في المجموعة القصصية الثانية التي أصدرها الشهيد غسان كنفاني "أرض البرتقال الحزين" ونُشرت عام 1962، يروي حكاية فلاح كان يزرع البرتقال قبل أن يهجّره الاحتلال الصهيوني خارج فلسطين. يقول الفلاح إنّ البرتقال "يذبل إذا ما تغيرت اليد التي تتعهده بالماء".
تلك أسطورة برتقال فلسطين، وبخاصة برتقال يافا التي اشتهر السهل الساحلي فيها وقراها بزراعة الخضراوات والأشجار المثمرة وأهمها الحمضيات، ومنذ منتصف القرن التاسع عشر، اشتهرت مدينة يافا بتصدير المحاصيل الزراعية عالمياً، وأهمها البرتقال؛ حيث أصبح البرتقال اليافاوي ذا شهرة عالمية. فكان يصدّر الى دمشق، وشرق الأردن، والحجاز، وألمانيا، وفرنسا، والجزر البريطانية.
وتميز برتقال يافا عن سائر أنواع البرتقال، بقشرته السميكة، التي تحفظ الثمرة جيداً مدة طويلة من الزمن، وبخلوّه النسبي من البذور، وبعصارته الغزيرة، وطعمه السكري الحلو.
نشأة زراعة البيارات المنظمة وازدهارها في القرن التاسع عشر
وتعود نشأة زراعة البيارات المنظمة إلى النصف الأول من القرن الثامن عشر؛ حيث عني بزراعته الأثرياء. فقد أنشأ "أبو نبوت" متسلم يافا بعد جلاء الفرنسيين، بيارة أطلق عليها اسم ابنه محمود. ولما كثرت البيارات وزادت ثمار البرتقال عن الحاجة، بدأ التفكير بتصديره إلى الخارج، فشحن في المراكب الشراعية إلى الإسكندرية والأستانة واليونان.
وقد وصل إنتاج بيارات البرتقال في يافا عام 1869 ما يقارب المليون و400 ألف برتقالة؛ حيث ازداد اعتماد الأسواق الأوروبية على برتقال يافا في فترة الحرب الأهلية الأمريكية نتيجة لتعطل حركة الشحن من الموانئ الأمريكية خلالها.
تعود نشأة زراعة البيارات المنظمة إلى النصف الأول من القرن الثامن عشر
وذكر المؤرخ القساطلي أنّ عدد بساتين البرتقال بيافا في عام 1884 وصل إلى 500 بستان، تضم ما يقارب الـ 800 ألف شجرة برتقال. وفي عام 1886 قُدّرت مساحة الأراضي المزروعة بالبرتقال حول يافا بما يعادل الألف فدان، وارتفع الرقم بعد ثلاث سنوات ليصبح 3000 فدان، وهو ثلث الأراضي الزراعية في منطقة يافا. وقدّرت عدد بيارات البرتقال في عام 1889 بسبعمائة بيارة.
وفي العام 1886 أرسل القنصل الأمريكيّ في القدس هنري غيلمان، تقريراً إلى مساعد وزير الخارجية الأمريكي المستر بورتر، أشاد فيه بالجودة العالية لبرتقال يافا، وبطرائق التطعيم المبدعة التي كان يستخدمها المزارع الفلسطيني. واقترح في تقريره، أن يقتبس المزارعون الأمريكيون في فلوريدا أساليب زراعة البرتقال الفلسطينية.
وبلغت صادرات يافا من البرتقال في خلال شهر نوفمبر 1889 ما يساوي 40 ألف صندوق بسعر يتراوح ما بين 8-9 دولار لكل ألف برتقالة.
نمت زراعة الحمضيات نمواً سريعاً ما بين عام 1895 – 1915 وارتفعت المساحات الزراعية من 6600 دونم إلى 30000 دونم. وبلغت صادرات البرتقال في عام 1914 حوالي 1,533,861 صندوقاً.
التخزين والشحن
وكانت صناديق البرتقال تخزن في مخازن على رصيف الميناء، ثم تنقل بالمراكب الشراعية "الجرومة" إلى البواخر التي كانت تقف بعيدة في البحر بسبب طبيعة ميناء ياف؛. حيث كانت توجد حتى ما قبل الحرب في فلسطين اربع شركات كبرى تنقل البرتقال إلى موانئ المملكة المتحدة وهي: جمعية مصدري الثمار الحمضية العربية التعاونية. و( اللتيرس ) و(بردس ) و(جافا أورنج سندكيت ) هذا عدا شركات ( ورتش ليفانت لاين ) و( سفنسكا اورينت لاين ) و ( زغلوغا بولسكا ). وتشكلت في ذلك الحين هيئة رسمية درست حالة البواخر وارتأت ألا تقل السرعة المخصصة لنقل الحمضيات عن إحدى عشرة عقدة بحرية ونصف العقدة في الساعة، وأن لا يتراكم البرتقال في العنابر إلى أكثر من ثلاث عشرة طبقة، وأن تكون وسائل التهوية كافية، وأن يمنع شحن البرتقال على ظهر الباخرة، وألا تشحن بضائع أخرى في عنابر الثمار الحمضية.
الحرب العالمية الثانية وبداية التراجع
بلغت مساحة الأراضي الزراعية للحمضيات، وخاصة البرتقال في عام 1938 الى 300000 دونماً. وشهدت صادرات الحمضيات من 2.4 مليون صندوق عام 1931 إلى 13 مليون صندوق عام 1939 وهذا ما منح فلسطين في فترة الاحتلال البريطاني حوالي 23% من السوق الدولية. ولم يستطع اليهود أن يجاروا مستوى الإنتاج الفلسطيني إلاّ في أواخر عهد الانتداب. وعلى الرغم من ذلك، فقد بقي الإنتاج الفلسطيني من الحمضيات متفوقاً، كمّاً ونوعاً؛ حيث كان قطاع الحمضيات يشكل 21.3% من الإنتاج الزراعي العربي.
ازداد اعتماد الأسواق الأوروبية على برتقال يافا في فترة الحرب الأهلية الأمريكية
بيْد أن الحرب العالمية الثانية تسببت في تراجع هذه الزراعة، فنتيجة إتلاف كثير من البساتين أصبحت المساحة المزروعة في عام 1945 حوالي 244 ألف دونم يملك العرب منها 126 ألف دونم. كما تدنى معدل إنتاج الدونم من مائة صندوق قبل الحرب إلى 35 صندوقاً؛ وذلك لفقدان الأسمدة الآزوتية.
ومع زيادة أعداد المهاجرين اليهود، واندلاع حرب 1948 سقطت مدينة يافا في أيدي قوات الاحتلال الإسرائيلي، وفرّ معظم سكانها العرب. وتراجع الإنتاج وكذلك الأراضي المزروعة بالحمضيات بسبب ظروف الحرب وبسبب قلة الأسمدة وغلاء الزيوت اللازمة لتشغيل محركات البيارات. ولاحقاً استولت التعاونيات اليهودية على مزارع البرتقال وصارت تُدار من قبلها، وأصبح برتقال يافا رمزاً لـ"دولة إسرائيل الفتية"، كما جرى تسويقها..
الاحتلال وسرقة العلامة
واليوم، تزرع "إسرائيل" البرتقال في 182 ألف بستان في جميع أنحاء دولة الاحتلال الصهيوني. وبحسب المعطيات الإسرائيليّة الرسميّة، تصدر الدولة العبريّة حوالي 580 ألف طن من الحمضيات إلى خارج البلاد، الأمر الذي يدخل إلى ميزانية الدولة العبريّة مئات الملايين من الدولارات.
ويعتبر البرتقال اليافاوي اليوم، في الأسواق الغربية، أكثر المنتجات الزراعية تمثيلاً لجودة الإنتاج الزراعي الإسرائيلي؛ حيث تستغل "إسرائيل" الشهرة التاريخية لبرتقال يافا اليوم؛ فعلى كل حبة برتقال تصدّر إلى العالم يوجد ملصقٌ صغير كتب عليه "Jaffa"، منتزعة هذا الاسم من سياقه التاريخي، ومستمرة في نهج سرقة الثقافة وأريج البيارات الحزين.