تحقير الأديان ليس حرية رأى

تحقير الأديان ليس حرية رأى

تحقير الأديان ليس حرية رأى


03/07/2023

ياسر عبدالعزيز

الزمان صبيحة أول أيام عيد الأضحى المبارك، والمكان أمام أكبر مسجد فى العاصمة السويدية ستوكهولم، أما الحدث فقد كان إقدام لاجئ عراقى يُدعى سلوان موميكا على إحراق صفحات من المصحف الشريف، والنتيجة طوفان من الإدانات والتظاهرات والاحتجاجات فى عواصم عديدة، والعنوان: جريمة كراهية جديدة تحت مظلة حرية الرأى والتعبير. منذ الهجوم على برجى مانهاتن لم تتوقف تلك الحوادث عن الوقوع، بل إن وتيرتها زادت، كما اكتسبت قدرًا من «الوجاهة» و«المشروعية»، للأسف الشديد، على خلفية تقدم اليمين الأوروبى المتطرف فى أكثر من عاصمة، والتوسل الجائر بحرية الرأى والتعبير، وتساهل السلطات مع تلك الحوادث، وتقديم التغطية القانونية لها فى الكثير من الأحيان. ليست تلك هى الحادثة الوحيدة من نوعها التى تقع فى السويد، ذلك البلد الذى يثير الإعجاب بتقدمه الاقتصادى والسياسى، وقدرته على إتاحة أوضاع اجتماعية تتسم بالليبرالية الشديدة؛ إذ حدث فى شهر يناير الماضى أن قام متطرف سويدى يُدعى راسموس بالودان بحرق المصحف الشريف فى ستوكهولم، فى إطار تظاهرة مُرخصة من الشرطة السويدية، أمام السفارة التركية.

ورغم ما أثاره هذا الحادث الشائن من ردود فعل غاضبة وإدانات عديدة من دول عربية وإسلامية ومنظمات دولية، فقد عادت الشرطة السويدية وسمحت بتنظيم التجمع الذى استغله موميكا أخيرًا لتنفيذ اعتدائه، بعد قرار أمنى رأى أن المخاطر الأمنية المرتبطة بمثل هذا التجمع وفعالياته «لا تمنع تنظيمه»!. لقد أثار الحادث الشائن الأخير غضبًا واحتجاجًا واسعين فى العالمين العربى والإسلامى، وتسابقت دول عدة على إدانته بأشد العبارات، كما قامت المؤسسات الدينية بدور مهم فى هذا الصدد، وتم استدعاء السفراء السويديين فى بعض العواصم لإبلاغهم بالاحتجاج، فضلًا عن انتشار دعوات لمقاطعة المنتجات السويدية.

.. يتوسل مناصرو هذه الأعمال الشاذة والمؤذية بقيمة حرية الرأى والتعبير، ويخلطون بين معاداتهم لبعض الممارسات الحادة المنسوبة للدين الإسلامى من قبل جماعات راديكالية وبين معاداة الدين الإسلامى نفسه، وهو أمر بات معتادًا للأسف منذ أكثر من عقدين، بعد هجمات سبتمبر 2001.

وأخطر ما تشير إليه تلك الحوادث لا يتعلق بوجود طبقات من المواطنين الغربيين الذين ينطوون على هذا الموقف العدائى تجاه الدين الإسلامى، لكنه يتصل أيضًا للأسف بوجود ظهير سياسى يدعم تلك الأفكار، وهو ظهير استطاع أن ينفذ إلى برلمانات بعض الدول الأوروبية أو يتولى مناصب فى حكوماتها.

والشاهد أن هذه الحوادث، التى تقع من حين إلى آخر، تجد ذرائع سياسية وثقافية واجتماعية عديدة لتغذيتها؛ بعضها يتعلق بالأنشطة الإرهابية المستندة إلى تأويلات دينية إسلامية، أو بموجات الهجرة الشرقية التى تثير حفيظة اليمينيين والمحافظين فى الغرب، أو بالأدوار الملتبسة التى تقوم بها بعض المنابر الإعلامية لإشاعة الكراهية والتعصب والعنصرية، وخصوصًا فى مواقع «التواصل الاجتماعى».

ومن جانب آخر، فإن بعض التيارات السياسية الشعبوية فى الغرب تستثمر هذه الحالة، ويبنى بعض السياسيين والجماعات اليمينية والقومية خطاباتهم على أسس معادية للإسلام لتحقيق التمركز السياسى والفوز فى الانتخابات، وهو أمر يوسع دائرة التعصب والكراهية، ويفاقم حالة العداء، ويفرز المزيد من هذه الممارسات الشاذة والحادة.

ويخطئ بعض الغربيين الذين ينظرون إلى تلك الحوادث من زاوية حرية الرأى والتعبير؛ إذ تحتاج مقاربتها إلى تقص دقيق للخيط الرفيع الذى يفصل بين حرية الرأى والتعبير من جهة وتحقير الأديان وإهانة أتباعها من جهة أخرى.

وبالتالى، فإن الحديث عن ضرورة إطلاق حرية الرأى والتعبير إلى حدها الأقصى، من دون أى قيود أو حدود هو حديث يحتاج مراجعة، طالما أنه قد يتعارض مع حق أصيل آخر يتمثل فى احترام معتقدات البشر، وعدم استخدام حرية الرأى والتعبير لإشعال الفتن وإثارة الكراهية.

ولا يقتنع المحتجون على ازدراء الأديان وتجريح المقدسات بدعاوى حرية الرأى والتعبير فى هذا الصدد عادة، لأن المجتمعات الغربية فى معظمها تضع حدودًا صارمة وواضحة، وتفرض قيودًا غليظة على بعض الممارسات التى تتعلق بحرية الرأى والتعبير؛ مثل ما يتصل بـ «معاداة السامية»، أو تمجيد الحرب، أو «مناصرة أعمال المقاومة المسلحة لأنماط معينة من الاحتلال»، أو حتى استهداف «المثليين والمثلية».

لا تصون السلطات الغربية التى تسمح بهذه الممارسات الحادة والشائنة حرية الرأى والتعبير، ولا تخدم قضايا التعايش والسلام وقبول الآخر، لكنها تصب الزيت على النار، وتسمح بتأجيج الكراهية.

ومن جانبنا، علينا أن ندافع عن قضيتنا بالوسائل السلمية، وعلينا أيضًا أن نقدم الأنموذج العادل والمعتدل، الذى يطالب الآخرين باحترام معتقداتنا، ويحترم معتقداتهم ولا يسمح بازدرائها فى الوقت نفسه.

عن "المصري اليوم"




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية