الهيمنة الأمريكية ودورها في صناعة الحالة الجهادية

الهيمنة الأمريكية ودورها في صناعة الحالة الجهادية

الهيمنة الأمريكية ودورها في صناعة الحالة الجهادية


23/01/2024

على الرغم من كثرة الكتابات التي تناولت ظاهرة الإسلام السياسي بمكوناته المختلفة، إلا أنّ العديد منها يتناولها كأنّها ظاهرة نشأت في الفراغ، أو من دون أسباب واقعية مثلت مناخاً أسهم في وجودها واستمرارها، حيث يتم تناول الحركات والتيارات التي تعبر عن تلك الظاهرة في الغالب من زاوية أفكارها ومنطلقاتها الدينية، وإهمال السياق الذي نشأت خلاله، والأسباب الواقعية التي تدعم حضورها. 

وبخصوص الحركات الجهادية في صورتها المعولمة، والتي تمثل الموضوع الأساسي الذي نتناوله هنا، فإنّه من خلال الاطلاع على أدبيات هذه الحركات يتضح أنّ من أهم الأسباب الواقعية التي أدت إلى ظهورها سياسة الهيمنة الأمريكية التي تتخذ صوراً ومظاهر وأدوات عديدة، وتهدف إلى السيطرة على العالم من أجل خدمة أهداف أمريكا ومصالحها. فما هو مفهوم الهيمنة، ولماذا تلجأ أمريكا إلى ممارستها، وما الجذور والأسس المادية والفكرية التي تقوم عليها الهيمنة، وما مظاهرها وأدواتها، وهل هناك تأثير لهذه السياسة على حضور الحالة الجهادية في العالم الإسلامي؟

بين النص والواقع... سياقات تشكُّل العنف

تقوم ظاهرة الإسلام السياسي على دعامتين أساسيتين؛ هما النص والواقع، سواء كان هذا الواقع داخلياً أو خارجياً، وسواء كان تاريخياً أو معاصراً، حيث يمثل الواقع ذلك المناخ الذي تنشأ فيه تلك الحركات وتتبلور إيديولوجيتها وترتسم أهدافها ومشروعاتها، ويمثل أحد الدوافع المهمة لاستمرارها في ممارسة أنشطتها ويؤثر في درجة حدتها، كما يمثل الساحة التي تستدعي خلالها تلك الحركات النص الديني وتقوم بإنزاله على ذلك الواقع، بغضّ النظر عن مدى صحة ودقة عملية توصيف الواقع وإنزال النص عليه "إنّ الفكر لا يتولد في تجدّداته وتعدّلاته وتغيراته، أي لا يتولد في حركته، إلا باتصاله بواقع معيش، وبنظر إلى أوضاع هذا الواقع المعيش"1، وإغفال هذ الواقع وإهمال الأسباب الموضوعية التي تؤدي إلى ظهور تلك الحركات وتتسبب في استمرارها؛ إنّما يؤدي إلى غياب جانب مهم يساعد على تفسير وفهم الظاهرة وآليات التعاطي معها، ويظهر تأثير الواقع في خلق الحركات الجهادية العنيفة من حيث إنّه يوفر لها المساحة التي تجعلها تنتقي من النصوص والأحكام ما يتناسب مع ميولها واستعدادها نحو العنف، ويعطيها من المبررات ما يرجح كفة هذا الخيار لديها "كل فكر إنّما يحتوي في التوظيف الحركي على إمكانات غلو وإمكانات اعتدال، والواقع أو الظرف التاريخي أو موقف جماعة معينة ورؤيتها، هو ما ينعش إمكانية من هذه الإمكانيات أو يضمرها"2.

وإذا أردنا أن نتعرف على تأثير الواقع، خاصة ما يتعلق بسياسة الهيمنة الأمريكية، على تلك الحركات الجهادية وعلى ممارساتها وأهدافها، فإنّه يمكننا الاطلاع على بعض الأدبيات والكتابات الخاصة بقيادات ومنظري تلك الحركات، إذ يبدو جليّاً من خلالها أنّ نشاطاتها وممارساتها المختلفة لا تنبع فقط من نصوص دينية وأحكام فقهية، ولكن من خلال واقع معين تتفاعل معه وتقوم بتوصيفه بشكل ما، ثم تقوم باستدعاء تلك النصوص والأحكام الملائمة من وجهة نظرها وإنزالها على ذلك الواقع، ومن ثم تحديد أهداف معينة والقيام بممارسات لتحقيق تلك الأهداف، وسوف نستعرض بعضاً من هذه الكتابات بعد الحديث عن مفهوم الهيمنة ومظاهرها وجذورها.

مفهوم الهيمنة الأمريكية ومظاهرها 

الهيمنة هي تعبير في الأصل عن غريزة البقاء داخل الإنسان، والتي من أجلها يتصارع ويسعى جاهداً لامتلاك أكبر قدر من القوة والسيطرة التي تساعده على البقاء، وانتقلت هذه الغريزة من الفرد إلى المجتمع حيث تجلت في رغبة الدول والأمم في السعي نحو امتلاك القوة لضمان البقاء والاستمرار، ولذلك فسياسة الهيمنة هي سياسة موغلة في القِدم اتخذتها دول وإمبراطوريات عديدة، قديماً وحديثاً، هدفاً لها يدفعها نحو العمل على السيطرة والاستحواذ "تُعدّ الهيمنة بالأساس تطلعاً وطموحاً قبل كل شيء، وأصبحت بتعاقب الأجيال من صميم التفكير لبعض الشعوب الطامحة لتحقيقها...، والهدف هو فرض السيطرة وضمان المصالح وإعلاء الذات القومية"3، ويشير مفهوم الهيمنة في أحد معانيه إلى "السيطرة والتحكم من قبل قوة عظمى قادرة على توجيه النظام الدولي وفق قواعد معينة ومتفق عليها، يشاركها في هذا النظام مجموعة من القوى تمتلك من القدرات ما يؤهلها لأن تكون إحدى قوى النظام غير أنّ قدراتها لا تمكنها من تحدي القوة العظمى"4، ويعرّف المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي الهيمنة بأنّها "قدرة مجموعة اجتماعية على توجيه المجتمع سياسياً وأخلاقياً" ويرى أنّ المجموعة الاجتماعية المهيمنة تعبّر عن سيادتها بطريقتين هما: "الهيمنة"، و"القيادة الثقافية والأخلاقية"5.

 لكنّ الهيمنة الأمريكية التي برزت منذ أوائل القرن العشرين وتجلت بوضوح مع نهايات ذلك القرن بعد انتهاء الحرب الباردة والتحول إلى زمن القطب الواحد المسيطر على العالم، تمثل أقوى تجارب الهيمنة عبر التاريخ من حيث شموليتها وقوتها وقدرتها على التأثير، وتهدف الهيمنة الأمريكية إلى فرض نموذج سياسي واقتصادي وثقافي وقيمي خاص يتوافق مع مصالحها على العالم كله، بطريقة تضمن بها سيطرتها على القرار الدولي، وتتخذ الهيمنة الأمريكية مظاهر وأدوات متعددة تجمع بين وسائل "الإجبار" ووسائل "الموافقة"، حيث تستخدم أدوات الهيمنة العسكرية أحياناً متمثلة في التدخل العسكري واستخدام القوة المسلحة وإنشاء القواعد العسكرية في بعض الدول، والهيمنة السياسية من خلال التدخل في شؤون الدول الأخرى بمبررات مختلفة، والعمل على التقليل من سيادة الدول الوطنية وإحداث الخلافات بين الدول لضمان عدم قيام أيّ نوع من الاتفاق أو الوحدة فيما بينهم، والهيمنة الاقتصادية من خلال التحكم في الاقتصاد العالمي وفرض نموذج اقتصادي معين، والهيمنة الثقافية من خلال العمل على نشر القيم والمبادئ الأمريكية "حيث تصدر أمريكا إلى بلاد العالم – وخاصة العالم الثالث – أفلامها السينمائية ومسلسلاتها التلفزيونية وأسطواناتها ورقصاتها وأزياءها"6، وتتم الهيمنة في صورها الاقتصادية والثقافية والاجتماعية تحت شعار العولمة، ذلك المصطلح الذي تم صكّه بعد انتهاء الحرب الباردة، والذي يعبر عن طبيعة النظام العالمي الجديد بقيادة أمريكا كقطب واحد مسيطر على العالم "أضحى التعامل مع العولمة أحياناً كمرادف لمصطلح الهيمنة الأمريكية، في مجالها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي"7، لكنّ العولمة تتم في إطار خدمة سياسة الهيمنة من خلال فرض النموذج الأمريكي في السياسة والاقتصاد والثقافة بما يخدم المصالح الأمريكية، وليس بالشكل الذي يتم من خلاله تبادل الثقافات والقيم والمصالح بين الدول والمجتمعات كما هو المفترض.   

جذور الهيمنة الأمريكية

مرت أمريكا بمراحل مختلفة من حيث علاقتها مع الدول الأخرى، فقد كانت طيلة القرن التاسع عشر ملتزمة بسياسة العزلة عن شؤون الدول الأخرى، وفقاً لمبدأ مونرو 1823م من جهة، الذي يقضي بعدم تدخل الدول الأوروبية في شؤون أمريكا وعدم تدخلها هي في شؤون تلك الدول كذلك، ومن جهة أخرى لتركيزها بعد انتهاء الحرب الأهلية الأمريكية 1861 – 1865م على إعادة تعمير ما خلفته الحرب من دمار وانقسام داخلي، وعلى تنمية الاقتصاد والبحث عن مزيد من الموارد الطبيعية في الداخل، ومنذ نهايات القرن التاسع عشر بدأت تخرج أمريكا عن سياسة العزلة وتتدخل في شؤون بعض الدول الأخرى داخل القارة الأمريكية وفقاً لمبدأ مونرو كذلك الذي يقضي بحقها في التدخل حال تعرض مصالحها للخطر بسبب ممارسات دولة أخرى، ومع بدايات القرن العشرين وتحول أمريكا إلى واحدة من أقوى الدول اقتصادياً وعسكرياً، وفي سبيل الحفاظ على مصالحها المتنامية والعمل على زيادة قوتها، برز طموحها نحو أن تكون قوة مهيمنة ومسيطرة، وظهر ذلك مع الحرب العالمية الأولى، لكن على الرغم من هذه التطورات فيما يتعلق بمشروع الهيمنة؛ إلا أنّ فكرة الهيمنة لم تكن وليدة تلك التطورات، ولكنّها فكرة قديمة وراسخة في العقل الأمريكي منذ القرن السابع عشر، وربما يكون من الضروري البحث في جذور تلك الهيمنة، والتعرف على أسباب وبداية نشأتها وكيف ترسخت في العقل الأمريكي، وكيف طغت على السياسة الخارجية الأمريكية "ورغم أنّ ترجمة هذا المشروع لم تتضح بشكلها الجلي إلا في العقود الأخيرة، إلا أنّ المتتبع للتاريخ الأمريكي سيجد أنّ هذا الاعتقاد مترسخ في الذهنية الأمريكية منذ قيام الاتحاد الفيدرالي الأمريكي"8.

بدأت محاولات استكشاف العالم الجديد "أمريكا" خلال القرن الخامس عشر بوساطة رحلات المستكشفين الإسبان والبرتغاليين الذين كانوا يبحثون عن طرق جديدة للتجارة مع الشرق، واكتشاف أراضٍ وبلاد جديدة لأهداف استعمارية بحثاً عن مصادر جديدة للمعادن والثروات الطبيعية، وبعد أن تم اكتشاف أمريكا وتبين لهم أنّها قارة جديدة تماماً مختلفة عن العالم القديم "أفريقيا وآسيا وأوروبا"، وبعد أن أقام الإسبان والبرتغاليون عدداً من المستعمرات في تلك الأرض بعد مواجهات مع السكان الأصليين، تولدت الرغبة لدى عدد من الدول الأوروبية الأخرى وهي فرنسا وإنجلترا وهولندا والسويد في إرسال الأساطيل البحرية نحو العالم الجديد للاستفادة من ثرواته الكبيرة، وأقامت كل منها مستعمرات اختلفت أعدادها ومساحاتها وإمكاناتها، ثم بعد أن احتلت إسبانيا البرتغال صارت المستعمرات البرتغالية في أمريكا ملكاً لإسبانيا، وصارت مستعمرات فرنسا كذلك ملكاً لإنجلترا بعد أن هزمت فرنسا في الحرب، وبالتالي صار التواجد الأكبر في أمريكا حتى النصف الأول من القرن الثامن عشر من نصيب إنجلترا وإسبانيا حيث كانت مستعمرات هولندا والسويد قليلة مقارنة بهما، ثم خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر تنازلت إسبانيا عن مستعمراتها للمستعمرين من أصل إنجليزي، ومع توالي حركة الهجرة من أوروبا إلى أمريكا على مدار (3) قرون منذ القرن السادس عشر، وخاصة من إنجلترا التي كانت تمثل أكبر حركة هجرة مقارنة بالدول الأخرى؛ صار أغلب المقيمين في أمريكا من أصول إنجليزية.

وإذا أردنا البحث في جذور سياسة الهيمنة الأمريكية، وكيف نشأت، ولماذا أصبحت راسخة داخل العقل الأمريكي، فإنّه يمكننا الحديث عن عاملين رئيسيين؛ الأول ديني، والثاني مادي اقتصادي:

أوّلاً: العامل الديني

كان واقع المجتمع الإنجليزي حتى القرن السادس عشر يتسم بالاستبداد السياسي، والاضطهاد الديني للمنتمين للمذهب البروتستانتي نتيجة آرائهم الدينية المعارضة للمذهب الكاثوليكي، كما كان يتسم بالفقر وسيطرة مجموعة من النبلاء على الثروة، وعندما تم اكتشاف العالم الجديد بدأت حركة الهجرة من جانب العديد من الطوائف البروتستانتية بحثاً عن أرض جديدة زاخرة بالثروات والموارد الطبيعية، يمارسون فيها حريتهم، ويقيمون عليها مجتمعاً على أسس جديدة يخلو من الاستبداد والاضطهاد، ويقوم على أفكار فلاسفة التنوير التي كانوا متأثرين بها حول الحرية والعدالة والمساواة، وكانت أمريكا مقسمة إلى شمال وجنوب، وكل منهما به عدد من الولايات، وذلك قبل الحرب الأهلية التي انتهت بسيطرة الشمال على الجنوب وتوحيد البلاد، وكان الشمال مسيطراً عليه من قبل البروتستانت الذين ساهمت أفكارهم في صياغة العقل الأمريكي "ومن بين الدفعة الأولى للمستوطنين سوف تنبثق السمات المؤسسة للإيديولوجية الأمريكية"10، حيث كانت طوائف البروتستانت المختلفة، والمتباينة فيما بينها من حيث درجة التشدد، تمثل الغالبية المسيطرة على الشمال، وقد كان لدى هؤلاء البروتستانت صورة ذهنية عن أنفسهم وقناعات معينة ساهمت بدور كبير في تشكيل العقل الأمريكي وفي تحديد فلسفته وسياسته الداخلية والخارجية.

وهذه الصورة الذهنية لها بعض السمات، منها أنّهم يرون أنفسهم أنّهم شعب الله المختار، وأنّهم مؤيدون من الله، وأنّهم مؤهلون لحكم العالم "لقد نبتت إذاً في المبدأ الأساسي للطلائع الآتية من إنجلترا واسكتلندا في الأعوام الـ (10) الأولى من القرن السابع عشر، إنّه مبدأ كلفاني – نسبة إلى كلفن المصلح الفرنسي – يقول إنّه إن سمح الله أن يجتمع في الأرض الأمريكية شعب من رجال ونساء اختيروا من قبل الله، فذلك لأنّه مُناط بهذا الشعب حكم العالم ذات يوم"11، وكان لديهم تصور عن الأرض الجديدة التي هاجروا إليها بأنّها أرض الميعاد، وأنّ هجرتهم تلك لها طابع ديني وليست فقط لمجرد أهداف اقتصادية "فاكتسبت الهجرة إلى أمريكا بالنسبة إليهم المعنى الذي عرفته لدى المسلمين، أي كانت رحيلاً موحى به من الله من أجل بناء صهيون جديدة... لقد كانوا مأخوذين بقناعة ألا وهي أنّهم يجسدون قدراً سماوياً... فكان كل عضو منهم يرى أنّ الشعب الجديد هو شعب الله، وأنّ كل خصم – أيّاً  كان – يختلف معهم حول هذا النموذج اعتُبر عدواً لهم"12، من هنا تولدت فكرة الاستثنائية الأمريكية التي تعني أنّ الأمة الأمريكية متميزة ومتفردة عن الأمم الأخرى، وأنّها تمتلك رسالة ومهمة لتغيير العالم، وهذا ما خلق لديها، كعامل أول، طموحات الهيمنة والسيطرة وشكل سياستها الخارجية على هذا الأساس "بنجامين فرانكلين رأى أنّ الولايات المتحدة سوف تلد مجتمعاً شاملاً يعم الكون، فالمؤسسات والعادات والمبادئ الأمريكية مكرسة لكي يتم تطبيقها في كل مكان... وباعتباره بلداً نموذجياً كانت أمريكا بالنسبة إلى مواطنيها تسمو على كل الأمم الأخرى، ومن أجل ذلك كانت مدعوة لكي تحل في نهاية الأمر محل تلك الأمم بشكل نهائي"13، بل إنّ رؤية أمريكا للهيمنة لا تقوم فقط على فكرة الاستحقاق النابعة من التفرد والتميز، ولكنّها ترى أنّها واجب ومهمة مقدسة عليها القيام بها لمصلحة العالم "يصرّح القس الأمريكي راينهولد نيبور في كتابه (الإيمان والسياسة) أنّه من الواجب على الولايات المتحدة أن تتدخل في شؤون العالم، إذ إنّ ما تراه أمريكا لمصلحة العالم، وإنّ قوة أمريكا ومصلحتها هي أيضاً مصلحة العالم، ويجب علينا ألّا نتردد في استعمال تلك القوة، أو أن نصغي لشعارات الشعوب الضعيفة"14.

ثانياً: العامل الاقتصادي

بجانب أنّ الهدف الديني كان دافعاً رئيسياً نحو الهجرة إلى العالم الجديد، فإنّ الهدف الاقتصادي كان دافعاً مهماً كذلك، بل كان هو الهدف المشترك بين كل الوافدين إلى ذلك العالم من كل دول أوروبا، سواء كانوا يمثلون الملوك أو الإقطاعيين أو الطوائف الدينية المضطهدة، وقد تضافر العاملان "الديني والاقتصادي" وتولد عنهما سياسة الهيمنة التي تنطلق من أساس فلسفي يتمثل في الفلسفة البراغماتية التي شكلت العقل الأمريكي وسياسته الداخلية والخارجية، والتي سوف نتعرض لأبرز سماتها بعد استكمال الحديث عن دور العامل الاقتصادي.

بما أنّ المذهب البروتستانتي كانت له الغلبة في شمال أمريكا الذي استطاع السيطرة على الجنوب بعد الحرب الأهلية، كما وضحنا سلفاً؛ فإنّ هذا المذهب كان له دور كبير في خلق نظام رأسمالي تمثله طبقة رأسمالية مسيطرة على الدولة ونظامها السياسي وتعتمد على الاحتكار من خلال مجموعة من كبار الرأسماليين، حيث من وجهة نظر بعض العلماء هناك ارتباط كبير بين طبيعة المذهب البروتستانتي وبين النظام الرأسمالي، فيرى عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر أنّ هناك تشابهاً بين قيم البروتستانتية وبين القيم التي تقوم عليها الرأسمالية، فالعمل الدؤوب والسعي إلى الربح هما قيمتان يحض عليهما المذهب البروتستانتي، ويجعل منهما واجباً دينياً وطريقاً للحصول على الرضا الإلهي ودليلاً عليه في الوقت ذاته15.

ومن ثم تولد عن هذا المذهب نظام رأسمالي، وظهرت طبقة رأسمالية تسعى إلى الربح ومراكمة رأس المال وتعتمد على الاحتكار، سواء في داخل أمريكا من خلال السيطرة على الاقتصاد الداخلي، أو خارج أمريكا من خلال السعي لفتح أسواق جديدة واستغلال ثروات وموارد شعوب ودول أخرى والسيطرة عليها، وأصبحت الطبقة الرأسمالية هي المسيطرة على الدولة في أمريكا "لقد تحققت السيادة الكاملة للنظام الرأسمالي، وخضعت البلاد للمناهج الرأسمالية في إدارتها وتفكيرها"16، ومن ثم تولدت لدى هذه الطبقة مصالح سعت إلى حمايتها بكل الوسائل، ومنها السعي دائماً إلى السيطرة وامتلاك القوة لضمان البقاء، ومن أجل ذلك كان ضرورياً أن يتخلى المجتمع الأمريكي عن أفكار التنوير التي تأسس عليها وشكّلت عقل الآباء المؤسسين، والتي كانت تعلي من قيم الإخاء والعدالة والمساواة، وتحترم حرية الفرد وتعلي من شأنه، حيث كانت بحاجة إلى فلسفة جديدة تعبّر أوّلاً عن الشخصية القومية الجديدة التي تولدت بعد إعلان الاستقلال عن إنجلترا في القرن الثامن عشر، وعن الواقع السياسي والاجتماعي الجديد، وثانياً لتخدم وتدعم مصالح الطبقة الرأسمالية المسيطرة، من هنا ظهرت الفلسفة البراغماتية التي مثّلت الفكر الأمريكي الرسمي، والتي تطورت على مدى القرن العشرين وأصبحت نظرة كليّة ازدادت نضجاً وشمولاً مع توالي الفلاسفة والعلماء17، وهي تمثل رؤية للحياة والإنسان تدعم المصالح الرأسمالية، وتدعم الصورة الذهنية الراسخة في العقل الأمريكي، وتدعم مشروع الهيمنة الذي يتأسس عليهما. 

أبرز أفكار الفلسفة البراغماتية

تقوم الفلسفة البراغماتية على بعض الأفكار التي عبّر عنها عدد من الفلاسفة والمفكرين الأمريكان، من أبرزهم شارل ساندرز بيرس، ووليم جيمس، وجون ديوي، ومن هذه الأفكار أنّه لا توجد قيم ولا مبادئ ثابتة في السياسة والحياة عموماً، لكنّ المصلحة والمنفعة هي الغاية، وهي المعيار الحاكم الذي يميز بين الحق والباطل أو بين الخير والشر، وصلاحية شيء أو فعل ما تتحدد حسب ما يحققه من منفعة للفرد أو المجتمع "وهكذا يسقط الالتزام المبدئي، ويغدو المرء حراً، ديناميكياً في حياته وعلاقاته وليس جامداً"18، ومن الأفكار البراغماتية أيضاً أن تكون هناك دينامية في إعادة تفسير وتأويل التقاليد والموروث من أفكار وأخلاقيات وصياغتها بما يخدم المصلحة الذاتية، أيضاً تقضي الفلسفة البراغماتية أنّ من الضروري إعادة صياغة معتقدات وأفكار الآخرين، من خلال خلخلة معتقداتهم وأفكارهم الخاصة، وفرض أفكار ومعتقدات أخرى بما يساعد في السيطرة عليهم وخدمة مصالح المسيطِر، فمن وجهة النظر البراغماتية "الاعتقاد هو حلبة الصراع والهزيمة والانتصار"19، ويتم ذلك سواء على مستوى المجتمع الداخلي أو المجتمعات والشعوب الأخرى.

كما تنظر البراغماتية إلى الفرد على أنّه آلة لا يتمتع بالحرية سوى في إطار محدد وليس له حرية مطلقة، بينما الحرية هي حرية الطبقة الرأسمالية المسيطرة التي تمكنها من تحقيق أهدافها دون أيّ أطر أخلاقية، وتنظر إلى الإنسان على أنّه ليس لديه وعي أو شعور أو إرادة أو خيال، وأنّه ليس لديه القدرة على التحكم في أفعاله، وأنّ سلوكه يشبه فئران التجارب ليس سوى ردود أفعال حركية، فهو مثل الحيوان يمكن تعليمه بعض السلوكيات من خلال تعويده على الالتزام بها لتصبح مع الوقت هي أخلاقه وعقائده وفكره، بحيث يتحول المجتمع إلى قطيع يمكن التحكم فيه من جانب السلطة التي يجب أن تكون للأقوى "لندع إرادة الدولة تعمل بدلاً من إرادة الفرد... لكي نبقي عليهم جهلاء حتى لا يتعلموا لسبب ما التفكير في شيء غير ما اعتادوا عليه"20، ووفق الرؤية البراغماتية أيضاً فإنّ الحق يمتلكه الشعب القادر على قهر الشعوب الأخرى، كذلك لا وجود لحقوق إنسان كمبادئ عامة طالما لا تعود بالنفع على أصحاب هذه الرؤية، ومن أفكار البراغماتية كذلك وجوب الطاعة غير المشروطة للسلطة، وإلا فالردع هو الإجراء المناسب، حيث تنظر إلى الإنسان كما يراه توماس هوبز على أنّه شرير بطبعه وغير عقلاني، ولا بدّ من وجود سلطة أعلى منه تتحكم فيه.

كما ساهم في تعزيز فكرة الهيمنة ورسخها كسياسة مقبولة لدى العقل الأمريكي بعض الأفكار المستقاة من نظرية التطور، والتي تم الاستفادة منها في عالم الإنسان والاجتماع فيما عُرف بـ "الداروينية الاجتماعية"، التي ترى أنّ القوانين التي تحكم الطبيعة والكائنات الحية تحكم المجتمعات أيضاً، فتصير قوانين "الصراع من أجل البقاء" و"البقاء للأقوى" قوانين اجتماعية، وبذلك بررت هذه الأفكار لأمريكا سياسات الهيمنة والعمل على حيازة القوة والسيطرة لاعتقادها بأنّها تملك مقومات البقاء والقيادة "وتوصلت النظرية إلى أنّ الأقوى والأكثر ملاءمة هو الذي يصل إلى القمة، فالأفراد ليسوا متساوين في المواهب، والطبيعة تريد الأفضل منهم.  وقد ساهمت هذه الرؤى في ترسيخ مفاهيم القوة والمحافظة على الذات والصراع في الثقافة الأمريكية، كمفاهيم مركزية في النظرية الواقعية وتأصيل مفهوم الصراع في العلاقات مع الآخرين، وكانت الفكرة تعني للأمريكيين أنّهم مختارون لتحضير البشرية، أو بمعنى آخر الإمبريالية التقدمية، أي استعمار شعوب أخرى لنقل التقدم إليها"، وهكذا ساهمت الفلسفة البراغماتية والداروينية الاجتماعية في توفير الأساس الذي يقوم عليه مشروع الهيمنة الأمريكية، الذي يطبق هذه الأفكار، سواء داخل المجتمع الأمريكي من أجل السيطرة عليه أو مع الشعوب والمجتمعات الأخرى من أجل إخضاعها.

تأثير الهيمنة على الحالة الجهادية 

من خلال الاطلاع على أدبيات الحركات الجهادية يمكننا ملاحظة تأثير مشروع الهيمنة الأمريكية على هذه الحركات بشكل واضح، وأنّ ممارسات الهيمنة تمثل أحد العوامل الأساسية والدوافع المهمة لهذه الحركات على ممارسة نشاطها ورسم أهدافها، ومن بين هذه الكتابات رسالة أسامة بن لادن التي تم نشرها بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001، وبعدما كان العقل الأمريكي يطرح سؤالاً على لسان القادة السياسيين والمفكرين والكتاب مفاده هو "لماذا يكرهوننا؟"، وقد نشر أسامة بن لادن رسالة موجهة إلى الشعب الأمريكي مضمونها يدور حول الإجابة عن سؤال "لماذا نقاتلكم؟"، عدد فيها أسباب عداء تنظيم (القاعدة) للولايات المتحدة، وأسباب محاربته لها وقيامه بتلك العملية التي تمت في 11 أيلول (سبتمبر)، ومن بين ما قاله: "لأنّكم هاجمتمونا ومازلتم تهاجموننا، هاجمتمونا في فلسطين...، لقد سلّم الإنجليز فلسطين، بمساعدتكم ودعمكم، لليهود الذين احتلوها لأكثر من (50) عاماً، وبالطبع ليست هناك حاجة لشرح وإثبات درجة الدعم الأمريكي لإسرائيل، لقد هاجمتمونا في الصومال؛ لقد دعمتم الفظائع الروسية ضدنا في الشيشان، والقمع الهندي ضدنا في كشمير، والعدوان اليهودي علينا في لبنان، تحت إشرافكم وموافقتكم وأوامركم تهاجمنا حكومات بلداننا التي تعمل عملاء لكم بشكل يومي...، أنتم تسرقون ثرواتنا ونفطنا بأسعار زهيدة بسبب نفوذكم الدولي وتهديداتكم العسكرية، وهذه السرقة هي بالفعل أكبر سرقة شهدتها البشرية في تاريخ العالم، قواتكم تحتل بلادنا، وتنشرون قواعدكم العسكرية فيها، أنتم تفسدون أراضينا، وتحاصرون مقدساتنا، حفاظاً على أمن اليهود وضماناً لاستمرار نهبكم لثرواتنا...، لا تنتظروا منّا إلا الجهاد والمقاومة والانتقام، فهل من المعقول بأيّ حال من الأحوال أن نتوقع بعد أن هاجمتنا أمريكا لأكثر من نصف قرن أن نتركها بعد ذلك لتعيش في أمن وسلام!؟"22.

ومن بين الأدبيات التي تبرز أثر الواقع على تلك الحركات كتاب "دعوة المقاومة الإسلامية العالمية" للقيادي والمنظّر الجهادي أبو مصعب السوري، حيث يرى الممارسات التي تتم في إطار الهيمنة الأمريكية على العالم الإسلامي على أنّها امتداد لما عُرف تاريخياً بالحروب الصليبية، ويصف هذه السياسة بـ "الغزو الأمريكي الصهيوني"، ويتناول الكتاب العديد من مظاهر الهيمنة الأمريكية على العالم الإسلامي، ومن صورها، كما يرى الكاتب، الهيمنة العسكرية، فيرى أنّ "بقاعاً كثيرة ترزح تحت الاحتلال المباشر كالفلبين، وأجزاء من إندونيسيا وبورما، وأجزاء من الهند وكشمير، وتركستان الشرقية، والمقاطعات الإسلامية في روسيا، والقفقاس والشيشان، والبلقان والبوسنة وكوسوفو، وفلسطين وأجزاء من بلاد الشام، وبقاع من المغرب الأقصى، والعراق أخيراً وليس آخراً...، وأمّا باقي بلاد العالم الإسلامي قاطبة، فهي تحت الاحتلال غير المباشر من قبل دول الغرب الصليبية بنيابة الحكام المرتدين، وباستحكام الاحتلال الاقتصادي للاحتكارات الرأسمالية الكبرى، وبانتشار القواعد العسكرية البرية والبحرية والجوية في جميع أجزائه، وبشبكة مكاتب الاستخبارات الأجنبية"، والهيمنة الاقتصادية "إشراف الاستعمار، وعلى رأسه أمريكا وأوروبا الغربية، على عمليات استخراج الثروات النفطية والمعدنية وغيرها من الموارد، ثم الإشراف على نقلها وتحديد أسعارها والتجارة بها والاستيلاء على أثمانها في بنوكهم الصليبية اليهودية، وفي مقابل ذلك يقوم الغرب المستعمر في بلادنا التي تضم نحو خُمس سكان الأرض، بتحويلها إلى سوق لتصريف منتجاته".

ويرى من صور الهيمنة الاقتصادية أيضاً استغلال اليد العاملة في تنمية الاقتصاد الغربي، والعلماء كذلك "هاجر من بلاد المسلمين ملايين العمال، ومئات آلاف العلماء والمثقفين وحملة الشهادات إلى بلاد الغرب، ولا سيّما إلى أوروبا وأمريكا، ليسدوا ثغرات ضخمة في البنية التحتية لمصانعهم بأبخس الأثمان"، كما يتحدث عن الهيمنة الثقافية التي يرى الكاتب أنّها تمثل أخطر صور الهيمنة، لأنّها تهدد هوية الأمة وعقيدتها "جاء دور الاستعمار الفكري والثقافي والاجتماعي، حيث تُسن القوانين وتوضع المخططات وتُعقد المعاهدات وتبرمج وسائل الإعلام والتربية والتعليم والثقافة لتغريب مجتمعاتنا وإعادة صياغتها وهيكلتها تبعاً لهوى المستعمر، فتارة باسم حقوق الإنسان، وتارة باسم تحرير المرأة، وتارة باسم التطبيع الثقافي، وتارة باسم التطوير الاجتماعي، وأخرى لتحديث المناهج التعليمية، ولبرامج إعادة صياغة المجتمعات"، ويرى الكاتب أخيراً أنّ الحل الوحيد هو استخدام القوة لمواجهة هذه الهيمنة من خلال الحركة الجهادية، وأنّ أيّ حديث عن الوسطية والاعتدال والعيش السلمي والتبادل الحضاري، ما هي إلا أدوات تستخدمها أمريكا لإحكام السيطرة وتنفيذ سياسة الهيمنة على العالم الإسلامي، "ولم يبقَ في الميدان إلا بعض القلوب الطاهرة، والسواعد المجاهدة، والعزائم المؤمنة، تقاوم المستعمر هنا وهناك"23.

خاتمة

إذاً، وعلى الرغم من كل أوجه النقد التي يمكن توجيهها إلى الحركات المكونة لظاهرة الإسلام السياسي بأشكالها المختلفة، وكل أدوات التفكيك التي تتناول أفكارها ومنطلقاتها الدينية وأشكالها التنظيمية وخطابها وممارساتها؛ فإنّ كل هذا يظل قاصراً بشأن فهم ومعالجة الظاهرة، ما لم يتم الاهتمام بالأسباب الواقعية التي تهيّئ المناخ الملائم الذي تتخلق فيه هذه الظاهرة، وتوفر لها المبررات والدوافع التي تساعدها على الاستمرار والتطور، والتي من أهمها مشروع الهيمنة الأمريكية الذي يمثل أحد العوامل الرئيسية في وجود الظاهرة الإسلاموية بشكل عام والجهادية بشكل خاص، خاصة بعد الحرب الأخيرة على غزة، التي كشفت عن مساوئ هذا المشروع بشكل واضح، وساهمت في تنامي الحالة الجهادية في العالم الإسلامي بدرجة كبيرة. 

هوامش:

1- معتز الخطيب، العنف المستباح 

2- المصدر السابق

3- وائل محمد إسماعيل، الإمبراطورية الأخيرة: أفكار حول الهيمنة الأمريكية

4- نصار الربيعي، دور الهيمنة الأمريكية في العلاقات الدولية

5- محمد يوسف الحافي، الهيمنة الأمريكية على الأمم المتحدة ومستقبل الصراع الدولي

6- فؤاد زكريا، العرب والنموذج الأمريكي

7- محمد يوسف الحافي، مصدر سابق

8- غراف عبد الرازق، المذهب البراغماتي في السياسة الخارجية الأمريكية

9- عبد العزيز سليمان نوار، محمود محمد جمال الدين، تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية من القرن السادس عشر حتى القرن العشرين

10- ميشال بوجنين موردان، أمريكا المستبدة: الولايات المتحدة وسياسات السيطرة على العالم

11- المصدر السابق

12-  المصدر السابق

13-  المصدر السابق

14- أنور محمد فرج، نظرية الواقعية في العلاقات الدولية

15- ماكس فيبر، الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية

16-  شوقي جلال، العقل الأمريكي يفكر

17-  المصدر السابق

18- المصدر السابق

19- المصدر السابق

20-  المصدر السابق

21- أنور محمد فرج، مصدر سابق

22- رسالة أسامة بن لادن إلى الشعب الأمريكي، منشورة على الرابط التالي:

https://urlc.net/wFN7

23- أبو مصعب السوري، دعوة المقاومة الإسلامية العالمية




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية