الى أين وصل مشروع التّمكين الإسلاموي في تونس؟

الى أين وصل مشروع التّمكين الإسلاموي في تونس؟


28/04/2021

أحمد نظيف

في تشرين الأول (أكتوبر) 2002، أعلنت حركة النهضة طردها أحد قادتها المؤسسين هو الشيخ صالح كركر، أحد أهم الرموز التنظيمية خلال مرحلة الصراع مع الدولة بين 1881 و1987، بتهمة "منازعته منهج الحركة التّغييري قولاً وعملاً". ولئن لم يفصل القرار الصادر عن قيادة الحركة بزعامة راشد الغنوشي، كيفية المنازعة ولا طبيعة منهج النهضة التغييري، إلا أن القرار كان حينذاك متوقعاً، في أعقاب مجموعة المقالات التي دأب صالح كركر على نشرها في ملحق جريدة "الحياة" اللندنية، والتي دعا فيها إلى الفصل بين العمل الديني والسياسي داخل الحركة وتحويلها كلياً إلى حزب سياسي أو إلى جمعية دعوية، على أن يتوجه أعضاؤها ممن يريدون العمل السياسي الى العمل ضمن أحزاب علمانية.

شكلت هذه الدعوة الصادرة عن قيادي إسلامي عُرف بتطرفه تجاه الدولة التونسية شبه العلمانية، صدمة في صفوف التيار الإسلاموي التونسي والعربي، فيما تجندت أقلام أعضاء من حركة النهضة ومن فروع جماعة الإخوان المسلمين للردّ على "الدعوة العلمانية لصالح كركر"، وما زال أرشيف "الحياة" حافلاً ببقايا تلك المعركة. لكن الشاهد من هذه المقدمة الطويلة، هو القفزة البهلوانية التي قام بها راشد الغنوشي ورفاقه من الذين وقّعوا على قرار طرد كركر ذات خريف في منفى بارد، بعدما وصلوا إلى السلطة، وتحديداً عام 2016، عندما أعلنوا عن فصلهم بين الدعوي والسياسي، ليبقى الإعلان اللفظي مجرد إعلان تجاوزت به الحركة مصاعب تلك المرحلة التي أعقبت سقوط حكم الجماعة الإخوانية في مصر وموجة عريضة من تصنيف الإسلاميين على لوائح الإرهاب العربية والعالمية، واستبقت به صعود دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. لكن هل وقع فعلاً الفصل بين الدعوي والسياسي؟

لا يبدو ذلك على الأقل من الشواهد القليلة التي يكشف عنها السلوك السياسي للحركة الإسلاموية منذ ذلك التاريخ، إذ ينتشر أعضاؤها وقياداتها في مفاصل العمل الديني بين المساجد والجمعيات والمراكز، وتجيّر النشاطات الدينية لفائدة العمل السياسي، والغبش يكلل كل هذه الأنشطة وتمويلاتها السخية القادمة أساساً من حزام الحلفاء الخارجي ومن جيوب الطبقة التي استمالتها الحركة بعد سيطرتها على السلطة، من فئة رجال الأعمال الخائفين ورواد الأعمال الصاعدين، بفضل شبكات المحاسيب التي استشرت في جسد قطاعات مصابة بالمحسوبية أصلاً منذ عقود.

لكن الأمر وإن بدا هرباً من مصاعب مرحلة سياسية وإقليمية عسيرة (2013-2019)، إلا أنه لم يكن بعيداً عن تبادل الأدوار التاريخي والتقليدي الذي تقوم به أي جماعة إخوانية ضمن ما يُعرف بمشروع التمكين الإستراتيجي، حيث يقوم التمكين على المراوحة بين الشدة واللين واستعمال "التقية السياسية" بشكل غير محدود، فالغاية التمكينية تبرر الوسيلة السياسية، حتى وإن بدت هذه الوسيلة في الظاهر مخالفة للتوجهات الكبرى للجماعة. فالتمكين الإخواني – كما نظر له علي الصلابي في سفره الكبير ''فقه النّصر والتمكين" – يقوم على أربع مراحل هي: الدعوة والإعداد والمغالبة والتمكين، وإن كانت هذه المراحل تبدو منفصلة زمنياً على المستوى النظري، إلا أنها شديدة التداخل في الواقع، ويمكن أن تسير سيراً متوازٍياً، بحسب اختلاف السياقات السياسية والشرائح والقطاعات المستهدفة، لكن الثابت أن التمكين الإخواني لا يستهدف الجموع بقدر ما يستهدف الشرائح المهيمنة، أي النخب الحاكمة.

كانت النهضة ـ منذ عودتها الى الحياة السياسية عام 2011 ـ تدرك جيداً أن حصولها على التفويض الشعبي في الانتخابات لا يمكّنها تماماً من السلطة. فموازين القوى داخل النخب الحاكمة ومراكز القوى ما زالت مختلة ضدها. يقول الغنوشي: "لا الوضع الإقليمي ولا الدولي يسمحان اليوم للإسلاميين بأن ينفردوا بالسلطة. والوضع الداخلي يساعد في ذلك؛ ذلك أنّ النخبة التونسية ـ على نحو عام ـ ليست مع الإسلاميين، بقطع النظر إن كانت محقة في موقفها أم لا. كنت دائماً أقول لإخواني: لا يمكنكم أن تحكموا مجتمعاً رغماً عن نخبته (...) لا يمكننا أن نصنع نخبة موالية لنا عبر اللجوء إلى القمع والرعب. والدليل على ذلك أنّ النظام البورقيبي، ومن بعده بن علي، لم يستطيعا أن يطوّعا النخبة على نحو ما يريدان. إنّ مسألة موازين القوى هي فكرة أساسية في الثقافة السياسية للحركة. ويجب أن تكون الأغلبية مدعومة بنخبة فاعلة، بمعنى أنّ الكمّ وحده غير كافٍ. لا بد من توافر الحد الأدنى من الكيف إلى جانبه. ماذا تفعل بهذه الجموع التي حشدتها حولك في حين أنّ النخب جميعاً (الجيش، والشرطة، والإدارة، والآداب، والإعلام، والمال، والفنون، فضلاً عن العلاقات الدولية) ليست إلى جانبك، ولا تعمل لفائدة الإسلاميين. ماذا تفعل بهذه الجموع التي حشدتَها حولك؟ لن تفعل بها شيئاً، بل على العكس يمكن أن تقودها إلى محرقة". 

كان هاجس التجربة الجزائرية ماثلاً أمام الغنوشي ورفاقه. "ليس بالصندوق وحده تحوز السلطة"، كان هذا شعار المرحلة بالنسبة الى النهضة. أما برنامج عملها فيتلخص في الإجابة: "كيف تستميل النخب الحاكمة إلى صفنا؟ أم نمهلها حتى نستبدلها ونصنع غيرها؟". في الحقيقة كان برنامج عمل الحركة قائماً على استمالة الراغبين واستبدال العصاة، في كل المواقع: في الإدارة والمراكز المالية والمواقع الأمنية والعسكرية والثقافية. ويبدو أن الغنوشي – بحكم الكبوات العديدة التي أصابته خلال مسيرة سياسية جاوزت النصف قرن – أدرك أن مفتاح قطاع واسع من النخب هو الطمع والخوف بدرجة أقل وليس الصدام، وقد نجح نسبياً في استمالة جزء من هذه النخب، لكنه غير واعٍ أن النخب، وبخاصة النخب البيروقراطية، غير قادرة على القيام بأدوار الهيمنة بذاتها، وإنما كانت دائماً أدوات ضمن مشروع سياسي واجتماعي وفكري، هو في الحالة التونسية، المشروع الذي وضعته الدولة في ستينات القرن الماضي ووضعت لأجله نسقاً معرفياً وتعليمياً لإعادة انتاج نخب تقوم عليه، لكن الغنوشي يريد اليوم توظيف هذه النخب لخدمة مشروع المقابلة تماماً لمشروع الدولة وهو أمر أقرب للمستحيل.

عن "النهار" العربي



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية