
حكيم مرزوقي
“ليس للسقوط قاع” عبارة تُطلق للتعبير عن مدى فداحة ما يمكن أن يصنعه الفاسدون بشعوبهم وأوطانهم، إذ لا يمكن أن تتوقع منهم غير المزيد من الانحدار نحو الأخطر فالأخطر.
لا يختلف اثنان في أن السقوط الأخلاقي، وعلى المستوى الفردي، من شأنه أن يهز كيان الأسرة ويهدد نسيج المجتمع، فما بالك إن كان يتعلق بالطبقة السياسية التي هي في موقع السلطة والقيادة.
الحقيقة أن من حكموا تونس في العشرية الأخيرة التي أعقبت الإطاحة بالرئيس الأسبق الراحل زين العابدين بن علي لم يكونوا “طبقة سياسية” بالمفهوم النخبوي للكلمة بل كان البعض منهم متهما بمحاولة تقويض الأمن العام.
لسنا في صدد الدفاع عن نظام بن علي، ولا تبرئته من تجاوزات عديدة، ولا في معرض إصدار حكم قيمة أخلاقية على جماعة تزعم أنها كانت تمارس نشاطا سياسيا مدنيا يكفله القانون. ما يهمنا هو انعكاس حالة الفوضى والفساد على المؤسسات التعليمية بسبب شهادات علمية مدلسة وموازية زورتها عصابات نافذة بالتواطؤ مع الفاسدين، مما يمس بسمعة التعليم في تونس.. رهان دولة الاستقلال منذ قيامها عام 1956.
دق ناقوس الخطر إذن، وانطلقت مختلف الوزارات في عملية جرد للشهادات العلمية لمنظوريها بغرض التثبت في صحتها، كما أعلن نصرالدين النصيبي الناطق الرسمي باسم الحكومة، مضيفاً أن “كل ملف يتعلق بشهادة مزورة سيحال إلى القضاء”.
وأكد أنه “تم الانطلاق خلال السنة الحالية في اعتماد الختم الإلكتروني المرئي لجميع الشهادات العلمية”، وذلك منعاً لتجاوزات مماثلة.
حدث هذا بعد أن كشفت تقارير المراصد الرقابية في تونس عن تزوير شهادات في اختصاصات عديدة. وتم تقديم قائمات لمئات من الأشخاص كان قد وقع انتدابهم في مؤسسات عمومية بشهادات مزورة، وذلك بعد المشاركة في مناظرات وطنية مشكوك في نزاهتها.
محللون يقرؤون هذه الظاهرة الخطيرة وغير المسبوقة في البلاد، بأن التوظيف العشوائي الذي وقع بعد 2011 تحت ضغط المطالب الشعبية، شجع على تزوير الشهادات وأوجد جيوب الفساد في إدارة المؤسسات العامة.
الكل يتراشق الاتهامات في هذا الملف المشتعل، والخلافات السياسية وحتى تصفية الحسابات الشخصية، تطل برأسها.
لا شك أن المتورطين كثيرون في هذه القضية، والناشطون في المجتمع المدني يؤكدون أن أطرافا وعصابات من خارج البلاد ضالعة في عملية التزوير هذه التي تكاد تهز البلاد، وتهدد السلم الأهلي بسبب تعرض بعض المبلغين إلى التهديدات.
ويتفق الجميع على أن أجهزة الدولة وحدها بخبرائها وأقطابها القضائية، قادرة على التصدي لهذه الظاهرة الخطيرة التي شملت الوثائق الرسمية أيضا من بطاقات هوية وجوازات سفر وقع تزويرها وبيعها لأصحاب جنسيات أجنبية.
ويؤكد متابعون لهذا الملف أن من وقع توظيفهم في مؤسسات الدولة منذ 2011 يعادل مجمل المعينين منذ الاستقلال أي أن الرقم مرعب ويحيل إلى حالة من التساهل والتراخي إن لم نقل التورط في الفساد.
الذين تدور حولهم الشبهات في هذا الملف هم من كانوا في قيادة الدولة بعيد 2011، وأبرزهم جماعات حركة النهضة التي نفت أن تكون أغرقت الإدارة التونسية بالانتدابات، معتبرة أن “الانتدابات التي تمت مباشرة بعد 2011 في عهد حكومتي محمد الغنوشي، والراحل الباجي قائد السبسي، قد تمت تحت ضغط الشارع” كما قال الناطق الرسمي باسمها.
القضاء العادل والنزيه وحده معني بمحاسبة المتورطين في هذه القضية التي يشتم المرء فيها رائحة السياسة، وتتوجه فيها أصابع الاتهام إلى من كان معنيا مباشرة بإدارة البلاد، لكن ليس للفساد عقيدة واحدة ولا ميولات أيديولوجية محددة، وإنما ولاؤه أبدا للمال على حساب مستقبل البلاد وأمنها واستقرارها.
التحقيق في هذه القضية على قدم وساق، وبطريقة متشعبة يمكن متابعة ملفاتها المتشابكة، إذ لا يمكن فصلها عن غيرها من قضايا.
وفي هذا الإطار، كان قاضي التحقيق في القطب القضائي لمكافحة الإرهاب في تونس قد أنهى التحقيق مع سبعة أعضاء من المتورطين في قضية شبكة بيع الجنسية التونسية لسوريين وآخرين أجانب.
هذا غيض من فيض كما يقال، فما بالك بعشرات بل مئات آخرين ممن شملتهم غنيمة اقتسام السلطة بعد 2011 وعاثوا فسادا حتى صارت ثرواتهم تقدر بالملايين من الدولارات، وتورطوا في قضايا تزوير شهادات وغسيل أموال ودعم الإرهاب عبر تزوير الوثائق التي تضمن حماية المتورطين فيه.
لا شك أن بعض هؤلاء ما زال يمارس نشاطه متخفيا، ولم تطله الحملات التطهيرية الآن، أي أن الخطر لا يزال كامنا من جراء الجيوب التي زرعت في مؤسسات الدولة طيلة عشرية كاملة من الحكم.
ويؤكد الإستراتيجيون وخبراء القانون والمتخصصون أن جرائم تزوير الشهادات والوثائق الرسمية هي أشد خطورة من أي شكل من أشكال الفساد، ذلك أن العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة كما هو معروف.
كل البلاد التي ترزح تحت وطأة الفساد والإرهاب، عانت وتعاني الآن، من آفة تزوير الوثائق والشهادات وبطاقات الهوية والجوازات، وهو ما يسهّل النشاط الإرهابي على شاكلة ما يجري في أفغانستان وغيرها من البلدان التي فقدت الاستقرار الأمني والسلم الاجتماعي.
وليس هناك أخطر من عمليات التزوير التي تأتي من مراكز حساسة في الدولة ومؤثرة في المجتمع كوزارة التربية والتعليم، الأمر الذي كشفه وزير الداخلية التونسي توفيق شرف الدين منذ أشهر.
يمكن القول إن تزوير الوثائق والشهادات هو الثمرة المسمومة التي أفرزتها حركة التزاوج بين الفساد والإرهاب، والنطفة التي ستصيب بالعقم والفساد كل ما سوف ينمو في رحمها، ذلك أنها وصلت إلى حد مقولة “حاميها حراميها” ولامست الدولة في رمزيتها القانونية واحتكارها للأحكام والتشريعات والمراسيم التي تصدرها.
السلطات الأمنية التونسية تقوم بواجبها، ونجحت في تفكيك شبكات تزوير الوثائق والشهادات متكونة من عصابات محلية وعربية، وقدمتها للقضاء، لكن الخطر لا يزال محدقا، إذ لا يمكن منع قنبلة موقوتة من الانفجار لمجرد إيقاف الفاعل.
عن "العرب" اللندنية