النظام الإيراني جعل السينما أحد دروعه وسيّجها بالقيود

إيران والسينما

النظام الإيراني جعل السينما أحد دروعه وسيّجها بالقيود


01/04/2018

إن كنت من جمهور السينما القديمة في إيران، ربّما تسبَّب ذلك بقتلك حرقاً أثناء إحراق أغلبية دور السينما بمن فيها، فبعد تسعين عاماً، أو يزيد، من عمر السينما الإيرانية، المغايرة لنظيراتها من السينما العالمية، عملت الثورة الإسلامية في إيران على وأد الفنّ السابع، وإعادة بعثه من جديد، لكن طبقاً لتعاليمها.

أُحرقت وأُغلقت دور السينما جميعها، وبنيت على أنقاضها دور سينما أخرى، لم يكن العالم يعرفها من قبل، مدرسة سينمائية من طراز خاص صنعها "الخميني" عنوانها؛ نساء محجبات، وجنود الحرس الثوري، ويوتوبيا مفعمة بالحياة.

تاريخ أحرقه الخميني

"إنّنا نعارض دور السينما التي تساهم في إفساد أخلاق الشباب، بما أنّها مغايرة للثقافة الإسلامية، لكنّنا نوافق على البرامج التي تساعد في التهذيب، وتكون لصالح التربية الأخلاقية والعلمية السليمة للمجتمع". كانت تلك تصريحات آية الله الخميني لجريدة الغارديان في تشرين الثاني (نوفمبر) 1978.

أدخل "محمد ميرزا القاجاري" السينما إلى إيران، قبل الثورة الإيرانية، خلال حكم الشاه، وقد كان محباً للسينما الفرنسية حدّ الانبهار، واتجه نحو الأخوين لوميير، الأبوين الروحيَّين للسينما العالمية، في مستهلّ القرن العشرين. ثمّ انتشرت في المدن والقرى، ولم تعد تقتصر على دور العرض المخصصة للأرستقراطيين.

إحراق دور العرض السينمائية، بتحريض من الخميني أفزع كلّ المبدعين في إيران، ودفع بعضهم للرحيل

تم إنشاء دور عرض للسينما في فترة حكم رضا بهلوي، التي امتدت من 1925 -1941، وقد توسّع في إنشاء دور عرض، وكان ابنه "محمد رضا بهلوي" أكثر ولعاً بالسينما، فأرسل بعثات فنية إلى أوروبا والاتحاد السوفييتي لدراسة السينما، حتى وصل عدد دور العرض في إيران 424 دار عرض في مدن متفرقة، أُحرق منها أكثر من 200 دار عرض بمن فيهم.

عام 1979، توقفت السينما عن استكمال مسيرتها، بعد أن أصبحت أهم سينمات الشرق آنذاك، واستطاعت الدخول إلى حلبة المنافسة إلى جوار السينما المصرية، والهندية، والروسية.

إحراق دور العرض السينمائية، أفزع كلّ المبدعين في إيران، الذين انضمّ بعضهم إلى صفوف المعارضة، وقضوا أعواماً من حياتهم في السجن، مثل؛ جعفر بناهي، ومنهم من هرب خارج البلاد، لئلّا يتوقف إبداعه، وآخرون طوعوا فنّهم لتلميع السلطة، في مقدمتهم: المخرج "مسعود دهمنكي"، في فيلمه الأخير "المنبوذون" 2009، الذي يعدّ فيلماً دعائياً للحرس الثوري الإيراني وتنظيم الباسيج.

أُحرقت دور السينما وبنيت على أنقاضها مدرسة سينمائية صنعها الخميني عنوانها؛ نساء محجبات، وجنود الحرس الثوري إلخ...

صراع السيطرة على السينما

كان على الثورة أن تبسط سيطرتها على الفنّ أيضاً، وبدأت من السينما؛ فالخلاف الواقع بين مؤسسة "فنّ المستضعفين" وهيئة السينما، حتّم على النظام إنشاء هيئة جديدة، هذا ما تحدثت عنه الباحثة السينمائية الإيرانية فاطمة برجكاتي في كتابها (السينما الإيرانية تحديات وتاريخ) لافتة إلى مجموعة مراكز "أرادت السيطرة على شؤون السينما، منها مؤسسة "فنّ المستضعفين"؛ التي رأت في نفسها منافسة لمؤسسة الشؤون السينمائية، ووجود الخلاف بينهما، وعدم اطمئنان أصحاب السينما، والتدخّل في أمور السينما، كلّ ذلك زاد أزمتها حتى أعلن مسؤول الشؤون السينمائية، محمد علي نجفي، تعطيل دور السينما، كي يتم تعيين مؤسسة معينة للإشراف على أمورها، لكنّها عادت وافتتحت بعد ثمانية أيام، ووضع القرار بيد مؤسسة الشؤون السينمائية".

الانطلاقة الثانية

"كانت السينما تحاول تعطيل روح المقاومة في جيل الشباب في البلاد، أعطونا نموذجاً للسينما الأخلاقية، والسينما العلمية، فلا نعارضها، إننّا لا نعارض السينما، نعارض الفساد"، قال الخميني أيضاً في حوار نشر في "دير شبيغل" 1979.

في إطار خطة جديدة وضعتها الدولة، بعد الثورة، لإنشاء سينما موازية، وتقديم صورة مغايرة للسينما المتحررة التي عرفها العالم؛ تمّ دمج وزارتي الثقافة والفنّ، بوزارة العلوم، لتصبح "الشؤون السياسية والثقافية والاقتصادية والمهنية للسينما"، وأخضِعت لإشراف الدولة التي طبقت سياسات جديدة، بدأت بوضع القيود على استيراد الأفلام الأجنبية، وإلغاء الضرائب المرتفعة على الأفلام المحلية، وكذلك إعطاء القروض المصرفية للمنتجين، لزيادة أعداد الأفلام المنتجة، ودفع الانطلاقة الثانية للسينما إلى الأمام.

القمع دفع المخرجين والفنانين، إمّا إلى أن يستسلموا للنظام، أو يحاولوا التمرد والاهتمام بعنصر الصورة والرموز

في ضوء ذلك، أصبحت السينما الإيرانية أكثر محافظة بعد الثورة، ورسمت خطاً سينمائياً جديداً، تحت مسمى "السينما النظيفة"، بحسب أستاذ النقد في أكاديمية الفنون المصرية الدكتور نادر الرفاعي، الذي عزا ذلك  في تصريحه لـ"حفريات" إلى"القمع الديني الذي طال أوجه الحياة كافة، ولم تستطع السينما الفكاك منه، هذا ما دفع المخرجين والفنانين، إمّا إلى أن يستسلموا للنظام، أو يحاولوا التمرد عن طريق الاهتمام بعنصر الصورة والرموز، خوفاً من الملاحقة الأمنية، مثلما حدث مع جعفر بناهي". كما أدّى القمع الديني إلى "هروب كثير من المبدعين، مثل؛ المخرجة شيرين نِشاط، مخرجة الفيلم الشهير "البحث عن أم كلثوم"، الذي حصد الجوائز العالمية، لكنّ مخرجته ممنوعة من دخول إيران، وتمكث في الولايات المتحدة الأمريكية"، وفق الرفاعي الذي أكد أنّ السينما تنتصر، "طالما أنّ هناك كاميرا، مهما كانت محدودة الإمكانيات".

مثّلت بداية السينما في القرن العشرين معضلة للإسلاميين في إيران؛ حيث لم يعمل المحققون الأوائل في الإسلام على تفكيك أمر السينما، وفرز الجيد عن غيره، ما دفع النظام الإيراني للبحث والتنقيب عن سينما جديدة، بعيدة عن الخط الغربي، وقد عبّر عن هذا المخرج محسن مخملباف، في أحد لقاءاته الصحفية، قائلاً: "كلّما بحثنا في تاريخ الفنّ الإسلامي، علينا أن نعترف بأنّه ليس غنياً، درس المستشرقون العمارة الإسلامية، واستخرجوا بعض ميزات الفنّ الإسلامي، لكنّ المسلمين أنفسهم لم يقوموا بعمل لافت في هذا المجال، ولم يكن ثمة عمل بارز في مجال الفنّ الذي نشأ من الأيدولوجية الإسلامية، ومن علاماته؛ تحريم النحت، والموسيقى، وكراهية الرسم، والأمور المشابهة"، وكان الحلّ الأمثل، من وجهة نظره، "أن تأخذ إحدى المؤسسات هذا الأمر على عاتقها، وتقوم بدراسات، وتستخرج معايير الفنّ الإسلامي".

الناقد والكاتب المصري، أمير العمري، يرى أنّ السينما الإيرانية لا تواجه الأفكار؛ لأنّ "السينما الإيرانية التي تستخدم نقداً مباشراً للسلطة، يتم منعها ومصادرتها وطرد مخرجيها من البلاد أو سجنهم، ويجب أن نعلم أنّ من بين تركيبة النظام الإيراني حتى رجال الدين يحبّون السينما، فالإيرانيون منفتحون في هذا المجال، بدليل تشجيعهم على معارض الفنّ التشكيليّ، ووجود الرسامين الذين يرسمون لوحات انطباعية وتأثيرية، لا مجرد زخارف إسلامية وحسب".

جعل النظام الإيراني السينما أحد دروعه

قبلة السياسة

جعل النظام الإيراني السينما أحد دروعه، بدلاً من القضاء عليها، وأسّس مفهوماً جديداً، انتهجه لاحقاً كلّ صناع السينما الإسلاميين من العالم العربي، وهو مفهوم "السينما النظيفة"، وأحاطها بأسوار من القيود والشروط المنضبطة، التي إن تجرّأ أحد على كسرها، فالسجن أو النفي خارج وطنه هما خياراه الوحيدان.

جعل النظام الإيراني السينما أحد دروعه وأسّس مفهوماً جديداً انتهجه كلّ صناع السينما الإسلاميين هو "السينما النظيفة"

ارتفعت وتيرة الإنتاج منذ عام 1981، وأصبح التوجه العام إلى السينما السياسية الملحمية بالدرجة الأولى، التي تصوّر المحاربين ضدّ نظام الشاه، وتمجّد الثورة الإسلامية، وكثرت الأفلام في بدايات الثمانينيات، واتجه المخرجون الجدد، ممّن اندمجوا مع توجهات النظام الجديد، إلى تمجيد الثورة، مثل: فيلم "صرخة المجاهد" للمخرج مهدي معدنيان، و"المحكوم بالإعدام" لمحمد باقر خسروي، عام 1983، و"عفريت" للمخرج فرشيد فلك نازي، ليبدأ بعد الثورة عهد جديد أصبحت فيه السينما سياسية خالصة، وهو ما أكّده الناقد أمير العمري: "يمكننا القول إنّ السينما الإيرانية لا تحمل رسالة نشر الأفكار الشيعية، لكنّها - بكلّ حال- تحمل وجه النظام القائم، مهما ساءت الأوضاع. وهناك ملاحظة أخرى؛ هي التنازلات التي يقدمها النظام لمن يثبت أقدامه في الخارج، مثل أصغر فرهادي، الذي عمل مؤخراً على فيلم فرنسي، وانتهى من فيلم ناطق بالإنجليزية صوّره في أمريكا؛ حيث يصبح مصدراً لجلب العملة الصعبة عن طريق بيع أفلامه".

أما التساؤل المهمّ الذي ناقشه صانعو السينما في العالم: هل يمكن للإبداع أن يصادَر. وإذا تمت مصادرته، وأصبح محاطاً بأسوار من الشروط الأيدولوجية والدينية، كيف نطلق عليه إبداعاً؟!

رغم كلّ القيود والقمع ظهرت طيور تغرد خارج السرب، استطاعت كسر القوالب، ووصلت إلى العالمية، كان آخرهم "عباس كياروستامي"، صاحب "طعم الكرز" و"الحياة تستمر" الذي رحل عام 2016، بعد أن كرس اسمه كواحد من الصنّاع الكبار للسينما الواقعية في العالم. بل إنّ المخرج الفرنسي جان لوك جودار ذهب إلى حد القول إنّ "السينما بدت بجريفيث وانتهت بعباس كياروستامي".

الصفحة الرئيسية