يتشابه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وزعيم ائتلاف دولة القانون، رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي، في آلية توظيف المشاعر الدينية لصالح مشاريعهما السياسية. هذا التشابه ليس محض مصادفة، وإنّما هو يجمع أغلب الشخصيات التي تنتمي لإيديولوجيات مغلقة، وتؤمن بنظرية المؤامرة، ممّا يجعلها تستثمر في كلّ شيء، وأولى استثماراتها في العاطفة الدينية.
تُعدّ العاطفة الدينية الوعاء الذي ينهل منه الجميع، ومنه يكون إسباغ الشرعية الأخلاقية على الفرد بشكلٍ عام، لأنّ الجمهور المتدين يمنح اعترافاً عالياً (إن لم تكن قداسة) للشخصيات التي تسيطر على مكامن مشاعره وعواطفه وضميره الديني، وهذا ما جعل أغلب المراجع الدينيين في نظر أتباعهم مقدّسين، لأنّ النظر إليهم من قبل أولئك الأتباع يكون من زاوية العواطف الانفعالية التي تمنحهم أوصافاً فوق ما يستحقون. ويأتي في المرتبة الثانية قادة الحركات السياسية التي ترتبط عقائدياً بتلك الطوائف، الذين يحاولون أن يصلوا إلى مراتب أدنى بقليل من المراجع "المقدّسين"، لأنّهم يعرفون أنّ عملية التنافس على المرتبة "القدسية" الأولى في ضمير الاجتماع الديني عملية خاسرة، لذا يكتفون بالمرتبة الثانية، طالما أنّها تؤمن لهم المكاسب السياسية التي يجنونها من رضا العامة، الذي يُترجم عبر صناديق الاقتراع في كل موسم انتخابي.
لم يستفد سياسي إسلامي في المنطقة من التعبئة الدينية لصالح مكاسبه الإيديولوجية والسلطوية مثلما استفاد زعيم (حزب العدالة والتنمية) التركي رجب طيب أردوغان، وزعيم (حزب الدعوة الإسلامية) العراقي نوري المالكي، وعلى الرغم من توظيف الدين من قبل الأحزاب الإسلامية كافة في المنطقة، إلّا أنّ خدمة الدين لهذين الشخصين كانت خدمة استثنائية، لأنّ كلّاً منهما تبوّأ أعلى وأهمّ المناصب في بلاده: أردوغان رئيساً لجمهورية تركيا لأكثر من دورة رئاسية، والمالكي رئيساً للحكومة العراقية لدورتين، وما زال أبرز الزعماء السياسيين الذين يحددون بوصلة الحكم في العراق.
الخطاب الأردوغاني
يوظف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أغلب الأحداث التي تتعرّض فيها المشاعر الدينية إلى الخدش من قبل الآخر المختلف عقائدياً عنه في الدين أو السياسية، فهو لا يدخر جهداً في تكثيف خطابه وحضوره الإعلامييّن، حينما يتعرّض القرآن الكريم أو الرموز الإسلامية إلى الإساءة في دول الغرب، وتوظيف ذلك لصالحه، بوصفه زعيماً إسلامياً يرد الإساءة التي طالت مشاعر المسلمين، لذا يستخدم أقسى العبارات التي تأخذ مداها التسويقي في وسائل الإعلام، فهو يصف الغربيين بـ "المتغطرسين" حينما سمحوا لأحد اللاجئين بحرق نسخة من المصحف الشريف، واتهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بـ "قلة الأدب وعدم الاحترام"، حينما طالب الأخير بضرورة النظر في المنظومة الفكرية الإسلامية، كما يحاول أن يستثمر خطاباته في المنصات الأوروبية في اتهام الغرب في قيادة "حملة الكراهية ضد الإسلام".
وليس هذا بجديد على زعيم (حزب العدالة والتنمية) التركي، فهو منذ لحظة صعوده السياسي في تسعينيات القرن الماضي كان يهاجم خصومه السياسيين من العلمانيين، وقيامهم بمنع الفتيات من ارتداء الحجاب في المؤسسات، ومرافق الدولة التركية، ومثل هذا القرار يُعدّ غنيمة سياسية لأردوغان، بعدما استقطب المشاعر الدينية الغاضبة من ذلك الأمر لصالحه، وعدّه المدافع عن قيم وتعاليم الدين الحنيف.
المالكي في خطٍ مواز
خرج زعيم (حزب الدعوة الإسلامية) نوري المالكي من رحم أكبر ائتلاف سياسي طائفي في العراق، وهو (الائتلاف العراقي الموحد) الذي ضم كل القوى الدينية الشيعية في جبهة واحدة في النظام السياسي الذي جاء بعد سقوط نظام صدام حسين في نيسان (أبريل) 2003. لمع نجم المالكي حينما تولى رئاسة الوزراء بوصفه بديلاً عن سلفه المرفوض لولاية ثانية، رئيس الوزراء السابق إبراهيم الجعفري، وقد تمكن رئيس الوزراء الجديد من كسب ودّ الشارع المحلي بمختلف طوائفه حينما أعلن خروجه من ذلك الائتلاف الطائفي، وضرورة تكوين دولة قانون قائمة على المؤسسات ومعيار المواطنة.
يستخدم أردوغان أقسى العبارات التي تأخذ مداها التسويقي في وسائل الإعلام، فهو يصف الغربيين بـ "المتغطرسين" حينما سمحوا لأحد اللاجئين بحرق نسخة من المصحف الشريف، واتهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بـ "قلة الأدب وعدم الاحترام"
الشعارات المدنية للإسلامي الشيعي لا تأخذ طريقها إلى التطبيق حالما يصل صاحبها إلى المنصب، علماً أنّ المالكي رفع شعار "دولة القانون" وسمّى ائتلافه السياسي الجديد حينذاك بذلك الاسم، لكنّه لا يتوانى عن إطلاق يد الميليشيات "الصديقة" حينما يشعر بأنّ سلطته تتعرّض للخطر أو القضم من قبل المنافسين.
شخصُ نوري المالكي شديد التكوين القبلي والعقائدي معاً، وهو ما جعله يفتقد إلى المرونة، وخطابه السياسي يفتقر إلى الحضور في الأوساط المدنية المختلطة، لذا المناطق القبلية ذات المنحى العقائدي الواحد، هي فقط من تجد في خطابه أنّه يلبي حاجاتها على الصعيد السياسي والحضور في البرلمان. خطاب المالكي في الغالب لا تنقصه المفردات الجارحة، والاتهامات، والمؤامرات، وتحميل المسؤولية للآخر، بينما ينقصه التوازن والاعتدال اللذان سادا لفترة وجيزة بعدما دخل في صراع مع ميليشيا "جيش المهدي" إبّان رئاسته الأولى للحكومة العراقية.
يستثمر زعيم (ائتلاف دولة القانون) في أكثر من مناسبة دينية، ويعمل على تجييش العواطف المذهبية، لا سيّما في مناسبات محرّم الحرام، حينما يصف المنافسين له بـ"أتباع معاوية"، وأنّه ومن معه كـ "أصحاب الحسين"، وكان آخر ما استفز به الجمهور العام عندما خرج في إحدى المناسبات الشيعية، وسبّ رموزاً سنّية على شاكلة "عمرو بن العاص"، وهو ما جعله منفرداً عن خطابات الزعامات الشيعية في أكثر من مناسبة عقائدية.
على الرغم من توظيف الدين من قبل الأحزاب الإسلامية كافة في المنطقة، إلا أنّ خدمة الدين لأردوغان والمالكي كانت خدمة استثنائية، لأنّ كلّاً منهما تبوّأ أعلى وأهمّ المناصب في بلاده
في أكثر من موطن وحادثة، تجد ثمّة قرابة فكرية في الخطاب السياسي لكلٍّ من زعيم (حزب العدالة والتنمية) رجب طيب أردوغان، وزعيم (حزب الدعوة الإسلامية) نوري المالكي، علماً أنّهما ينبعان من ثقافة الإسلام السياسي التي تخوّن الآخر، وتستثمر في المقدّس أيّما استثمار.
مواضيع ذات صلة:
- زيارة أردوغان المرتقبة إلى ليبيا بين تطلعات التوسع وحتمية تسوية الأزمة
- أردوغان وحكومته يحاولون محاصرة "سوق الجنسية"... ما علاقة الإخوان المسلمين؟