قبيل أيام من انتهاء العام 2022 مرت الذكرى الأولى لموعد الانتخابات في 24 كانون الأول (ديسمبر) الماضي، في واقع لم يستجد فيه إلا القليل مما يُبشر بالتوصل لاتفاق ليبي - ليبي يقود البلاد إلى الانتخابات العامة؛ الرئاسية والبرلمانية، وفق ما هو مقرر تبعاً للاتفاق السياسي المنبثق عن ملتقى الحوار السياسي الليبي في جنيف.
حتى حكومة الوحدة المؤقتة المنبثقة عن الملتقى بقيادة عبد الحميد الدبيبة تحولت إلى عقبة أمام الانتخابات؛ حين ترشح الأخير في الانتخابات الرئاسية في موعدها السابق، في 24 كانون الأول (ديسمبر) 2021، ما أدى إلى تأجيل الانتخابات بعد تعقيد المشهد الانتخابي، الذي لم يحظ بقبول من المجلس الأعلى للدولة في الأساس.
التفاهم الغائب
يعبر خلاف الرجلين عقيلة صالح وخالد المشري، عن أزمة الانقسام وانعدام الثقة الكبيرة في ليبيا؛ حيث الأول رئيس مجلس النواب، الجهة التشريعية الوحيدة في البلاد وحليف الجيش الوطني بقيادة المشير خليفة حفتر، ولهما النفوذ في الشرق والجنوب، والثاني رئيس المجلس الأعلى للدولة، المحسوب على الإخوان المسلمين والذي كان حتى وقتٍ قريب الداعم الأبرز للدبيبة، وله نفوذ في الغرب الليبي.
وللشروع في إجراءات العملية الانتخابية يجب توافر القاعدة الدستورية التي تُجرى على أساسها الانتخابات، ويتطلب إنجازها توافق عقيلة صالح وخالد المشري، وفق ما قرره الاتفاق السياسي الليبي لعام 2015 (اتفاق الصخيرات)، الذي منح الشرعية لتمديد عمل مجلس النواب واستحدث المجلس الأعلى للدولة بديلاً عن المؤتمر الوطني المحلول.
ومنذ توقيع اتفاق الصخيرات الذي شرعن الانقسام الناتج عن انقلاب جماعة الإخوان وحلفائها من الجماعة المقاتلة والميليشيات "عملية فجر ليبيا" على الحكومة الشرعية المنبثقة عن مجلس النواب في عام 2014، لم ينجح الفرقاء السياسيون في الخروج من مربع الأزمة، رغم عديد المبادرات والوساطات الإقليمية والدولية. وزادت الأمور تأزماً بعد هجوم الجيش الليبي على العاصمة طرابلس في 2019، واستعانة حكومة الوفاق - آنذاك - بتركيا التي تدخلت عسكرياً عبر المرتزقة وجيشها لمنع الجيش الليبي من تحرير طرابلس من سطوة الميليشيات.
ومنذ ذلك جرت مياه غزيرة في بحر المشهد الليبي، أدت إلى تغيير التحالفات وظهور قوى سياسية جديدة. من أبرز ذلك توافق الرجل القوى وأحد قادة انقلاب 2014، فتحي باشاغا، مع مجلس النواب، ليتم تكليفه بتشكيل حكومة وطنية خلفاً لحكومة الدبيبة التي انتهت شرعيتها منذ عام، لكنّ الأخير تمسك بالسلطة بدعم من الإخوان وتركيا، وبات بقاؤه في منصبه عقبةً أمام الحل السياسي.
تفاهمات صالح - المشري
ويزيد المشهد السياسي تعقيداً كون الرجلين المنوط بهما إنهاء المراحل الانتقالية المتعاقبة لا مصلحة لهما في ذلك، وهي رؤية يتشاركها قطاع واسع من الليبيين في مختلف البلاد.
بفرض صحة ذلك نسبياً، فحتى الانتخابات لا تعتبر غاية في ذاتها، فهي وسيلة لتحقيق هدف استعادة الدولة ومؤسساتها وسيادتها، وهي أمور ليست محل اتفاق بين الفرقاء، خاصة بعدما سلم عبد الحميد الدبيبة أحد المطلوبين في قضية لوكربي للولايات المتحدة، وهي قضية يراها معظم الليبيين خرقاً لسيادة بلادهم، فضلاً عن إمعانه في تحقيق مصالح تركيا، ومن ذلك توقيع اتفاقية باطلة مع أنقرة للتنقيب عن النفط والغاز في المياه الإقليمية.
شهد العام المنصرم اشتباكات مسلحة متعددة في العاصمة طرابلس على خلفية الصراع على السلطة التنفيذية بين الميليشيات المؤيدة لعبد الحميد الدبيبة ومنافسه فتحي باشاغا
ويمكن النظر إلى الإجماع الليبي الواسع على رفض تسليم ضابط المخابرات السابق أبو مسعود عجيلة المريمي كبادرة أمل لتوافق الفرقاء، بضغط من فئات واسعة من الشعب، التي سئمت من استشراء الفساد وتردي الأوضاع الاقتصادية والأمنية.
حدث آخر يمكن قراءته ببعض التفاؤل، وهو تراجع رئيس مجلس النواب عن قرار إنشاء المحكمة الدستورية، والذي كاد أنّ يطيح بالتفاهم الأخير مع رئيس المجلس الأعلى للدولة حول المناصب السيادية وتشكيل حكومة وحدة مُصغرة تقود البلاد نحو الانتخابات العامة.
هذه المؤشرات الإيجابية مع الزخم الذي أحدثه تسلم المبعوث الأممي، عبد الله باتيلي مهام منصبه في طرابلس في أيلول (سبتمبر) الماضي، تعتبر بداية مقبولة للبناء عليها، إذا ما توافرت النية وقدم كل طرفٍ تنازلات.
وفي السياق ذاته طالب المبعوث والسفير الأمريكي ريتشارد نورلاند لدى ليبيا كلاً من عقيلة صالح وخالد المشري باستئناف الاجتماعات، بهدف التوصل إلى قاعدة دستورية لإجراء الانتخابات على أساسها، وهي الدعوة التي ما فتيء جميع الفاعلين في المشهد الليبي من القوى الإقليمية والدولية التأكيد عليها.
ويمثّل التواجد العسكري الأجنبي العقبة الكبرى أمام تنظيم الانتخابات؛ إذ إنّ وجود سلطات مُنتخبة يهدد الوجود العسكري التركي ومصالح أنقرة التي حمتها باتفاقيات باطلة مع حكومات طرابلس؛ حكومة الوفاق وحكومة الدبيبة، ولهذا فلن تقبل تركيا بتنظيم انتخابات تكون نهاية لنفوذها الواسع في غرب ليبيا.
يمثّل التواجد العسكري الأجنبي العقبة الكبرى أمام تنظيم الانتخابات؛ إذ إنّ وجود سلطات مُنتخبة يهدد الوجود العسكري التركي ومصالح أنقرة
من جانب آخر، لن ترضى القوى السياسية والعسكرية في المنطقة الشرقية والجنوب، بما لهم من دعم واسع في مناطق البلاد كافة، بانتخابات برلمانية فقط دون الرئاسية، كما هو الطرح المحبب لدى المجلس الأعلى للدولة. في موعد الانتخابات السابق، قدم القائد العام للقوات المسلحة الليبية، المشير خليفة حفتر، أوراق ترشحه في الانتخابات الرئاسية، وهو ما أثار حفيظة قوى سياسية في المنطقة الغربية، رغم ما يحظى به من تأييد واسع في مناطق الغرب الليبي.
الصراع المسلح
وشهد العام المنصرم اشتباكات مسلحة متعددة في العاصمة طرابلس على خلفية الصراع على السلطة التنفيذية، بين الميليشيات المؤيدة لعبد الحميد الدبيبة ومنافسه فتحي باشاغا، انتهت بسيطرة الموالين للدبيبة على طرابلس.
كما تكررت الاشتباكات الدامية التي شهدتها مدينة الزاوية في الغرب الليبي بين الميليشيات المتناحرة، فضلاً عن مظاهر الانفلات الأمني التي تسود مناطق سيطرة الميليشيات.
وفي كلمته الأخيرة بمناسبة الذكرى 71 لاستقلال ليبيا، قال المشير حفتر "لا يمكن للشعب أن يظل صامتاً على ما يحدث من إساءة لليبيين في ظل تواجد الأجسام السياسية التي عرقلت الانتخابات"، وأكد على أنّ القوات المسلحة أول من نادي "بانتخابات حرة ونزيهة وشفافة وعلى بعثة الأمم المتحدة تحمل مسؤوليتها لحل الأزمة الليبية".
تصريحات حفتر جاءت عقب جولة واسعة في عدد من مدن المنطقة الجنوبية، لاقى خلالها ترحيب كبير من مكوناتها الاجتماعية. ووجه حفتر كلمة إلى المنطقة الغربية، دعاهم فيها إلى "حوار ليبي ليبي ولم شمل الليبيين".
بناءً على ما سبق، لن يكون اتفاق رئيسي المجلسين؛ عقيلة صالح وخالد المشري ضامناً للذهاب إلى الانتخابات، خاصة بعد توتر علاقة المشري بعبد الحميد الدبيبة، إلا أنّ الخروج بقاعدة دستورية سيجعل القوى الإقليمية والدولية تلتف حولها، وهو الدعم الذي بإمكانه تحجيم النفوذ التركي وعراقيل الدبيبة للبقاء في السلطة، خصوصاً إذا أوفت واشنطن بعهدها بمعاقبة كل من يعرقل الانتخابات.
وتبقى الآمال معلقة على تفاهم بين رئيسي المجلسين بخصوص المناصب السيادية والقاعدة الدستورية للانتخابات، أسوةً بنجاحهما في الاتفاق على تعيين رئيس للمجلس الأعلى للقضاء، وهو ما ستكشف عنه الأيام في العام الجديد.
مواضيع ذات صلة:
- ليبيا: ما مكاسب الدبيبة من تسليم المريمي إلى واشنطن؟
- تسليم المريمي إلى الولايات المتحدة يفجر تناقضات التيار الإسلاموي في ليبيا