تقرير: الصراعات الحالية تضع العالم أمام "حرب حضارات"

تقرير: الصراعات الحالية تضع العالم أمام "حرب حضارات"

تقرير: الصراعات الحالية تضع العالم أمام "حرب حضارات"


18/01/2024

طارق عليان

تركز التغطية الإعلامية للتطورات حول العالم على أزمة واحدة كل مرة، كما لو كانت ظاهرة منفصلة. لكن أوكرانيا، والحرب بين إسرائيل وحماس، والهجمات على حركة الشحن في البحر الأحمر، وتهديدات الصين ضد تايوان، وإغلاق البحر الأحمر على أيدي الحوثيين في اليمن، بل وخطط فنزويلا للاستيلاء على جزء كبير من غويانا الغنية بالنفط، كلها ليست أحداثاً منفصلة، بل وثيقة الصلة ببضعها.

هوس الناتو والمؤسسة العسكرية الأمريكية بمكافحة تغير المناخ والقومية البيضاء يكاد يكون ضرباً من الجنون

فكلها تتبع الأنماط المذكورة في كتاب صموئيل هنتنغتون، الصادر عام 2011، بعنوان "صراع الحضارات وإعادة صنع النظام العالمي"، والذي تنبأ بصعود قوى "انتقامية" تسعى إلى استعادة أمجاد الماضي المتصورة. وأما الصراع الأهم من كل ما سواه فسيكون مع الصين، التي يتلخص هدفها المعلن في البروز باعتبارها القوة العظمى العالمية الرائدة بحلول عام 2050. ومع ذلك فصعود الصين كدولة بوليسية شمولية ليس سوى جزء واحد من صعود المستبدين، الذين يسعون إلى إطاحة النظام الرأسمالي الليبرالي القائم منذ فترة طويلة، وإحلاله بشيء ذي طبيعة إقطاعية، بعالم يهيمن عليه في الأساس حكام مطلقون وأزلامهم.

وفي هذا الإطار أكد جويل كوتكين زميل بمركز طريقة الحياة الأمريكية في معهد كليرمونت، والزميل الرئاسي بمركز المستقبل الحضري في جامعة تشابمان والمدير التنفيذي لمعهد الإصلاح الحضري، أن كل واحد من هؤلاء الأشرار، على حد وصفه، بمن فيهم الصين، يعاني من مواطن ضعف كبيرة يمكنها الحد من طموحاته، وترك المجال مفتوحاً أمام استجابة غربية قوية. لكن يبدو أن هيكل القوة الحالي في الغرب يفتقر إلى الإرادة، ناهيك عن الطريقة اللازمة للرد. فالهجمات على المدنيين الأبرياء، خاصةً في أوروبا، والاعتداءات على القواعد العسكرية الأمريكية وحركة الشحن البحري، ناهيك عن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لتقويض الإرادة الغربية (التي تتجلى بوضوح مع ظهور تيك توك) تقابَل باستجابات ضعيفة.

السياسة الواقعية تتفوق على الأخلاق

وقال الكاتب في مقاله بموقع مجلة "أمريكان مايند": تجسد الاستجابة للحرب الأوكرانية ديناميكية القوى المتغيرة. فمع اصطفاف الغرب، لا سيما اليسار المسالم تقليدياً، بالمال والمشاعر المتصاعدة تجاه القضية الأوكرانية، لم تُبد بقية دول العالم، بما في ذلك القوى الاقتصادية الصاعدة كفيتنام، سوى القليل من الاهتمام بالمسألة. ولا نكاد نجد أي قوة خارج الغرب وقفت إلى جانب الأوكرانيين، باستثناء ديمقراطيات شرق آسيا، وأبرزها اليابان وكوريا الجنوبية، التي لديها الآن من الأسباب ما يجعلها تظن أن الغرب سيتخلى عنها هي الأخرى في نهاية المطاف.

ويبدو أن الحرب زادت الرغبة في التحرر في الكثير من البلدان الصاعدة، لا من الطغيان بل من الهيمنة الغربية. ويمكن أن نرى هذا بوضوح في توسع مجموعة البريكس، المؤلفة من بلدان نامية وتضم الصين وروسيا إلى جانب إيران وفنزويلا والبرازيل وتركيا، والأهم من ذلك الهند. كما قرر كثير من البلدان الأفريقية، التي تعتمد اعتماداً كبيراً على الصين، وبعضها يرتبط بعلاقات طويلة الأمد مع روسيا، تجاهل الحملة الغربية المناصرة لأوكرانيا.

هذا كله يتبع السيناريو التقليدي الذي تتبعه القوى الصاعدة، والدافع الأساسي تحقيق العظمة الوطنية، خاصة أنها تعكس أمجادها الاستبدادية. وليس هذا تكراراً للحرب الباردة بأيديولوجياتها المانوية، بل ذا طبيعة انتهازية في الأساس. فالصين تسعى إلى السيطرة على التكنولوجيا والتجارة لتحقيق التفوق العالمي، فيما تتوق روسيا إلى الهمينة على ممتلكاتها الإمبراطورية السابقة. وتريد فنزويلا وضع يديها على النفط لدعم اقتصادها الاشتراكي المترنح، فيما تسعى البلدان الأخرى في أمريكا اللاتينية إلى الحصول على المزيد من الاستثمارات الصينية.

إسرائيل وحماس

وجاءت الحرب الدائرة بين إسرائيل وحماس لتسرّع هذه الاتجاهات. ونظراً للتحولات الجيوسياسية والاقتصادية، ليس مستغرباً أن تجد إسرائيل نفسها بلا أصدقاء إلى حد كبير، مع دعم مشروط بشكل متزايد من الولايات المتحدة بل ودعم رخو من أوروبا. ويقْدم الحوثيون على مهاجمة حركة الشحن الغربية في البحر الأحمر مع إفلاتهم نسبيّاً من العقاب، على الرغم من أنهم يتركون الأسطول التجاري الصيني بلا مساس على ما يبدو. وقد يتجلى هذا النمط الجديد من التحالفات، على نحو ما نرى الآن في البحر الأحمر، بوضوح قريباً في غابات شمال شرق أمريكا الجنوبية، ومضيق تايوان، وشطر كبير من بحر الصين الجنوبي.

الغرب 

بدلاً من مواجهة حقيقة التحدي العالمي، يلقي الغرب بمقوماته الأخلاقية والمادية من النافذة. وكما كانت الحال في ثلاثينيات القرن الماضي، تبدو النخب السياسية الغربية أكثر اهتماماً بالمناورات الدبلوماسية منها بمواجهة خطر حقيقي وماثل. وليس بعيداً عن صميم الموضوع وصف وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، كما فعلت مجلة تابلت مؤخراً، بأنه "نيفيل تشامبرلين يحمل آيباد".

يتنامى النفوذ من الركيزتين الاقتصادية والعسكرية للقوة، وكلتاهما أهدرهما الغرب، ولصالح الصين إلى حد كبير. وبدلاً من تحفيز زيادة الإنتاج، فإن القانون المسمى عبثاً قانون الحد من التضخم يبدو أشبه بقانون إنعاش الصين. فحتى مع استمرار الصين في بناء المحطات التي تعمل بالفحم وإطلاق مزيد من غازات الدفيئة بما يفوق ما تطلقه كافة البلدان المتقدمة مجتمعة، فإن "سياساتنا الخضراء"، لا سيما التركيز على ألواح الطاقة الشمسية والسيارات الكهربائية، تعزز الوضع شبه الاحتكاري للمملكة الوسطى (الصين) في سلسلة توريد بطاريات السيارات الكهربائية. فالصين تسيطر على 80% من أنشطة تكرير المواد الخام في العالم، و 77% من سعة إنتاج الخلايا في العالم، و 60% من تصنيع المكونات في العالم. وتجاوزت شركة BYD الصينية مؤخراً شركة Tesla كأكبر صانع للسيارات الكهربائية في العالم.

جيوش الغرب

قوة الغرب العسكرية أيضاً آخذة في التلاشي، أضف إلى ذلك أن انسحاب الولايات المتحدة المهين من أفغانستان جرّأ الصين وروسيا بشكل واضح. كما أن الجيوش الأوروبية في وضع مثير للشفقة، بل وتزداد سوءاً. فالمملكة المتحدة، صاحبة أقوى جيش في أوروبا، تمتلك 150 دبابة فقط، فيما تمتلك ألمانيا من الذخيرة ما يكفي ليومين من القتال. وتواجه الولايات المتحدة صعوبة في مواصلة إمداد حلفائها دون النظر إلى البلدان الأخرى، كاليابان وكوريا الجنوبية، لسد هذه الفجوة.

بل والأغرب أن الكثير من السلع العسكرية الأمريكية يعتمد الآن على مكونات من الصين. وبعض الأجهزة المتقدمة تعتمد على معادن حيوية تنتجها إلى حد كبير بلدان ناشئة تدور في فلك الصين في أفريقيا وفي أمريكا اللاتينية.

ونظراً للضغوط الواقعة على مواردنا العسكرية بالفعل، يتساءل بعض القادة المخضرمين عما إذا كانت البحرية الأمريكية ستكون قادرة على مقاومة توسع الصين البحري في بحر الصين أو تحركها في نهاية المطاف للاستيلاء على تايوان. والصين بالفعل أكبر منتج للسفن البحرية في العالم، وتلاحق تكنولوجيّاً وبسرعة صناعة الغواصات والصواريخ الأمريكية.

وفي مواجهة هذه التحديات، فإما أن يتجاهل بارونات المال والتكنولوجيا صعود الصين وإما حتى أن يتبنوه. وتظل وول ستريت حصناً يدعم طموحات الصين، ما دامت تبقى مصدراً محتملاً للأرباح الهائلة. بل ذهب سيتي غروب إلى حد الإعلان عن خطط لإنشاء بنك استثماري مقره الصين هذا العام.

وفي مؤتمر قمة التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ مؤخراً في مدينة سان فرانسيسكو، التي أزالت مخيمات المشردين من أجل إثارة إعجاب شي جين بينغ، حضر أقطاب المال والأعمال حفل عشاء بتكلفة 40 ألف دولار للطبق الواحد على شرفه الإمبراطوري، واستُقبل الزعيم ا بتصفيق حار ووقوف جماعي.

وعلى صعيد مماثل فإن محاولات تحجيم تطبيق تيك توك الصيني القوي، الذي يمارس نفوذاً هائلاً على جيلنا الشاب، أُحبطت على أيدي المستثمرين الأمريكيين الأكثر اهتماماً بحماية استثماراتهم التي تقدر بثمانية مليارات دولار منهم بأي تداعيات على الأمن القومي أو الإذعان لدولة الصين البوليسية. وفي الوقت نفسه نجد معظم التطبيقات الأمريكية محظورة في المملكة الوسطى (الصين).

تقويض قبضة الصين

وأكد الكاتب ضرورة السعي منهجيّاً إلى تقويض قبضة الصين المتنامية على بلدان العالم النامية. فالدول كالهند وفيتنام لا تريد أن تصبح من أتباع شي على الرغم من اشتراكها في عضوية حركة بريكس.

وشدد الكاتب على ضرورة استفادة الغرب أيضاً من وجود المهاجرين في بلدانه. فكثير من هذه البلدان يعتمد على التحويلات المالية من المهاجرين لأسباب اقتصادية، والتي ازدادت من 200 مليار دولار إلى 600 مليار دولار منذ عام 2010، مما يجعلها تساهم بشكل ضخم في اقتصاداتها. وتعد الولايات المتحدة إلى حد بعيد أكبر مصْدر للتحويلات المالية في العالم.

وتابع: يتسم الصراع الدائر في الشرق الأوسط أيضاً ببعض الفروق الدقيقة. فاللاعب الرئيسي وراء مذبحة حماس، وأعني إيران، مثار خوف عميق من جانب الدول ذات الأغلبية السنية.

لكن كل هذه المزايا ستتبدد لو توقف الغرب، لا سيما الشباب الأمريكي، عن الإيمان بالديمقراطية الليبرالية، يحذر الكاتب مضيفاً أن هذا التعفن امتد إلى المؤسسة الدفاعية وأجهزة الاستخبارات الغربية. فهوس الناتو والمؤسسة العسكرية الأمريكية بمكافحة تغير المناخ والقومية البيضاء يكاد يكون ضرباً من الجنون، في وقت تتزايد فيه الشواغل بشأن قدرتيهما على خوض الحرب، من جودة المقاتلين إلى القاعدة الصناعية المتدهورة التي تدعمهم.

وفي النهاية المطاف، يشدد الكاتب على ضرورة أن يفيق الغرب من سباته وأن يبدأ في البناء من جديد. وبدلاً من التوجه نحو حرب أهلية جديدة على أسس أيديولوجية، يقول الكاتب، ثمة حاجة إلى حس جديد بالغرض المدني الذي يشمل التركيز على التدريب على المهارات، وتحسين البنية التحتية، وتوسيع نطاق التكنولوجيا الصلبة، لا سيما في مجال الفضاء. ويجب تعزيز مكانة الولايات المتحدة باعتبارها أكبر مصدّر للغاز ومن كبار مصدّري النفط في العالم. فهذا يضعف وبشدة النفوذ الذي تسعى إيران وفنزويلا وروسيا إلى استغلاله، لا سيما في أوروبا وجنوب آسيا وأمريكا الجنوبية.

عن موقع "24"




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية