الموت يغيب الفنان التشكيلي فاروق لمبز.. أعمال حروفية تستلهم التراث وتحتفي به

الموت يغيب الفنان التشكيلي فاروق لمبز.. أعمال حروفية تستلهم التراث وتحتفي به


13/12/2021

على مدار عقود من الاشتغال في الفن التشكيلي، قدم الفنان الأردني فاروق لمبز الذي غيبه الموت أمس، أعمالًا تنتمي لمجالات عدة، من رسومات تحاكي الطبيعة وجمالياتها، إلى لوحات تهتم بالتوثيق الجمالي للأبينة الأثرية، إلى ارتياد آفاق المدرسة الحروفية، التي قدم فيها أبرز أعماله المصبوغة بطابع عربي أصيل وهوية محددة، جامعًا بين البساطة في التشكيل الحروفي وجماليات اللون والتركيب والشكل العام.

تفتحت عينا لمبز على الطبيعة مبكرًا، فكان شغوفًا منذ طفولته بتأمل أشكال الورود وجمالها، واعتاد أن يقطف من حديقة البيت مجموعة من الورود ويرتبها وفقًا للّون والحجم في الأواني، ليبدأ بعدها بسنوات رسم الورود التي تحاكي تلك الأشكال المختزنة في ذاكرته.

وتلقى لمبز مساعدة في ذلك من أخته الكبرى التي رعت موهبته عبر توفير مواد الرسم من الألوان والأوراق والفراشي له، كما شجعته المدرسة حين رأى فيه المعلمون موهبة واعدة، فأخذت المدرسة على عاتقها تزويده أيضًا بمواد الرسم، وتشجيعه على المشاركة في المسابقات الفنية، تلك التي نال فيها مراتب متقدمة لما تضمنته رسومات من عفوية وصدق في التعبير.

من أعمال الفنان التشكيلي الأردني فاروق لمبز

وأنهى لمبز الثانوية العامة وهو يحلم بدراسة الفن، لكنه عدل عن ذلك الحلم لأسباب تتعلق بتحفظات عائلته وقتها، وبسبب النظرة السائدة للفن آنذاك، فدرس الحقوق في جامعة دمشق. وخلال فترة الدراسة عمل في مجال التصميم الإعلاني، ثم انضم إلى "الخطوط الجوية الملكية الأردنية"، ووجد في عمله فيها ما يصبو إليه من احتكاك بعالم الفن وزيارة متاحف العالم والتعرف على أبرز الأعمال الفنية.

فقد أبدت "الملكية الأردنية" اهتمامًا بالفنون، وبادرت بتأسيس "جاليري عالية للفنون التشكيلية"، وأُسندت مهمة إدارته للفنان لمبز، وأصبح الجاليري مقصد الفنانين ورواد الفن الذين وجدوا فيه ما يلبي حاجاتهم ويعرض أعمالهم بصورة احترافية لم تكن متاحة في المراكز الثقافية العاملة في الأردن أو الصالات التابعة للفنادق الكبيرة.

وتحقيقًا لحلمه المؤجل، التحق لمبز المولود في عام 1942 بمعهد الفنون الذي كان يشرف عليه الفنان الرائد مهنا الدرة، وبعد توقف المعهد حاول الانضمام لمعاهد وكليات فنية عدة، لكنه غادرها حين رأى أنها لم تضف لتجربته ما يتوق إليه، فقرر أن يطور مهاراته الفنية ذاتيًا، وهذا ما كان.

اتسمت أولى رسومات فاروق لمبز باقترابها من المواضيع المستوحاة من الطبيعة والحياة الاجتماعية والأماكن الأثرية، فأنجز لوحات تمثل البائعين المتجولين مثل بائع البطيخ، ولوحات تركز على الحياة البدوية ومفرداتها، وأخرى تتناول الحياة الريفية والحقول والمراعي، وغيرها من لوحات رسمَ فيها البيوت القديمة ورصدَ مشاهد من موسم الحصاد.

بعد منتصف التسعينيات، توقف لمبز عن رسم هذه المواضيع، واتجه إلى المدرسة الحروفية، وقد وصف هذا التوجه بقوله: "انتقلت للحروفية بعد شعوري بالإشباع من رسم المشاهد الطبيعية والحياتية"، مقتنعًا بأن الحروفية أكثر قدرة على تجسيد التراث الفني العربي الإسلامي، وأكثر تعبيرًا عن العلاقة الوثيقة بين البيئة والواقع الاجتماعي والعقائدي، إلى جانب قدرتها على التعبير عن الأبعاد الزمانية والمكانية، وعن الحركة والسكون في الفن.

ويقول لمبز في هذا السياق إن أعماله لم يكن الهدف منها نقل مفردات التراث، بل استلهامه وتكريمه والاحتفاء به وإعطاؤه قيمته الحقيقية، لهذا تبنى من الخطوط العربية الأساسية السبعة خطَّ الثُّلث الظاهر بحركته وانسيابيته المميزة في أغلب أعماله الحروفية.

...

لم يعتنِ لمبز بأشكال الحروف فحسب، بل ركز اهتمامه على إبراز ما وراء هذه الحروف من حكايات وقصص وما تثيره في النفس من حنين ومشاعر ترتبط بحياة الناس وبالطبيعة. لذا تتميز لوحاته الحروفية بألوانها وخطوطها المبتكرة، واعتماد البناء الداخلي للشكل حيث تتراكب الحروف وتتجاور وتتقاطع ضمن تقنية بناء داخلية.

ولإبراز ذلك اعتمد لمبز على رسم الخطوط على أوراق سميكة، ثم قصّها بهدف ضغط القصاصات الكثيرة وتركيبها فوق بعضها بعضًا، بحيث تبدو الحروف بارزة أو نافرة على السطح، وهي تقنية تشبه إلى حد كبير تقنية الطباعة الفنية على الزنك وسواه من المواد.

وتتسم الألوان التي استخدمها لمبز في لوحاته من اقترابها من ألوان الطبيعة، فلا هي مشعة وقوية، ولا هي مطفأة، بل تتأرجح بين هذين المسارين، وهذا ما يمنح المتلقي إحساسًا بالراحة البصرية والنفسية خلال تأمله العمل.

كان الفن كما يراه لمبز "لغة خاصة ذاتية"، تعكس تراكمات وتفاعلات الذاكرة والحس الواعي واللاواعي لدى الفنان، ويستعملها للتعبير والاتصال، باستخدام أساليب وتقنيات مرئية ذات أبعاد متعددة تخرج عن نطاق استيعابها حتى من قِبل الفنان نفسه، فالفنان بحسب لمبز "يسبق بعمله الفني زمانَه"، والعمل الفني المبدع "يحتوي في حيثياته الماضي والحاضر والمستقبل"، وكثير من الفنانين "فُهمت وقُدرت أعمالهم بعد رحيلهم ورحيل مَن لم يفهمهم في زمنهم".

أقام الفنان الراحل ستة عشر معرضًا شخصيًا، خُصص معظمها لفن الخط والحروفيات العربية، وشارك في العديد من المعارض الجماعية، من بينها معرض الفنون التشكيلية الأردني في بكين عام 1984، ومعرض "نقطة لقاء" في جوتنبورج بالسويد عام 1998.

عن وكالة الأنباء العمانية



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية