بين أفواه وأرانب وأنا لا أكذب ..هل يمكن للحب أن ينتصر رغم كل الفوارق؟

بين أفواه وأرانب وأنا لا أكذب ..هل يمكن للحب أن ينتصر رغم كل الفوارق؟

بين أفواه وأرانب وأنا لا أكذب ..هل يمكن للحب أن ينتصر رغم كل الفوارق؟


22/01/2025

واحد من أجمل كلاسيكيات السينما المصرية، الأكثر واقعية والاكثر خيالية.. فيلم "أفواه وأرانب"، واقعية مُدهشة، وقامات فنية كبيرة نادراً ما تجتمع في عمل واحد، فالبطولة لسيدة الشاشة العربية وحمامتها اللطيفة البيضاء الغالية، فاتن حمامة، والسيناريو لسمير عبدالعظيم. الجميل والجديد في هذا الدور أنّ فاتن اللطيفة الوديعة، التي طالما تظهر في دور الفتاة الحالمة الرومانسية والمظلومة والفقيرة والمغلوبة على أمرها، حتى في الأدوار التي أدّت فيها دور سيدة مجتمع، نراها في هذا العمل بشكل شديد الاختلاف، تعليم متواضع لكن متنورة مع مقدرة كبيرة على التمييز، فقيرة لكن طموحة، طموح يوضع أحيًانا موضع شك، مغلوبة لكن ذات بأس، تأتي عليها الحياة لكن لا تجرفها، تعيش في بيت اختها المتزوجة من "المحولجي" البسيط في هيئة السكة الحديد، ويسكن معهم عشرة أطفال.. أي ثلاثة عشر فاه يريدون الطعام الشراب والملبس والرعاية، في ظروف أسرية شديدة الفقر، حيث لا راتب سوى راتب الأب البسيط، والذي يذهب جُله على الشراب، الذي ينسى في هموم أسرته وحاجاتها.

تساعد "نعمت" أختها براتبها المتواضع في أحد المصانع، وترفض الزواج ممن يتقدمون لها بدافع أنّها لا تريد مصيراً كمصير أختها، وتشترط فيمن ستتزوجه أن يكون "كسيّب ومتعلم"، وهو مالم تجده في مصطفى الموظف البسيط في هيئة الزراعة، والذي ظلّ يلاحقها طامعاً في موافقتها على الارتباط منه، بينما ظلّت على إصرارها بأنّ زواجهما لو تم، سيزيد من عدد البؤساء في هذا العالم، غير أنّها وافقت على مصطفى، وأعربت عن رضاها عنه؛ عندما وجدت في يده المال الذي سيمكنها من شراء "التلفزيون بأريل والدولاب بضلف" الذي تحلم به، لكنّها عادت ورفضت طلبه بشدة، عندما علمت مصدر هذا المال، فلم يكن أمام مصطفى الموظف البسيط طريقاً غير السرقة، ليحصل على الموافقة، وهذا يضعنا أمام تساؤل حقيقي حول شخصية نعمت، وحول التعاطف الغير عادل معها، إن زواجها من مصطفى وابن أو إثنين كانا سيجنبانها حياة الشقاء التي تحياها أختها، لكن على ما يبدو فإنّ ما أرادته نعمت لم يكن حياة بسيطة وراضية، وإنّما تسلق عدة طبقات اجتماعية دفعة واحدة، ومع هذا ترفض الحرام أو تبرير ما لم تريده!.

كانت المصادفة التي جمعتها بالـ "بيه" والذي جسد دوره الفنان الكبير محمود ياسين، أشد تأكيداً على شخصية نعمت، الشخصية التي ربما لو أدّتها فنانة أخرى لكان الجمهور أشد عدلا في الحكم على الشخصية، ولكن لأنّ فاتن هي البطلة وصورتها الوديعة من كل أعمالها السابقة حاضرة في الأذهان، فهي دوماً الفتاة المظلومة المغلوبة على أمرها، ممّا جعل هناك تعاطفاً واسعاً معها، أضف لذلك شهامة نعمت مع أبناء أختها وتصميمها وإصرارها، ورحمتها بالعمال عندما وضعت في موضع اتخاذ القرار؛ كل هذا خلق تعاطفاً واسعاً مع نعمت، لكن لم يُر على الجانب الآخر أنّها كانت راضية عن مصطفى لولا تواضع جيبه، وأنّها أزاحت خطيبة البيه من طريقها بلؤم وإصرار، وارتبطت برجل بينه وبينها فوارق اجتماعية وتعليمية؛ لا يُصدق معها أن قصة حب كهذه ستنجح!.

وربما لهذا كان فيلم "أنا لا اكذب ولكني اتجمل"، أكثر مصداقية وواقعية في تناوله للعلاقات التي تفصل بينها الفوارق ويستهجنها المجتمع، فبطلة الفيلم الثاني على تقارب المستوى التعليمي وتشابه الذوق والميول مع البطل، لم تستطع أن ترى حبيبها وهو يعمل "تُربي"، ويرش تُربة أحد المتوفين ويهيئ له رقدته الأخيرة، ومع كل الحب الكبير، لم تصمد العاطفة أمام الواقعية الشديدة لأقدار الحياة.

في قصة " أنا لا أكذب ولكني أتجمل" لإحسان عبد القدوس، والتي تحولت إلى فيلم فيما بعد من بطولة أحمد زكي وآثار الحكيم، كانت شخصية إبراهيم التي قام بها أحمد زكي، شخصية شاب جامعي طموح ومثقف وفقير، والده تُربي، يعيش مع أسرته في قرافة المجاورين، وخيرية التي مثلت شخصيتها آثار الحكيم، شابة جامعية جميلة ومثقفة، ابنة استاذ جامعي، وتسعى هي الأخرى لتصبح مُعيدة، أحب إبراهيم خيرية إلّا أنّه أخفى عنها أصله، ووضع أهله الاقتصادي والاجتماعي، أخبرها أنّ والده مزارع صاحب أطيان، قاصدًا أن يكشف لها عن كل شئ بعد أن يُصبح أستاذاً جامعياً مثل والدها، حينها سيكون جديراً بها، ولا يهم وقتها وضع أهله، لأنّها ستتزوجه هو وتعيش معه هو. كان هذا ما أسكت به ضميره مبرراً الزيف.

الرواية التي كانت مختلفة قليلا عن الفيلم، وكانت قصة حقيقة، عرف إحسان عبدالقدوس أبطالها الحقيقيين، بل وأدلى بنصائحه لهم وخاصة إبراهيم. وهناك حوار عظيم دار بين إبراهيم وإحسان، يدافع فيه إبراهيم عن كذبه أو تَجّمله، ويدافع إحسان عن الحقيقة، قائلا:

إنها لا تحبك، انها تحب شخصاً آخر اسمه إبراهيم، والده مزارع يمتلك أرضاً في قريته، وليس بواب مدافن، يسكن في قرافة المجاورين.

إبراهيم: لا تعايرني.

أنا لا أعايرك.. ولكن الحب هو لقاء الكل بالكل، أي لقاء كلك بكلها، والكل يشمل الماضي والحاضر والمستقبل، ويشمل الأصل والواقع، الكل هو الحقيقة، وخيرية لا تعرف الحقيقة حتى تحبها.

كان الفارق شاسعاً بين معالجة إحسان عبد القدوس، وسمير عبد العظيم، للحب بين الطبقات الكادحة والطبقات الرأسمالية، أنتصر سمير عبدالعظيم للحب، حتى بعدما ألحق الفيلم بمسلسل إذاعي عن نفس القصة، وفيه أحدثت الفروقات بين نعمت والبيه شرخاً كبيراً في العلاقة انتهى بالطلاق، لكنّه أعادهما ثانية؛ منتصراً بالأخير لكفة الحب، بينما كان إحسان اكثر واقعية، وانتصر لتقاليد المجتمع التي تفرق بشدة بين الحب والزواج، وكأنّه متاح لك أن تحب من تحب، ابنة وزير أو ابنة خفير، لكن حين تتزوج ويكون الأمر متعلقاً بعائلة كاملة ومجتمع فالقرار جمعي.




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية