ترامب لم يخسر... إنه لم يحسم النتيجة فقط

ترامب لم يخسر... إنه لم يحسم النتيجة فقط


10/11/2020

جعل دونالد ترامب الخسارة حالة درامية، موكبه وهو يغادر البيت الأبيض كان صيداً جيداً للكاميرات لنقل المشهد بدرامية محتشدة بالمشاعر، ربما لم يحدث مثل هذا سابقاً، بهذه الحالة المربكة من الإثارة، لكن ليس مستغرباً، فترامب، كان على الدوام رجلاً زاخراً بالإثارة، والتعاطي مع المشاهد والمواقف بصورة مختلفة ومثيرة للقلق، مثل هذا القلق الذي يغلف مسار الانتقال الرئاسي، لكنه في النهاية سيتم حتماً.

اقرأ أيضاً: جون بولتون يكشف أسرار علاقة ترامب وأردوغان في كتابه "الغرفة التي شهدت الأحداث"

وقع الخسارة على ترامب كان يبدو قوياً، وهو مؤشر حقيقي على أنّ ما كان متوقعاً لم يكن حقيقياً، فالخسارة ليست هائلة، وما توقعه الآخرون بخسارة مدوّية لترامب، أثبت ترامب أنها ليست جديرة بالاهتمام، 1% تقريباً من عدد الأصوات هو الفارق الوحيد بين فوز بايدن وخسارة ترامبترامب، نسبة ضئيلة مثل هذه النسبة بين رئاستين أو رئيسين أو مرحلتين لا تعني شيئاً، أقصد أنها لا تعني شيئاً لصالح المحتفلين بفوز بايدن والإطاحة بترامب، لكنها تعني شيئاً مهماً لصالح الذين يقولون إنّ الحالة الترامبية، أو تلك التي يمكن وصفها بالشعبوية الترامبية، خسرت بشرف كبير، وعلى مستوى آخر، فإنها نجحت في إثبات وجودها.

لم يكن ترامب تعددياً ولا متسامحاً، كان غاضباً دوماً، ويستطيع توجيه التوبيخ ليس لأي أحد فقط، بل لأي شيء أيضاً

الترامبية التي هاجمها الجميع، قبل الانتخابات وأثناءها، وحتى بعد فوز بايدن في خطاب الفوز الذي ألقاه معلناً فيه أنه "حان وقت المداواة للولايات المتحدة الأمريكية"، وأنه "سيكون رئيساً تعددياً" لكلّ الأمريكيين، وهذا تعريض مباشر بالترامبية.

ليس سهلاً أن يعلن الرئيس الجديد ذلك، وهو يدرك أنّ أكثر من 70 مليون ناخب اختاروا دونالد ترامب، في حصيلة تعتبر ثاني أكبر رقم يحصل عليه مرشح رئاسي، حتى لو كان بايدن الرئيس الجديد هو صاحب الرقم الأول تاريخياً بحصيلة أكثر من 74 مليون ناخب.

اقرأ أيضاً: بايدن ومستقبل العلاقة مع إيران: هل تتغير سياسة "الضغط القصوى"؟

في الحالة الأمريكية، فإنّ الخسارة التي لا تفصلها مسافة كبيرة عن نقطة النجاح، لا تعتبر خسارة، إنها فقط نقطة آخر السطر، وترامب رجلاً ورئيساً لم يخسر، إنه فقط لم ينجح في صندوق الانتخابات وحسابات الأصوات.

لم يكن ترامب تعددياً، ولم يكن متسامحاً، كان غاضباً دوماً، ويستطيع توجيه التوبيخ ليس لأي أحد فقط، بل لأي شيء أيضاً، مثل أن يوبخ بطريقة غير مباشرة عرفاً ديمقراطياً مكرساً أمريكياً، متصلاً بالانتقال السلمي للسلطة. وليس هذا فحسب، كان ترامب خلال مسيرته الرئاسية طيلة 4 أعوام مستعداً لخرق أي بروتوكول، أو توبيخ أي أحد، أو تجاوز أي قاعدة أو عرف، لكنه كان أيضاً مستعداً لإقناع كتلة انتخابية عملاقة من المجتمع الأمريكي أنه خيار قوي، وأنه بما يمثله للطموح الشعبوي الأمريكي مستمر في الشعور الجمعي الشعبوي الأمريكي، وإن غادر السلطة والحكم والرئاسة.

اقرأ أيضاً: هل ترفض إيران التباحث مع بايدن حول الاتفاق النووي؟

الشعبوية العالمية لم تهتز في الانتخابات الرئاسية الأمريكية بعدم فوز ترامب، بل إنها تمكنت من نفسها، وزادت من حدتها منذ أن بدأت "كزلزال" في عام 2016، حين استقرّ المقام بترامب على كرسي الرئاسة، أمّا انتخابات 2020، فلم تكن، كما يقول متفائلون، إنها فرصة لتصحيح المسار، بل إنها جعلت من الشعبوية خصماً قوياً ومستمراً، وكما كتب أحد الباحثين، فإنه "بطريقة ما، لا تُعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2020 مجرّد استفتاء على الترامبية، وإنما اختبار لاستمرارية الشعبوية في جميع أنحاء العالم".

اقرأ أيضاً: هل تنقذ سياسة بايدن العراق أم تطلق يد إيران فيه؟

ما يدعم هذا الاختبار هو ذاك الانحياز الإيديولوجي الذي يختطه الحزب الجمهوري الأمريكي نحو الكيانات الحزبية الأوروبية اليمينية التي توصف بأنها الأكثر تطرفاً، ولا أظن أنّ الجمهوريين يغامرون بحضورهم السياسي وقدرتهم على المنافسات المستقبلية في الرئاسات الأمريكية، إنهم جزء من حراك عالمي يعيد إنتاج جبهة قوية ضد المؤسسة والنخب التي احتكرت المصالح والمكاسب والخيارات.

من زاوية أخرى، ربما ساعدت شخصية ترامب في إحداث هذا الإخفاق، فهو كما قلنا سابقاً لم يكن متسامحاً، وليس شخصية هادئة، كان يبدو دوماً حاداً إلى درجة كبيرة، وهذه الحالة من الرفض والضجيج وعدم الثبات، التي جسدتها شخصية دونالد ترامب، لفتت انتباه خصومه إلى خيار جدير بالتجريب، من خلال تعديل مسار الانتخابات، من التنافس بين حزبين وكتلتين ناخبتين وتوجهين ورئيسين أحدهما ما زال رئيساً محتملاً، إلى مجرّد "استفتاء على ترامب"، كما عنونته بعض التقارير الصحافية العالمية.

ستبقى أمريكا بلداً للعنصرية والشعبوية الطاغية على مستوى الواقع الذي تركه ترامب خلفه ميراثاً صلباً غير قابل للهزيمة

ومع ذلك، يبقى هذا الشكل التنافسي الذي حاول الديمقراطيون فرضه بطريقة استبطانية في الوعي الجماهيري، غير مجدٍ على أرض الواقع، فالاستفتاء -إن سلّمنا جدلاً بهذه التسمية- خرج بنتائج وليس بنتيجة واحدة، لم تكن النتيجة فقط هي فوز بايدن وخسارة ترامب، بل كانت ثمة نتائج أخرى، أهمّها أنّ ترامب زاد بما يتجاوز 5 ملايين صوت عمّا حصل عليه في الانتخابات السابقة التي أوصلته للرئاسة، وأنّ ما حصل عليه ترامب لم يحصل عليه مرشح قبله في أي انتخابات لأيّ رئيس يترشح لفترة رئاسية ثانية، كل ذلك يعني أنّ ترامب بكل الجدل الذي يخلقه حول نفسه وحول سياسته، وبكل الضجيج الذي يحدثه أينما حل، كانت خسارته، إن كانت خسارة، بمثابة نجاح للنزعة الشعبوية والعنصرية والتفوق الأبيض. بالفعل، أصبح بايدن رئيساً، لقد فاز بالرئاسة، لكنه فوز يخلو من الشغف، أمّا ترامب، فخسارته جاءت بصيغة الفوز الذي ربما لم يقدّره بعدُ ترامب نفسه.

اقرأ أيضاً: تهليل الإخوان لفوز بايدن: هل يعيد عقارب الساعة للوراء؟

ستبقى أمريكا بلداً للتعددية على مستوى الشعارات التي حملها بايدن معه إلى البيت الأبيض، لكنها أيضاً ستبقى بلداً للعنصرية والشعبوية الطاغية على مستوى الواقع، الذي تركه ترامب خلفه ميراثاً صلباً غير قابل للهزيمة.

كان ترامب واضحاً ومكشوفاً، وصريحاً، لكنّ بايدن رجل غير ذلك، فقد عرّضته زلّات لسانه، وهو يحاول ألّا يكون واضحاً، إلى الخسارة مرّتين سابقتين، وهذا هو الخطير.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية