المرأة العربية المعيلة: لا زوج يدعم ولا حكومة ترحم

المرأة العربية المعيلة: لا زوج يدعم ولا حكومة ترحم


22/01/2018

عمل النساء المعيلات يشكل عاملا حاسما في بقاء الملايين من الأسر الفقيرة على قيد الحياة، إلا أن الظروف الاجتماعية والسياسية والعقليات السائدة تتكاتف في أغلب المجتمعات العربية لجعلهن رهائن للفقر والاستغلال المادي والمعنوي.

لم يعد التقسيم التقليدي للأدوار داخل الأسرة سائدا في العديد من المجتمعات العربية، خاصة في ظل الظروف الاجتماعية والاقتصادية الصعبة والاضطرابات السياسية التي تعيشها أغلب البلدان العربية، إذ أصبح من السائد أن تتقلّد النساء أدوار الرجال، ويتحملن أعباء مضاعفة في سبيل إعالة أسرهن وتوفير متطلبات أبنائهن.

ويعرّف الباحث التونسي في علم الاجتماع طارق بالحاج محمد المعيلات بأنهن النساء اللائي يتولين الإنفاق على أنفسهن، ويتحملن مسؤولية الرعاية المادية والمعنوية لأسرهن من دون الاستناد إلى وجود الرجل (الزوج أو الأخ أو الأب..).

وبيّن بالحاج محمد أن المرأة المعيلة، قد تكون في الغالب أرملة أو مطلقة أو زوجة مريض أو عاجز، سواء عجز كلي أو جزئي، أو زوجة سجين أو رجل متواكل ومستقيل تماما من مهامه وواجباته العائلية.. وبالتالي تكون المرأة المصدر الوحيد لدخل الأسرة.

وقال في حديثه لـ”العرب” إن “ظاهرة المرأة المعيلة ليست بالجديدة على المجتمعات الإنسانية، فقد خبر الوجود البشري حالات كثيرة من بقاء المرأة بمفردها وإدارتها لعائلتها ولنفسها”.

وأضاف مستدركا “لكننا اليوم نشهد اتساع هذه الظاهرة نظرا لاتساع خارطة الفقر والفاقة وانتشار الحروب والأزمات الاجتماعية والاقتصادية الدورية في المجتمع العربي مما جعل المعنيين بشؤون المرأة يشيرون إلى أزمة جديدة تعصف بهذه المجتمعات نظرا لما لها من آثار سلبية على المرأة والأسرة والمجتمع برمته، وما تخلّفه هذه الوضعية من آثار على نفسية المرأة لا سيما وأنها أكثر العناصر الاجتماعية المعرضة للأذى، وهذا من شأنه أن يجعل الآثار السلبية لهذه الظاهرة تصيب الكيان النفسي والبناء الذاتي للمرأة كما تنعكس على المجتمع بأسره”.

وعلى الرغم من أن عمل النساء المعيلات يشكل عاملا حاسما في بقاء الملايين من الأسر الفقيرة على قيد الحياة، فإنهن يواجهن عقبات جمة في سبيل الحصول على وظائف، وغالبا ما يدفعهن ذلك إلى العمل في مجالات هشة وغير مرئية، فلا يتوفر لهن بالتالي الحد الأدنى من الحقوق القانونية.

أعباء مادية ومعنوية

ففي تونس على سبيل المثال تساهم المرأة بنسبة 68 بالمئة من الدخل القومي الخام، وتؤمّن إنتاج الخضر والغلال بنسبة 90 بالمئة، ولكنها تعمل أحيانا في ظروف لا تراعي طبيعتها الأنثوية ولا تحترم إنسانيتها.

وتتميز أغلب الأعمال التي تقوم بها النساء المعيلات بأنها مستهلكة للوقت وشاقة وضئيلة الأجر، مما يحد من قدرتهن على تعلّم المهارات التي قد تساعدهن على تحسين وضعياتهن الاجتماعية، وهذا الأمر يؤدي إلى إدامة دورة المعاناة والفقر في صفوفهن.

وتتعرض الكثيرات إلى الاستغلال الجسدي والجنسي بسبب تدني تحصيلهن العلمي، إضافة إلى عدم المساواة بينهن وبين الرجال في الأجور وفي عدد ساعات العمل.

ورغم الوعود الحكومية المتواصلة بضرورة تمكين المرأة العربية ومساندتها للارتقاء بالمجتمعات كلل، إلا أن الفقر المدقع مازال يحاصر النساء أكثر من الرجال، بسبب التمييز الممنهج ضدهن في سوق العمل، وصعوبة حصولهن على احتياجاتهن الأساسية وتهميش دورهن في الأسرة والمجتمع.

وتكمن المفارقة في وضع المرأة العربية المعيلة في أن “شريك حياتها” على استعداد للقبول بعملها طالما أنها ستنفق على الأسرة، إلا أنه يرفض مساعدتها في رعاية الأبناء والقيام بالأعمال المنزلية، ولا يتوانى عن تعنيفها.

كما أن نظرة المجتمع لعمل الرجل في المنزل لم تتغير كثيرا، إذ لا يزال قطاع لا بأس به من المجتمع يرى أن العمل المنزلي هو من صلب مهام المرأة وأنه لا يليق بالرجل القيام بهذه الأعمال.

وأشار بالحاج محمد إلى أن المرأة المعيلة تتعرض إلى الكثير من الضغوط الاجتماعية الناتجة عن الثقافة الاجتماعية السائدة، وكذلك عن استغلال البعض لوضعيتها الهشة.

وشدد في خاتمة حديثه على أن “الموروث الثقافي أو ما يطلق عليه في العلوم الاجتماعية الحديثة بـ’الثقافة الاجتماعية’، (وهنا لا نقصد الثقافة كما يراها البعض، بل الثقافة كما هي بالفعل في الواقع العملي بين الناس)، يعقّد أكثر وضعية المرأة المعيلة، حيث تتعرض لكل أنواع التمييز والمضايقات والتحرشات وينظر إليها كامرأة ضعيفة أو بلا سند، ويستغل البعض حاجتها للعمل أو الخروج من المنزل لابتزازها ماديا ومعنويا”.

وتعتبر زينة اليعقوبي أحد نماذج المرأة التونسية المعيلة التي لم تقف مكتوفة اليدين، بل تحدّت جميع ظروفها القاسية بعد المرض الذي ألمّ بزوجها، وتولت منفردة إعالة أسرتها.

وأطلقت اليعقوبي، التي تقطن بمدينة الدهماني التابعة لمحافظة الكاف بالشمال الغربي لتونس، تنهيدة اعتصرت ألم الحمل الذي يثقل كاهلها، ووجدت متنفّسا لتبوح لـ”العرب” قائلة “أعيش حياة أفتقد فيها لمعنى المسرة وراحة البال، فأنا لا أنام ملء جفوني مثل بقية الخلق بسبب تفكيري المستمر في تأمين لقمة عيش أبنائي وقلقي المستمر على مستقبلهم”.

وأضافت اليعقوبي، التي تبدو ملامحها أكبر بكثير من سنها الذي لم يتجاوز الخمسين عاما، “أستيقظ يوميا من شفق الفجر من أجل أن أعد ورقات ‘الملسوقة’ (البريك) حتى أبيعها في السوق وأتمكن بما أحصل عليه من إطعام أبنائي الثلاثة وزوجي وتوفير متطلباتهم المادية”.

وأوضحت “هذه وتيرة حياتي اليومية، لا أملك غير هذا العمل الذي يتطلب ساعدا لا يكلّ ولا يملّ، ولا يوفر لي غير مبلغ بسيط لم يعد يكفيني لمجابهة احتياجات أبنائي ومتطلباتهم الكثيرة والمتزايدة”.

وواصلت “لا أحفل بالجلطة التي أعاني منها في ساقي وأكتم آلامي في صدري، فلا خيار أمام سوى العمل المتواصل، حتى ابني البكر الذي علّقت آمالا كثيرة على تخرجه من الدراسة الجامعية، يعاني من البطالة منذ حوالي أربع سنوات، وهذا ما يزيد معاناتي”.

وختمت اليعقوبي بقولها “أتغاضى عن الكثير من الأشياء وأحرم نفسي من أجل توفير مصاريف أسرتي واحتياجاتها، فظروفي الاجتماعية صعبة جدا، وكل ما أتمناه هو أن يحصل ابني على شغل حتى يريحني قليلا من الحمل الكبير الذي لا حول ولا قوة لي على تحمّله”.

العراقيات اليائسات

هذه الوضعية الاجتماعية القاسية لا تعيشها المرأة التونسية فقط، بل تكاد تكون نمط حياة الملايين من الأرامل العراقيات اليائسات، ممن تركن بلا معيل أو سند جراء الحروب وعمليات القتل الطائفية والإرهابية.

وبالرغم من عدم وجود إحصاءات دقيقة عن عدد الأرامل في العراق، فإن المعروف أنه حتى قبل الغزو الأميركي في العام 2003 كان المجتمع العراقي يضم مئات الآلاف منهن.

ومع اتساع نفوذ الميليشيات الإيرانية في العراق خلال الأعوام الأخيرة، صارت فرص النساء في لعب دور في المجتمع أو الاقتصاد العراقي ضئيلة، حيث وجدت العديد من النساء أنفسهن حبيسات البيوت وعاجزات عن إعالة أسرهن، خاصة في المناطق الريفية والأحياء الفقيرة.

غير أن الأرامل اللواتي تحدثت إليهن “العرب” لم يبدين ميلا إلى الكشف عن وضعياتهن الصعبة، بل فضلن مواصلة معاناتهن في صمت خوفا من أن تطالهن أيادي الميليشيات.

وأكدت الإعلامية العراقية سميّة السامرائي أن الكثير من العراقيات فقدن أزواجهن وأبناءهن في الحرب العراقية الإيرانية الطاحنة التي استمرت حوالي 8 سنوات، فيما ترمّلت مئات الآلاف من النساء في أحداث العنف الكثيرة التي عاشها العراق.

وقالت السامرائي لـ”العرب”، “لقد عانت المرأة العراقية ومازالت تعاني جراء الحروب وأحداث العنف التي مرت على العراق، فقد فقدت الكثيرات أزواجهن، ومنهن من فقدن أبناءهن وأزواجهن وبقين وحيدات”.

وأضافت “في السابق كانت الأرملة العراقية تكافأ براتب وسكن ولكن بعد حرب الخليج أو ما سمّي بـ’عاصفة الصحراء’ ازداد عدد الأرامل وتعمقت معاناتهن، وتحملت الكثيرات مسؤولية الإنفاق على أبنائهن والقيام بشؤون أسرهن بمفردهن، حتى أنه أطلق حينها على الأرملة العراقية لقب ‘الماجدة’، نظرا للتضحيات الكثيرة التي تقدمها في سبيل إعالة أسرتها ورعايتها”.

وأوضحت “لقد ساء وضع المرأة العراقية بعد الاحتلال الأميركي كثيرا وازداد عدد الأرامل بصفة كبيرة جراء عمليات القتل العشوائي مما أثقل كاهل المرأة العراقية ودفع الكثيرات للتسوّل مع أطفالهن في الشوارع بعد أن عجزن عن إيجاد عمل يحافظ على كرامتهن”.

دوامة من الضغوط

أثارت السامرائي في ختام حديثها موضوع استغلال الأرامل والمطلقات من قبل بعض رجال الدين خصوصا دون أي مراجعة لحقوقهن وحقوق أبنائهن اليتامى، إذ يفاجئن من قبل بعض رجال الدين بطلبهن لزواج المتعة، الأمر الذي يدفعهن إلى الصمت على وضعياتهن خشية من الاستغلال.

أما في المجتمع المصري فتتولى المرأة إعالة حوالي 35 بالمئة من الأسر، وفقا للتقديرات الحكومية. وربط خبراء الاقتصاد ارتفاع نسبة المرأة المعيلة في مصر بضعف معدلات التنمية وتفشي البطالة خاصة في المناطق الريفية والنائية.

وتتولى المرأة المصرية في أغلب الأحيان مسؤولية إعالة عائلات يوجد بها رجال عاطلون عن العمل، إلا أن أغلب النساء اللاتي تحدثن لـ”لعرب” فضّلن التكتم على أسمائهن خوفا من الإساءة لكرامة أزواجهن.

وتؤكد دراسة مصرية أن 55 بالمئة من النساء المعيلات يقل دخلهن الشهري عن 2000 جنيه (113 دولارا)، و28 بالمئة من النساء يعلن أسرهن رغم وجود الرجل.

وتعيش فتحية محمود البالغة من العمر 49 عاما في دوامة من الضغوط اليومية من أجل توفير لقمة عيش لأسرتها ومصاريف أبنائها.

وقالت محمود “لا عمل قارا لي سوى مساعدة النساء الموظفات في تنظيف منازلهن، فأحصل في مقابل ذلك على مئتي جنيه (أقل من 15 دولارا) في اليوم الواحد”.

وأضافت “أعمل طوال الأسبوع حسب جدول مخصص من قبل النساء اللاتي يستعن بي لمساعدتهن، ففي الصباح الباكر أقصد منازلهن للقيام بما يطلبنه مني من أعمال منزلية، ثم أعود في المساء لرعاية بيتي وأبنائي وزوجي المريض”.

وأوضحت “منذ خمسة أعوام أصيب زوجي الذي كان يشتغل عامل بناء موسمي بجلطة شديدة سبّبت له شللا تاما، فأصبحت المسؤولة الوحيدة عن رعاية عائلتي ماديا ومعنويا، وكل ما أتحصل عليه من أجر مقابل التنظيف، إلى جانب بعض المساعدات البسيطة من أهل البر والإحسان، أحاول تقسيمه بين مصاريف تعليم أبنائي علهم يحققون مستقبلا أفضل وبين علاج زوجي ومتطلبات المعيشة”.

وعن هواجسها من المستقبل تقول محمود “المستقبل بيد الله تعالى ولا أحمل همّه، ولكن خوفي الكبير من المرض، فصحتي وقدرتي على العمل منذ الشروق وحتى غروب الشمس هي رأس مالي الوحيد”.

فيما تتكفل الخمسينية أم حسن (بائعة خضروات) بإعالة أسرتها المكونة من ستة أبناء تركهم لها زوجها الذي تحصّن بالفرار خوفا من دخول السجن بسبب حكم قضائي صادر ضده.

وقالت أم حسن لـ”العرب” “لقد هرب زوجي وتركني لمصير مجهول أنا وأبنائي في ظروف حياتية قاسية، وأجهل حتى الوجهة التي قصدها، ومنذ ذلك الحين وأنا أعاني الأمرّين في سبيل مواجهة متطلبات الحياة التي تتزايد يوما بعد آخر”.

وأضافت “أستيقظ كل يوم من الصباح الباكر لشراء الخضروات من سوق الجملة في مدينة العبور بمحافظة القاهرة ثم أبيعها للناس حتى أستطيع تأمين قوت أبنائي ومصاريفهم، وما أجنيه يوميا من دخل مادي محدود جدا”، وأكثر ما يحزن أم حسن أنها غير قادرة على شراء كل ما تتمناه لأبنائها من فواكه ولحوم وتأمين ظروف معيشية أفضل لهم.

وتعيش الملايين من النساء المعيلات في البلدان العربية في دوامة من المشقة والعزلة والقلق بعدما أرغمن على تحمل مسؤولية عائلاتهن بمفردهن، ولكن في مقابل ذلك لا يتم الاعتراف لهن بالتضحيات الكبيرة التي يقدمنها للأسرة وللمجتمع من الناحية الاجتماعية الاقتصادية.

يمينة حمدي-عن"العرب" اللندنية




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية