
منذ سقوط نظام بن علي، تحوّلت مؤسسات الدولة التونسية إلى ساحة تجاذب سياسي حاد، خاصة مع صعود حركة النهضة ذات التوجه الإخواني إلى الحكم، حيث استغلت الحركة المناخ الانتقالي لتثبيت نفوذها عبر موجات تعيينات مسيّسة، شملت مفاصل حساسة في الإدارة والأمن والقضاء.
تلك التعيينات لم تكن عشوائية، بل خضعت لمنطق الولاء التنظيمي والسيطرة التدريجية على أجهزة الدولة، ومع مع مرور الوقت، أنتج ذلك بنية إدارية موازية تُدين بالولاء للنهضة، وتعرقل مسارات الإصلاح وتكريس الحوكمة الرشيدة، ما أدى إلى تآكل ثقة الشارع في مؤسسات الحكم.
ومنذ سقوط حركة النهضة في 2021، تحاول السلطات التونسية تفكيك هذا الإرث دون السقوط في فخ الانتقام أو تصفية الحسابات، خصوصا أن عملية التطهير تُطرح كاستحقاق وطني ضروري لاستعادة الدولة من قبضة التمكين الإخواني، فإلى أين وصلت هذه الجهود؟
تونس تسابق الزمن لتطهير مؤسسات الدولة
والجمعة، عقدت لجنة تنظيم الإدارة ومكافحة الفساد بالبرلمان التونسي جلسة استماع إلى ممثلين عن رئاسة الحكومة خصصت لمتابعة التدقيق الشامل في عمليات تعيين وتوظيف عناصر إخوانية في مؤسسات الدولة.
وبحسب بيان نشره البرلمان عبر موقعه الرسمي، أوضح ممثلو رئاسة الحكومة أن هذا الإجراء يندرج في إطار تفعيل أحكام دستور 25 تموز / يوليو 2022، لا سيما الفصلين 19 و46.
وأضاف البيان أن الإجراء "يهدف إلى تعزيز مبادئ الشفافية والحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد، خاصة فيما يتعلق بإدارة الموارد البشرية".
وأكد ممثلو رئاسة الحكومة أن عمليات التدقيق شملت هياكل الدولة كافة، من وزارات ومؤسسات حكومية وبنوك ذات مساهمة عمومية ومجلس نواب الشعب.
وجرت العمليات بإشراف لجنة قيادة يترأسها رئيس الحكومة، وتضم 26 لجنة تدقيق بمشاركة 436 متفقدًا ومراقبًا من مختلف أجهزة الرقابة، وفق البيان ذاته.
وجرى التطرق إلى أبرز الإخلالات التي تم رصدها، ومنها ما تعلق بإجراءات التعيينات وشروطها، بالإضافة إلى وجود شهادات علمية غير مطابقة أو مدلسة(مزورة).
وتم التأكيد على أن بعض الملفات تعذر استكمال دراستها بسبب نقص الوثائق، مما استوجب تمديد الآجال القانونية الممنوحة للجان التدقيق.
وجود العناصر الإخوانية داخل المؤسسات يشكل خطورة كبيرة حيث تعمل على تعزيز أجندات خاصة بدلاً من المصالح الوطنية وخلق توترات داخل المؤسسات التونسية
من جهتها، أكدت لجنة البرلمان أهمية هذا المسار الرقابي، مشددة على ضرورة استكماله في أقرب الآجال لتطهير المؤسسات الحكومية من الانتدابات غير القانونية.
واقترحت لجنة البرلمان توسيع فترة التدقيق، كما طالبت بإحصائيات مفصلة حول الملفات التي شابتها خروقات وإحالتها على القضاء طبقًا للفصل 7 من الأمر الحكومي عدد 591.
حجم التعيينات وتأثيرها على مؤسسات الدولة
وقد تسببت هذه التعيينات في إغراق مؤسسات الدولة بمئات الآلاف من الموظفين، الذين تم توظيفهم ليس وفق الكفاءة، بل بناءً على الولاءات الحزبية، الأمر الذي أدى إلى تفخيخ دوائر القرار بمنتسبي الجماعة وأنصارها. هذه الخطوة الممنهجة كانت تهدف إلى ضمان وجود دائم للإخوان داخل مفاصل الدولة والسيطرة على أجهزة الحكم.
وأظهرت التقارير الرسمية أن أكثر من 432 ألف توظيف تمت خلال هذه الفترة، ضمنها حالات عديدة تزوير لشهادات علمية وعدم مطابقة شروط التوظيف. وقد تفاقم الأمر بسبب غياب الرقابة الفعالة، الأمر الذي أضعف من كفاءة المؤسسات وأرهق خزينة الدولة بأعباء مالية إضافية.
بداية التدقيق الحكومي: خطوة نحو استعادة الدولة
يُذكر أنه في أيلول / سبتمبر 2023، أطلقت الحكومة التونسية عملية تدقيق شاملة لجميع التعيينات التي تمت خلال الفترة من 14 كانون الثاني / يناير 2011 إلى 25 تموز / يوليو 2021، بهدف مراجعة ملفات الموظفين وتحديد التعيينات غير القانونية أو تلك التي تمت عبر تزوير وثائق. وتشرف على هذا التدقيق لجنة قيادة برئاسة رئيس الحكومة، تضم 26 لجنة فرعية و436 متفقدًا ومراقبًا من مختلف أجهزة الرقابة.
وقد شملت عملية التدقيق كافة هياكل الدولة، من وزارات ومؤسسات حكومية وبنوك ذات مساهمة عمومية ومجلس نواب الشعب. ويهدف هذا الإجراء إلى تعزيز الشفافية والحوكمة الرشيدة، وفقًا لأحكام دستور 25 يوليو 2022، لا سيما الفصلين 19 و46، مع التركيز على مكافحة الفساد في إدارة الموارد البشرية.
أبرز المخالفات التي تم رصدها
وأثناء عمليات التدقيق، انتبهت الللجان إلى العديد من الإخلالات، أبرزها إجراءات تعيين غير قانونية، توظيف بناء على الولاءات الحزبية، وشهادات علمية مزورة أو غير مطابقة للمعايير المطلوبة. كما واجهت اللجان صعوبات في استكمال دراسة بعض الملفات بسبب نقص الوثائق، مما استوجب تمديد الآجال القانونية الممنوحة للجان التدقيق.
إضافة إلى ذلك، كشف التدقيق عن تعيينات تمت في مناصب حساسة بمؤسسات الدولة لم تكن على أسس الكفاءة، بل لضمان تمكين سياسي لجماعة الإخوان، وهو ما شكل خطورة على استقلالية الدولة وسيرها الطبيعي.
محاولات التمكين الإخوانية
ومنذ 2011، عمدت حركة النهضة، الجناح السياسي لجماعة الإخوان، إلى إغراق الوظائف الحكومية بأنصارها وأنصار الولاء الحزبي، مستغلة التغييرات السياسية التي شهدتها تونس. هذه السياسة لم تكن عشوائية، بل خطوة مدروسة لتعزيز وجودها في مفاصل الدولة وتحقيق السيطرة على القرار السياسي والإداري.
وخلق توظيف أعداد كبيرة من المنتسبين للجماعة في مختلف الوزارات والدوائر الحكومية شبكة نفوذ متشعبة، أثرت بشكل مباشر على أداء مؤسسات الدولة. كما أن الإخوان استغلوا وجودهم في الإدارة لتعطيل الإجراءات وضمان ولاء الموظفين لهم، وهو ما يفسر المعاناة المستمرة في إحداث إصلاحات فعالة.
هذه الخطوة الممنهجة كانت تهدف إلى ضمان وجود دائم للإخوان داخل مفاصل الدولة والسيطرة على أجهزة الحكم
في السياق، يرى المحلل السياسي عبد المجيد العدواني، في تصريح لموقع "العين الإخبارية"، أن نتائج التدقيق ستغلق الباب نهائيًا أمام التعيينات على أساس الولاءات الحزبية، موضحًا أن الدولة ستتمكن من تعويض هؤلاء المنتسبين بكفاءات وطنية حقيقية، خصوصًا من العاطلين عن العمل.
كما شدد على أن الرئيس قيس سعيد حريص على استكمال هذا الملف لقطع الطريق على تسلل المنتسبين لجماعة الإخوان إلى الإدارة لتحقيق مكاسب سياسية.
من جهته، أشار خبير في الشأن الإداري إلى أن حركة النهضة أغرقت الوظائف الحكومية بأفراد من جماعتها وأنصارها، مما أثقل ميزانية الدولة وأضعف المؤسسات، داعيًا إلى ضرورة استمرار عمليات التدقيق والرقابة لمنع تكرار مثل هذه الظاهرة.
الأستاذ في كلية العلوم القانونية والاقتصادية والتصرف بالجامعة التونسية، سلمى السعيدي أشارت إلى أن الحكومة التونسية تقوم بإعادة هيكلة بعض المؤسسات لضمان سيادة القانون وتعزيز الشفافية، بما في ذلك إعادة توزيع المهام والمسؤوليات لتقليل تأثير أي عناصر موالية لجماعة «الإخوان»، وتفعيل القوانين التي تحظر تدخل الجماعات السياسية أو الدينية في عمل المؤسسات الحكومية، مع فرض عقوبات صارمة على من يخالف هذه القواعد.
وترى، في تصريح لصحيفة "الاتحاد"، أن وجود العناصر الإخوانية داخل المؤسسات يشكل خطورة كبيرة، حيث تعمل على تعزيز أجندات خاصة بدلاً من المصالح الوطنية، وخلق توترات داخل المؤسسات التونسية بشكل يؤثر على استقرارها وفعاليتها في تقديم الخدمات العامة، ما يقوض ثقة الجماهير فيها، خاصة إذا تم ربط هذه العناصر بالفساد أو سوء الإدارة.