبر النظام الفيدرالي، أو النظام شبه الفيدرالي الذي يضمن حكماً محلياً لأقاليم ليبيا الثلاثة (فزان، برقة، طرابلس)، مع تقاسم عادل للسلطة والثروة، "الآلية الوحيدة التي قد تقود إلى إنهاء الصراع سلمياً وتعزيز الوحدة الوطنية"، وفقاً للبعض.
هذا، وقد تناول اللقاء آخر مستجدات الأوضاع في ليبيا على مختلف الأصعدة، ولا سيّما الجهود التي تبذلها الأمم المتحدة من أجل إيجاد تسوية سياسية شاملة لمعالجة حالة الجمود السياسي الحالي. كما أكد الكوني استمرار دعم "المجلس الرئاسي" لجهود البعثة الأممية واللجنة الاستشارية المنبثقة عنها، من خلال تقديم مقترحات لحل القضايا الخلافية العالقة، بهدف الوصول إلى إجراء الاستحقاق الانتخابي.
الفيدرالية في مواجهة نظام المركزية
في هذا السياق، يشير الكاتب السياسي السنوسي إسماعيل إلى أنّ الحوار حول النظام الفيدرالي وإمكانية تطبيقه في ليبيا كان مطروحاً أكثر من مرّة، خاصة بعد أن أُلغي في عام 1963.
ويستطرد السنوسي إسماعيل الكاتب الليبي في حديثه لـ (حفريات) قائلاً: إنّ ليبيا تئن تحت وطأة النظام المركزي، وهو ـ في تقديره ـ نظام سيّئ للغاية، يؤدي إلى فساد كبير وينتج عنه غياب العدالة في توزيع الإيرادات على كافة مناطق ليبيا؛ وبالتالي يتسبب هذا النظام في تهميش العديد من المناطق، سواء في الشرق أو الغرب أو الجنوب، وإن كانت الأخيرة الأكثر ظلماً.
وبحسب المصدر ذاته، هناك تفكير حول كيفية معالجة هذا النظام، إمّا بالتوجه نحو شكل الدولة الفيدرالي، وإمّا باعتماد نظام لا مركزي موسع ونظام حكم محلي قائم على المحافظات والبلديات، بحيث يكون هناك توزيع عادل لإيرادات الدولة الليبية على جميع المناطق.
إنّ الطرح الذي قدمه السيد موسى الكوني في هذا التوقيت لم يكن مناسباً، سواء من حيث الزمن أو المناسبة، فقد تزامن مع لقاء جمعه بالسفير البريطاني. ونحن نعتقد جازمين أنّ مسألة شكل الدولة شأن ليبي خالص ينبغي أن يُناقَش بين الليبيين أنفسهم، ولا يجوز لأيّ مسؤول أو فاعل سياسي مناقشته مع قوى دولية أو إقليمية.
وبالتالي، نحن أمام فكرة قابلة للنقاش والتعديل والتطوير، بل حتى الرفض، شريطة أن يكون ذلك بين أبناء الوطن الواحد، بما يضمن تحقيق العدالة في تقديم الخدمات والتنمية المكانية في كافة أنحاء ليبيا، وفقاً للسنوسي.
الفيدرالية ومخاطر النفوذ الخارجي
يلفت السنوسي إسماعيل إلى أنّ هذه الأمور لا تجري بمعزل عن التدخلات الدولية، وربما ترى بعض الدول مصلحتها في وجود نظام فيدرالي، لأنّه ـ من وجهة نظرها ـ قد يسهل لها الحصول على مناطق نفوذ في ليبيا. وفي الوقت ذاته هناك ضغط حقيقي وملحّ لمعالجة هذا الانسداد عبر تغيير شامل للنظام المركزي الذي يسبب توتراً كبيراً وظلماً عميقاً بين المناطق.
ويختتم السياسي الليبي السنوسي إسماعيل حديثه لـ (حفريات ) قائلاً: أعتقد أنّ السيد الكوني لم يوفق في طرح هذه الفكرة، ليس فقط من حيث الزمان والمكان، وإنّما أيضاً لمحاولته فرض رؤية فوقية من المجلس الرئاسي على الليبيين، وهو ما لا يؤدي إلى حل سياسي معمق يأخذ في الاعتبار كل الأفكار المطروحة لبناء الدولة الليبية.
دعوة موسى الكوني وبراغماتية الإخوان
علّق العضو السابق في المؤتمر الوطني العام، محمد مرغم، المنتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين، على دعوة نائب رئيس المجلس الرئاسي، موسى الكوني، لاعتماد نظام الأقاليم الثلاثة في ليبيا، واصفاً إيّاها بأنّها "مثيرة للجدل" وصادرة عن سلطات "مشكوك في شرعيتها".
وخلال حوار خاص على قناة (التناصح)، التابعة للمفتي المعزول الصادق الغرياني، أكد مرغم أنّ النظام الفيدرالي يتطلب عوامل تجاذب بين أجزاء الدولة، مشيراً إلى أنّ الأصوات الداعية للفيدرالية في ليبيا "ضعيفة" و"شاذة" في المجتمع الليبي، سواء في الشرق أو الغرب.
وأشار إلى أنّ دعاة الفيدرالية يمثلون "أقليّة"، ولم يكن لهم تأثير كبير، خاصة في ظل المعارضة القوية لهذه الفكرة من قبل سكان شرق ليبيا.
كما انتقد مرغم السلطات الحالية لعدم تنفيذها أهم بنود الاتفاق السياسي، وهو الاستفتاء على الدستور، متسائلاً: "مشروع الدستور صاغته هيئة منتخبة، وأعلى سلطة هي الشعب الليبي، لماذا تتجاهلون هذه السلطة العليا وتبحثون عن حلول أخرى مثل الفيدرالية؟"
وأضاف أنّ المجلس الرئاسي، رغم ضبابية صلاحياته، تمكن من اتخاذ قرارات كبرى، مثل تعيين محافظ مصرف ليبيا المركزي، لكنّه لم يتحرك لإحالة مشروع الدستور للاستفتاء، معتبراً ذلك "جريمة" تضعف احترام القانون والدستور.
مرغم: البعثة الأممية هي الحاكم الفعلي في ليبيا منذ اتفاق الصخيرات
واتّهم مرغم البعثة الأممية بأنّها "الحاكم الفعلي" في ليبيا منذ توقيع اتفاق الصخيرات، مشيراً إلى أنّ المبعوثين الأمميين تجاهلوا تماماً موضوع الاستفتاء على الدستور، وركزوا على مبادرات سياسية غير مجدية، على حدّ تعبيره.
وفيما يتعلق بمصير دعوة الكوني، توقع مرغم أن "تمضي كما مضت كل المبادرات السابقة"، مؤكداً أنّ الحل الحقيقي يكمن في التخلص من "العقبة الأساسية"، والمتمثلة ـ بحسب وصفه ـ في وجود القائد العام للقوات المسلحة المشير خليفة حفتر، الذي اتهمه بالسيطرة على جزء كبير من ثروات ليبيا والسعي للهيمنة على البلاد.
واختتم حديثه بالدعوة إلى إعلان المشير حفتر "متمرداً"، ومعاملته كما تم التعامل مع قائد قوات الدعم السريع السودانية، محمد حمدان دقلو (حميدتي)، معتبراً أنّ الوضع العسكري يظل العامل الحاسم في فرض أيّ حل سياسي في ليبيا.
من جانبه، لفت المستشار السياسي إبراهيم لاصيفر إلى أنّ نظام الأقاليم الثلاثة، الذي طُبّق في ليبيا عقب الاستقلال، لم يعد قابلاً للتطبيق في الظروف الراهنة، معتبراً أنّ الحديث عن الفيدرالية يجب أن يكون بيد الشعب الليبي عبر استفتاء عام، وليس من اختصاص أيّ فرد بعينه، بمن فيهم موسى الكوني.
إبراهيم لاصيفر: الفيدرالية ليست حلاً سحرياً... والشعب الليبي صاحب القرار
وتابع لاصيفر تصريحاته لـ (حفريات) قائلاً: إنّ أعضاء المجلس الرئاسي لا يسعون إلى حل الأزمة في ليبيا، بل يطلقون تصريحات سياسية في الهواء دون أيّ مسار واضح لحل ناجز للأزمة السياسية في البلاد.
وأكد لاصيفر أنّ ليبيا عاشت فترة من الاستقرار والرخاء خلال حكم الملك إدريس السنوسي تحت مظلة النظام الفيدرالي، لكنّ ذلك لا يعني أنّ الظروف التي كانت سائدة آنذاك تتوافق مع الوضع الحالي، حيث تعاني ليبيا من انقسامات اقتصادية ومالية وسياسية وأمنية، فضلاً عن غياب دستور ينظم الحياة السياسية، ممّا يعني أنّ هذا الحل قد لا يكون ملائماً بصورة كليّة مع الوضع الراهن في ليبيا.
وأوضح المصدر ذاته أنّ النظام الفيدرالي، الذي انتهى العمل به في 26 نيسان (أبريل) 1963، له إيجابيات وسلبيات كغيره من أنظمة الحكم. لكنّه شدد على أنّ إعادة العمل بهذا النظام يجب أن يكون قراراً وطنياً خالصاً، وليس قراراً فردياً، مؤكداً أنّه "ليس من حق موسى الكوني الحديث عن العمل بنظام الأقاليم الثلاثة، إذ لم يُعرض الأمر على استفتاء عام".
الانقسامات السياسية تعرقل الحلول... والفوضى تستفيد منها الأطراف الحاكمة
وأشار إبراهيم لاصيفر إلى أنّ موسى الكوني وغيره من المسؤولين الليبيين يشعرون بالخوف بعد تشكيل اللجنة الاستشارية التابعة لبعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، معتبراً أنّ الخوف الحقيقي ليس من اللجنة ذاتها، بل من تحركات الأمم المتحدة التي بدأت بتنفيذ خطتها عبر تشكيل اللجنة الاستشارية، ثم تعيين المبعوثة الأممية الجديدة، حنا تيته.
وبيّن أنّ المسؤولين في الشرق والغرب باتوا يكثرون من التصريحات والمبادرات، فيما قام قائد قوات الشرق خليفة حفتر بزيارة بيلاروسيا وفرنسا، بينما توجه رئيس حكومة الوحدة عبد الحميد الدبيبة إلى الدوحة، في إطار محاولات للحفاظ على مواقعهم وإطالة بقائهم في السلطة.
إلى ذلك، وبحسب الباحث الليبي إبراهيم لاصيفر، هناك ضرورة للتوصل إلى صفقة سياسية بين الأطراف الليبية قبل الحديث عن الفيدرالية، مشدداً على أنّ الشعب الليبي هو الجهة الوحيدة المخولة باختيار نظام الحكم.
ويختتم لاصيفر حديثه لـ (حفريات) بالتأكيد على أنّ الطبقة الحاكمة في ليبيا تعمل، بشكل أو بآخر، على إبقاء الأزمة قائمة دون حلول حقيقية، حيث تتحدث بخلاف ما تفعل، ممّا جعل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية تستفيد من استمرار الانقسام والفوضى، مشيراً إلى أنّ ليبيا لا تواجه أزمة في شكل الحكم، بل في إدارة البلاد نفسها، وهو ما يقرره الشعب وليس الأفراد.