براغماتية الغنوشي: تصعيد في الظاهر وسعي لتسوية في السر

براغماتية الغنوشي: تصعيد في الظاهر وسعي لتسوية في السر


07/08/2022

مختار الدبابي

بدأت المعارضة تفيق على الحقيقة الجديدة، وهي أن حكم قيس سعيد بات أمرا واقعا، وأن الرهان على إرباك علاقته بالخارج، والتخويف من دكتاتورية جديدة لم يفضيا إلى نتيجة. الغرب يتجه إلى الاعتراف بالوضع الجديد، فما يهمه هو الاستقرار مع المطالبة بتحسين بعض الشروط خاصة ما تعلق بقانون انتخابي يقوم على انتخاب الأفراد وليس القوائم.

وفي ظل رغبة الغرب في ضمان الاستقرار بتونس، وخاصة أوروبا التي تريد تأمين حزامها الجنوبي والاستعانة بنظام مستقر على وقف تدفق الهجرة، ستجد المعارضة نفسها أمام حقيقة التعامل مع منظومة الحكم الجديدة، وستسعى إلى تفاهمات وترتيبات مع قيس سعيد من وراء الستار. هي تضمن بقاءها في المشهد، وهو يؤمن اعترافها واقعيا بحكمه.

ستعلن النهضة مثلا عن مقاطعة الانتخابات المبكرة، لكن ليس من المستبعد أن تلجأ إلى عقد تحالفات من وراء الستار لتصعيد شخصيات غير معروفة بانتمائها إلى الحركة، أو شخصيات مستقلة، أو ذات تاريخ تجمّعي، أي من الحزب الحاكم قبل الثورة.

أعطى رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي في مقابلته الأخيرة مع فرانس 24 إشارة إلى تغيير جذري في موقف الحركة من المقاطعة حين قال إن “مشاركة حركة النهضة في الانتخابات التشريعية من عدمها مرهونة بنص القانون الانتخابي”، وهو ما يعني آليا أن هناك فرصة لتغيير الموقف لو وجدت الحركة إشارة من قيس سعيد. وهذا ممكن سياسيا.

قيس سعيد كان يرفض أي حوار في العام الماضي، ولا يفوت أي فرصة لتوجيه انتقادات مبطنة للنهضة، لأنه كان يسابق الزمن من أجل تثبيت نفسه في السلطة من خلال تنفيذ أجندته بدءا من الاستشارة مرورا بالاستفتاء وصولا إلى الانتخابات التشريعية دون الانتخابات الرئاسية.

حتى لو كان على خلاف جذري مع النهضة، فمن مصلحته التهدئة ولو مؤقتا، فمشاركة الأحزاب في الانتخابات التشريعية سيعطيها مشروعية شعبية وسياسية وخاصة اعترافا خارجيا. حين تشارك النهضة في الانتخابات بأي شكل كان بعناصر مكشوفة منها، أو عبر وجوه غير معروفة أو بدعم مستقلين، فهي تعترف بالانتقال السياسي الذي حصل رغما عنها.

الأمر سيختلف بالنسبة إلى قيس سعيد. فالخلاف سيصبح داخل الملعب الذي اختاره هو وبشروطه ووفق الأفق الذي رسمه، والذي يقوم على عنصرين رئيسيين:

الأول، هو النظام الرئاسي الذي يجعله الماسك بالسلطة لوحده دون منازعة من أي سلطة أخرى، ويتخلص من الإزعاج الذي حصل من الغنوشي بعد انتخابات 2019، حين سعى للسطو على الدور الدبلوماسي للرئيس تحت عنوان الدبلوماسية البرلمانية وأحيانا أخرى الدبلوماسية الشعبية.

أما الثاني، فهو نجاح الرئيس سعيد في جر الجميع إلى مربع الانتخابات على الأفراد، والتي تعني آليا تهميش الأحزاب وتهميش فرص تواصلها مع الناس ككيانات وجرها لاختيار أشخاص لديهم شعبية وحضور في الشارع بدلا من إجبار الناس على التصويت لفائدة قيادات لا شعبية لها ولا تواصل لها مع الشارع، قيادات لا تكاد تغادر مكاتبها ولقاءاتها السرية والعلنية.

كما سيكون من السهل على قيس سعيد أن يجر الأحزاب إلى مربع مشروعه القاعدي القائم على التصعيد من أسفل إلى أعلى من خلال إقرار مجلس الجهات (المناطق) كغرفة ثانية إلى جانب البرلمان، وفصل الوظائف بأن يهتم البرلمان بالقوانين التشريعية، ويناقش مجلس الجهات قضايا الناس ويتابع تنفيذ المشاريع التي أعلنت عنها الحكومة، وهو ما يعني عمليا تهميش البرلمان.

كانت حركة النهضة تراهن على أن قيس سعيد لن يسير في خطته لتغيير المشهد بهذا الشكل الدراماتيكي من خلال محاصرته بحملات إعلامية وتحركات سياسية وتحالفات واستدعاء ضغوط الخارج. الرجل نجح في مواجهة التحدي، ووضع الجميع أمام واقع جديد بما في ذلك الخارج الذي راهنت عليه حركة النهضة تحت عناوين فضفاضة بينها الدفاع عن الديمقراطية ومؤسساتها.

البيانات الأميركية والأوروبية “أملت” أن يكون الاستفتاء فرصة للحفاظ على الديمقراطية، وهو ما يعني أنها اعترفت به ومستعدة للتعاطي مع الخطوات القادمة، ولكن بأسلوب كلاسيكي يقوم على إظهار عدم الرضاء وتوجيه الانتقادات الخفيفة، واستباق القانون الانتخابي بتوجيه ملاحظات وعرض تمنيات بأن يكون معبرا عن مختلف مكونات المشهد السياسي. لكنها في الأخير ستعترف بالقانون الانتخابي وبنتائج الانتخابات البرلمانية المقررة في السابع عشر ديسمبر القادم، مع الحفاظ على مسافة النقد التي ترفع عنها الحرج سياسيا وتبقي قنوات تواصلها مع المعارضة الضعيفة التي لا حول لها ولا قوة أمام شخص مصمّم ومتحدّ.

وأمام احتراق أوراقها، ليس مستبعدا أن تغير النهضة خطتها من خلال دعوة مجلس الشورى الذي هو أعلى سلطة قرار في الحركة إلى عقد لقاء طارئ. الغنوشي دأب على مثل هذه الخطوة حين تضيق به السبل أو يريد أن يعمل استدارة في موضوع ما، أو يريد أن ينأى بنفسه عن تحمل المسؤولية.

لن يلوي مجلس الشورى العصا في يد “الأمير” والقائد والزعيم التاريخي، سيجد ألف مدخل لعل أبرزها مدخل “إكراهات الواقع” أو “الضرورات تبيح المحظورات”، وتجنب صدام جديد مع السلطة قد ينهي حركة لم تغادر بعد مخلفات صِدام 1991 مع الرئيس الراحل زين العابدين بن علي.

لن يقدر الغنوشي على مغامرة جديدة، فهو لن يجد أنصارا في صورة المريدين الذين غامروا بكل شيء لتنفيذ قراره وقرار المؤسسات التي كان يتحكم بها والتي قررت المواجهة مع قيس سعيد و”حررت المبادرة” لتتيح لكل أعضائها بأن يواجهوا كل حسب ظروفه وقدرته. أغلب أنصار النهضة الجدد التحقوا بها وهي في السلطة من أجل المناصب والمغانم حتى أنها تخلت عن المريدين القدامى وهمشتهم وأدارت ظهرها لهم.

سيعود الغنوشي إلى البراغماتية، وهذه البراغماتية قد تدفع النهضة إلى سيناريوهات من بينها القبول بسياسة الأمر الواقع وتبدأ بتجهيز نفسها للمشاركة في الاستحقاق الانتخابي وتبني تحالفات من وراء الستار لتصعيد شخصيات غير معروفة بنهضويتها وتدخل البرلمان ومجلس الجهات كقوة عددية لإزعاج قيس سعيد،

والفرضية الثانية والأقرب هي أن هذه البراغماتية قد تدفع الحركة إلى البحث عن وسطاء للتهدئة مع الرئيس سعيد لتجنب المواجهة.

يمكن أن تراهن على رجال الأعمال الذين فتحت معهم قنوات تواصل متينة خلال السنوات الماضية ليترشحوا للانتخابات ويحصلوا على دعم أنصارها، الذين ما يزال وزنهم مؤثرا.

أوراق المناورة كثيرة، المهم ألا تبدو النهضة وكأنها قد قبلت بالأمر الواقع، وفي نفس الوقت لا تترك الملعب خاليا لخصومها من اليساريين والقوميين الذين يريدون استثمار وجودهم مع قيس سعيد لمحاصرة الحركة واستعادة السيناريو المصري في التعامل معها، وهو السيناريو الذي جعلها تقدم كل التنازلات الممكنة لمنع حصوله من خلال ما بات يعرف بسياسة التوافق التي هي من صنع الغنوشي، وتقوم على المشاركة المحدودة في السلطة مقابل الأمان.

أما بقية المعارضة فهي نوعان، هناك معارضة كلاسيكية ستعلن المقاطعة مثل أحزاب نجيب الشابي (حزب الأمل) وعصام الشابي (الحزب الجمهوري)، وحزب حمة الهمامي (حزب العمال التونسي)، والبعض من حزب التيار الديمقراطي (شق الأمين العام الحالي الشواشي)، خاصة أنهم يعرفون أن حصولهم على مكاسب مثلما حصل في 2019 أمر صعب.

بقية المعارضة ستندفع نحو الدخول في المنظومة الجديدة والمشاركة بالانتخابات والقبول بأي مكاسب ولو صغيرة، المهم أنها في حماية النظام الجديد، وهذا يعني القوميين بصفة خاصة، حركة الشعب والمنشق عنها التيار الشعبي، الذين يراهنون على أن يكونوا اليد التي يحكم بها قيس سعيد خاصة أنه لم يشكل حزبا بعد، وأنصاره أقرب إلى الفوضويين الذين من الصعب أن تحتويهم الأحزاب.

عن "العرب" اللندنية



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية