
في خطوة تعكس تصاعد القلق داخل دوائر صنع القرار الفرنسي، كشفت تقارير استخباراتية أعدّتها وزارة الداخلية عن تنامي نفوذ جماعة الإخوان المسلمين داخل فرنسا بشكل منهجي ومتصاعد. التقرير، الذي ظل سرّياً طوال الأشهر الماضية ويجري حالياً العمل على رفع السرّية عنه، يُعتبر أوّل وثيقة رسمية ترصد بصورة دقيقة وموسعة أنشطة الجماعة، مشيراً إلى ما وصفه بـ "اختراق منظم للمجتمع الفرنسي عبر قنوات خفية ومتعددة"، ممّا دفع السلطات إلى إعادة النظر في طريقة تعاملها مع التنظيمات الدينية ذات الطابع السياسي، وفق صحيفة (عكاظ).
شبكات مموّهة وهدف إيديولوجي واضح
بحسب ما نشرته صحيفة (لو بوينت) الفرنسية، فإنّ التقرير لا يكتفي بوصف طبيعة أنشطة الإخوان، بل يكشف عن آليات دقيقة تُستخدم لتوسيع دائرة التأثير داخل المجتمع عبر واجهات تبدو قانونية، كالجمعيات الثقافية والرياضية، والمدارس الخاصة، والمراكز التعليمية والدينية. ويتبنّى التقرير وجهة نظر ترى أنّ الجماعة لا تسعى للاندماج بقدر ما تهدف إلى "إعادة تشكيل المجتمع الفرنسي وفق منظومة دينية تتعارض مع مبادئ الجمهورية"، وهو ما تعتبره الدولة تهديداً لقيمها العلمانية ووحدة نسيجها الوطني.
الأنشطة المشار إليها تتسم بدرجة عالية من التنظيم والتخفي، وتُدار من قبل أفراد تلقّوا تدريباً على الخطاب المزدوج: خطاب معتدل موجّه للرأي العام، وآخر إيديولوجي موجّه لدوائر مغلقة من المتابعين والناشطين. وتركّز الجماعة، بحسب التقرير، على استقطاب الشباب في الضواحي الكبرى التي تعاني من مشكلات التهميش وضعف الخدمات، مثل باريس الكبرى، وليون، ومرسيليا.
حالات موثقة وقرارات حاسمة
ضمن الأمثلة التي أوردها التقرير، تبرز قضيّتا مدرستي "أفيروس" و"الكندي" قرب مدينة ليون، فقد قررت السلطات إنهاء التعاقد مع المؤسستين بعد الاشتباه في ترويج أنشطة ومناهج ذات توجهات انفصالية تتقاطع مع أدبيات الإخوان. ولفت التقرير إلى التحقيقات الجارية بشأن معهد إعداد الأئمة في مدينة نيفير، على خلفية معلومات تتعلق بتمويل خارجي غير شفاف وارتباط محتمل بشبكات إخوانية عابرة للحدود.
وما يزيد من خطورة الوضع، وفق التقرير، هو أنّ ما يقارب (100) ألف مُصلٍّ يترددون على مساجد ومراكز دينية يُعتقد أنّها خاضعة بشكل أو بآخر لتأثير الجماعة، ممّا يفتح المجال أمام تعزيز خطاب ديني يتعارض مع النموذج الجمهوري الفرنسي، ويُمهّد لتأثير طويل المدى على المزاج الديني والسياسي لجاليات المسلمين.
ردود حكومية وتحركات وقائية
مصادر رفيعة في وزارة الداخلية أكدت أنّ الدولة الفرنسية لن تقف مكتوفة الأيدي أمام هذه التهديدات "الناعمة"، مشددة على أنّ الجمهورية تمتلك من الأدوات ما يكفي لاحتواء هذا التحدي، لكنّ النجاح يتطلب تحركاً سريعاً ومنظماً. وتعتزم الوزارة تنفيذ برامج تدريب موسعة لموظفي القطاع العام والبلديات، بهدف تمكينهم من التعرف على مظاهر التسلل الإيديولوجي في المؤسسات، ووضع عراقيل قانونية وإدارية لمنع تغلغل الجماعة في مفاصل المجتمع المحلي.
أحد المحاور المركزية التي سينصبّ عليها الجهد الحكومي، وفقاً للتقرير، هو مراقبة التمويلات الأجنبية التي تتدفق إلى جمعيات ومنظمات ذات صلة بالجماعة، خاصة من دول ومؤسسات في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث يحظى الإخوان بدعم مالي كبير يُستخدم لتعزيز وجودهم في أوروبا.
اليمين يستغل الفرصة، وتصاعد الخطاب السياسي
تسريب التقرير جاء في لحظة سياسية حساسة، وهو ما دفع التيارات اليمينية في فرنسا إلى استغلاله لتصعيد لهجتها تجاه الجماعة. مارين لوبان، زعيمة حزب "التجمع الوطني"، دعت بشكل مباشر إلى حظر شامل لأنشطة الإخوان على الأراضي الفرنسية، واعتبارهم تنظيماً يهدف إلى "تخريب أسس الجمهورية من الداخل عبر أدوات مشروعة ظاهرياً".
وفي خطابها، ذهبت لوبان أبعد من ذلك قائلة: "نحن لا نواجه تنظيماً إرهابياً تقليدياً، بل نواجه مشروعاً طويل المدى يعمل في الخفاء، ويستهدف إخضاع الدولة لمفاهيمه الخاصة عبر ترويج خطاب يرفض الانصهار داخل الهوية الفرنسية".
منظمات إسلامية تُحذّر من التعميم
من الجهة الأخرى، لم يمرّ التقرير دون انتقادات من قبل منظمات تمثل المسلمين في فرنسا، التي عبّرت عن خشيتها من أن يؤدي نشر مثل هذه التقارير إلى تأجيج مشاعر العداء ضد المسلمين، وزيادة الضغوط عليهم في حياتهم اليومية، سواء في أماكن العمل أو التعليم أو الفضاء العام.
هذه الجهات لم تُنكر ضرورة مكافحة التطرف، لكنّها طالبت الحكومة بتبنّي مقاربة متوازنة لا تخلط بين جماعة الإخوان كمكوّن سياسي مثير للجدل، وبين ملايين المسلمين الذين يعيشون في فرنسا ويحترمون قوانينها وينخرطون في مؤسساتها. وفي هذا السياق دعت هذه المنظمات إلى ضمان عدم توظيف التقرير في حملات انتخابية أو في خطاب شعبوي قد يضر بالتماسك الاجتماعي.
الانتخابات البلدية 2026: مخاوف من تغلغل انتخابي
إحدى النقاط التي أثارتها الجهات الأمنية الفرنسية تتعلق بتزايد الشبهات حول محاولات الإخوان التأثير في المشهد الانتخابي المحلي، لا سيّما مع اقتراب الانتخابات البلدية في عام 2026. وتقول مصادر إنّ الجماعة تستهدف الدفع بمرشحين مدعومين منها في بعض البلديات ذات الأغلبية المسلمة، أو بناء تحالفات انتخابية غير معلنة من خلال جمعيات ظاهرها مدني لكنّ ولاءها الحقيقي يعود إلى الجماعة.
الهدف من هذا التغلغل السياسي، بحسب التقرير، لا يقتصر على التمثيل الرمزي، بل يشمل السعي لإحداث تأثير على قرارات محلية تخص التعليم والدين والإسكان، بما يسمح للجماعة بإعادة هيكلة البيئة الحاضنة لأفكارها.
التحدي الأكبر: حماية الجمهورية دون المساس بالحريات
وسط كل هذه المعطيات، يواجه صانع القرار الفرنسي معضلة معقدة: كيف يمكن التصدي لأنشطة جماعة تُتهم بمحاولة اختراق الدولة دون الإضرار بحرية التنظيم والتعبير والاعتقاد؟ خاصة أنّ فرنسا ترفع راية الحريات الفردية كقيمة أساسية من قيم الجمهورية.
التقرير ينتهي بتوصيات تدعو إلى تطوير استراتيجية شاملة تجمع بين الأمني والقانوني والاجتماعي، مع تعزيز الشراكات مع الجاليات المحلية لمحاصرة الفكر المتطرف، دون خلق شعور بالاستهداف أو الإقصاء. وبينما تتجه الحكومة لاتخاذ خطوات تنفيذية استناداً إلى ما ورد في التقرير، تبقى المعادلة الأصعب هي الحفاظ على توازن دقيق بين حماية قيم الجمهورية وبين الوقوف في وجه أجندة تتسلل عبر القانون لتقويض هذه القيم.