تناقضات داخل الحركة الإسلامية في تونس

تناقضات داخل الحركة الإسلامية في تونس

تناقضات داخل الحركة الإسلامية في تونس


04/09/2023

أحمد نظيف

فصل جديد من التناقض الداخلي في صفوف حركة النهضة. محوره هذه المرة الموقف من سلطة الأمر الواقع، التي يمثلها الرئيس قيس سعيد. قبل يومين كشفت الصحافية التونسية شهرزاد عكاشة عن وجود صراع بين جناحين داخل الحركة: الأول تمثله الحمائم بقيادة رئيس الحركة الموقت، منذر الونيسي، وهو جناح يريد الوصول إلى تسوية مع السلطة. والثاني جناح الصقور الرافض جذرياً لسلطة سعيد، وتمثله قيادات تاريخية بينها عبد الكريم الهاروني. وضمن السردية نفسها قالت وسائل إعلام محلية إن السلطات وضعت الهاروني تحت الإقامة الجبرية، استباقاً لمؤتمر حركة النهضة، المتوقع أن يعقد خريف هذا العام. ينفي منذر الونيسي هذه المعلومات، التي لا يمكن بأي حال التأكد منها. غير أن هذا التناقض، الذي محوره السلطة ليس جديداً على حركة النهضة على مدى أكثر من خمسة عقود من وجودها التنظيمي.

دائماً ما شكلت الدولة أو السلطة محور التناقض الأساسي داخل الحركة الإسلامية التونسية. إلى جانب محاور ثانية كالتمايز الجهوي والطبقي والفكري بين المستويات المختلفة المكونة لهيكلها وجسدها التنظيمي والإيديولوجي. قبل ثلاثة عقود دخلت الحركة في معركتها الأشد شراسة مع نظام زين العابدين بن علي، وانقسمت حينذاك إلى جناحين، دون أن تنقسم كتنظيم. جناح الحمائم نفسه الذي يريد إيجاد تسوية مع النظام، لمنع تفكيك الحركة وتجاوز العاصفة بانحناءة سياسية وكان يمثله في ذلك الوقت نائب الرئيس، الشيخ عبد الفتاح مورو ونور الدين البحيري والفاضل بلدي، وكلهم أعلنوا عن تجميد عضويتهم بعد أحداث العنف التي تورطت فيها الحركة. في مقابل جناح الصقور، الذي يريد خوض المعركة إلى أقصاها وكان يمثله رئيسها راشد الغنوشي وعدد من قيادات الصف الأول مثل عليّ العريض وحمادي الجبالي. ويعلم الجميع المآلات الكارثية التي انتهت إليها المعركة من سجن آلاف الشباب وتهجير الآلاف الأخرين نحو عقدين من الزمن.

لكن صراع التسعينات، وإن كان محوره الرئيسي الموقف من السلطة، إلا أن السلطة لم تكن الطرف الفاعل فيه. أما اليوم، وإن صحّ خبر وضع القيادي عبد الكريم الهاروني تحت الإقامة الجبرية لمنعه من أن يكون حاضراً في المؤتمر العام للحركة، فإن السلطة تبدو فاعلةً فيه، بوصفها تنصر جناحاً على آخر. حيث ترى في ترجيح كفة الحمائم مصلحةً لها في تجميد فاعلية أكبر طرف معارض في البلاد، ومن خلال ذلك تجمد ضمنياً دور جبهة الخلاص الوطني. فهي عبر ذلك تحقق مصلحتين، الأولى تحييد حركة النهضة عن المعارضة السياسية والثانية عدم الوقوع في أخطاء نظام بن عليّ، حيث شكلت سياسة القمع أرضية خصبة لإعادة بناء الحركة لسردية المظلومية، وكذلك خلفت سجلاً أسود من حقوق الإنسان المهدورة سجناً وتعذيباً وتهجيراً. حيث يحتاج النظام السياسي في تونس اليوم صورةً "حقوقية" أمام حلفائه الغربيين، لاسيما في الاتحاد الأوروبي.

لو فرضنا جدلاً صحة كل المعلومات التي كشفتها وسائل الإعلام المحلية حول طبيعة التناقض الجديد داخل حركة النهضة، فإن اللافت حقاً هو النهج الجديد الذي تتبعه السلطة في تونس في التعامل مع الحركة الإسلامية، حيث لم تعد تعتبرها شراً مطلقاً يجب التخلص منه بجميع أجنحته، بل جسم يمكن   تحييد أطرافه الجذرية مع المحافظة على هيكله المطيع. وهي سياسة جزائرية راسخة اعتمدها جنرالات التسعينات في الجزائر لتفكيك فاعلية الأحزاب الإسلامية ويبدو أنها قد نجحت إلى حد بعيد في تحييد هذه الأحزاب وفي إبطال سحر خطاب المظلومية، من خلال جر هؤلاء إلى معسكر السلطة وبالتالي تحويلهم إلى شركاء فيها دون أن يكونوا حقاً شركاء. وفي هذا السياق، لفت نظري موقف الشيخ هادي بريد، أحد القيادات التاريخية لحركة النهضة معلقاً حول تسريبات الصحافة بخصوص الصراع الداخلي في صفوف الحركة حيث يقول: "الانقلاب مصمّم على استئصالها. ولكن بطريقة جديدة تختلف كثيراً عن مرحلتي بورقيبة وبن علي. يبدو أنّها طريقة تعتمد شقّ الصفّ داخلياً بوسائل كثيرة. اكتسبت (النهضة) تقاليد عريقة في مقاومة الاستئصال التّقليديّ: سجناً وتشريداً وتجويعًا. ولكنّها في وجه تجربة استئصالية جديدة". يدرك الإسلاميون جيداً أن مخاطر التفكك الداخلي أشد فتكاً من الهجمة الخارجية، وأن القلاع الحصينة لا تسقط إلا من الداخل، ورغم ذلك تبدو أوراق اللعب بين أكفهم قليلة جداً. حيث يسيطر الجناح – المتهم بالتقرب من السلطة دون تأكيد حتى الآن – على المفاصل التنظيمية للحركة من خلال القيادة المؤقتة التي وصلت لمنذر الونيسي في نيسان (أبريل) الماضي بعد اعتقال راشد الغنوشي.

في المقابل، يبدو من المبالغة القول إن الونيسي قريب أو بعيد عن السلطة، ذلك أنه لم يأت إلى القيادة المؤقتة من فراغ، بل دفع به راشد الغنوشي شخصياً إلى ذلك الموقع. فمنذ أكثر من عام تداول المكتب التنفيذي للحركة برئاسة الغنوشي نفسه في إمكانية استهدافه بالسجن، ورتّب الوضع القيادي في حالة الشغور الوقتي في رئاسة الحركة بتعيينيه خلفاً له في قيادة الحزب، وهو ما أقره فيما بعد مجلس الشورى للحركة، وفقاً لتصريحات الونيسي نفسه. لذلك فإن مسألة التقارب مع السلطة أو البحث عن تسوية ما، يمكن أن تكون فكرة الغنوشي أو التيار الرئيسي داخل الحركة، بعد دروس التسعينات القاسية. وربما كان لهذه الفكرة معارضة أقلية. فمنذ اللحظة الأولى لانقلاب الرئيس سعيد لم تكن مواقف الغنوشي واضحة بشأن الموقف النهائي من السلطة، على خلاف قادة آخرين في الحركة أكثر جذريةً. كانت مواقف الغنوشي متأرجحةً. في البداية وصف إجراءات الرئيس بالانقلاب على الديموقراطية وبعد أيام قال إنها "مرحلة من مراحل الانتقال الديموقراطي" ثم وصل إلى قناعة جديدة بعد أيام قليلة مفادها أن تحرك الرئيس التونسي ليلة 25 تموز (يوليو) لم يكن إلا "كسراً للحلقة المغلقة التي عاشتها البلاد منذ شهور هدفها البحث عن حلول".

هذه الليونة السياسية التي يصفها خصوم الإسلاميين بازدواجية المواقف والنفعية، هي التي جعلت هذه الجماعة تبقى مستمرة في العمل بعد نحو تسعة عقود من تأسيسها، إذ دأبت على ممارسة نوع من التحول والتكيف مع السياقات والساحات بشكل شديد الليونة لا يجعلها تفنى تماماً، بل تتغير من شكل إلى شكل آخر أو من سلوك إلى سلوك مغاير. لكنها – أي الليونة – في الوقت نفسه شكلت نقطة الضعف الأكبر في تاريخ النهضة وبقية الطيف الإخواني، ذلك أن ما يسميه الإخوان بــ "البراغماتية الشرعية" حولت هذه الجماعة إلى حالة من السيولة والهشاشة والسطحية، التي تجلت بوضوح خلال سنوات حكمها الكارثية على جميع المستويات.

عن "النهار" العربي




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية