
منذ اندلاع حرب غزة إثر الهجمات التي شنتها حماس على إسرائيل، ثمة انتباهة أوروبية لتصاعد مخاطر قوى الإسلام السياسي، خاصة في ظل التهديدات التي تشكلها، سواء أمنية أو سياسية أو مجتمعية. فلم تكن الاحتجاجات، أو بالأحرى محاولات الاصطفاف مع حماس والدعاية المشبوهة التي روجت لها فصائل إسلاموية متباينة، بداية من الإخوان ومروراً بتنظيمي القاعدة وداعش الإرهابيين، لم تكن أمراً جديداً، إنّما لامست، هذه المرّة، المصالح الغربية.
ومنذ ما قبل حرب غزة شهدت عواصم أوروبية إجراءات مباغتة لتقييد أنشطة الجماعات الإسلاموية، وتقويض نفوذها، لا سيّما مع تغلغلها بالمجتمعات الأوروبية تحت لافتات أنشطة خدمة وتنموية وعبر شبكات المجتمع المدني.
صعود الأصولية
وقد وفرت هذه العوامل والشروط فرصة للتيار الأصولي الديني أن ينجح في جذب واستقطاب عدة أفراد من الجاليات العربية والإسلامية، ويعاود خلط القضايا الدينية بالهويات السياسية، كما في إدارة ملف الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، لخلق هويات مسيّسة ومؤدلجة انعزالية، تكون جاهزة لدور حركي تبشيري وكفاحي، بل جهادي، ضد خصوم هذه الجماعات. ومع التطورات الأمنية الإقليمية والعالمية برز الإسلام السياسي بالغرب باعتباره ليس مجرد أداة محدودة يمكن توظيفها وإدارتها ضمن أوراق عديدة موجهة للخارج، بل ظاهرة تبعث بمخاوف جمّة تتطلب استجابات ضرورية ملحة متعددة الأبعاد.
ويمكن القول إنّ التحركات القانونية والسياسية والأمنية ضد الإسلام السياسي في العواصم الأوروبية تكاد تكون محطة فاصلة، وتشكل لحظة قطيعة مع سوابق تاريخية، وقد طُرح هذا التيار على نحو براغماتي وتلفيقي، بوصفه ضمن القوى التي يمكن الاعتماد عليها لإحداث حراك سياسي بالشرق الأوسط ودمجه في المجال العام لتعزيز الديمقراطية. وحدثت ازدواجية في التعاطي الأوروبي مع هذه القوى، باعتبار أنّه من الضروري دمجها في المجتمعات الأوروبية، والسعي لقبولها في أطر القوانين والمؤسسات الليبرالية والدستورية. عداء هذه القوى المتشددة للقيم الغربية التي سمحت لها بالتواجد والنشاط، ونبذها وتحقيرها للقانون والديمقراطية ومبادئ العلمانية، لم يكن بطبيعة الحال مباغتاً، إلا أنّه مع تهديد المصالح الغربية، محلياً وخارجياً، وكذا استقرارها، شكّل لحظة صحوية.
حرب غزة الأخيرة أسهمت في تنشيط الخطاب السياسي والإعلامي لقوى الإسلام السياسي بأوروبا، بل إنّ الأخيرة طاولتها استهدافات عنيفة وتحريضية، بما كشف عن التجانس التام في المواقف والممارسات بين التيارات الأصولية، وأنّه ليست هناك فروقات بين الإخوان أو القاعدة أو داعش، وأنّ الخلافات الظاهرية إنّما هي مؤقتة. وفي الأحداث التي بدأت مع السابع من تشرين الأول (أكتوبر) عام 2023، بدا اصطفاف الإسلامويين واضحاً لتحشيد الرأي العام المسلم ضد الغرب والولايات المتحدة، والترويج لخطاب ديني مؤدلج ومسيّس حول "دار الإسلام" و"دار الكفر"، ورفع مستوى الاستقطاب السياسي داخل المجتمعات الأوروبية. وانطلقت في عدة مدن أوروبية احتجاجات عنيفة، وبعض هذه الاحتجاجات تبنّت سرديات مؤامراتية، متهمةً الحكومات الغربية بالتواطؤ في "اضطهاد المسلمين" بالجملة، ودعم "الإبادة في غزة".
مواجهة مفتوحة مع الإسلام السياسي
أمام هذه التحديات باشرت عدة دول أوروبية في اتخاذ إجراءات متعددة لمواجهة نفوذ الإسلام السياسي. واستبقت فرنسا الجميع، وقبل حرب غزة، فقد قامت منذ عام 2020 بحلّ عدد من الجمعيات الإسلامية المتهمة بالتطرف مثل جمعية "بركة سيتي" و"التجمع ضد الإسلاموفوبيا في فرنسا"، كما تم تعزيز الرقابة على الجمعيات الدينية والتعليمية. وتوسعت هذه الإجراءات بعد حرب غزة، وتمّ وضع خطب المساجد تحت المراقبة، والتشديد على شروط تمويل الجمعيات.
اتبعت ألمانيا وفرنسا وهولندا سياسة صارمة تجاه تمويل الجمعيات الإسلامية، خصوصاً تلك المرتبطة بالإخوان المسلمين. وشهدت الأعوام الأخيرة تعزيز التعاون الأوروبي لمتابعة حركة الأموال المتدفقة من الخارج، وإغلاق الحسابات البنكية المشتبه بها. ويسعى الأوروبيون، وخاصة فرنسا، إلى تعزيز موقع "الإسلام الأوروبي"، وتعميم رؤية حضارية عن الإسلام الذي لا يتصادم مع القيم الحداثية، ويتوافق مع القيم الأوروبية، مثل الحرّية والمساواة والاندماج. وأُسست مجالس دينية وطنية تعمل على تدريب الأئمة وفق مناهج تضمن الاعتدال واحترام قيم الجمهورية.
المعركة ضد الإسلام السياسي تتطلب أدوات ثقافية وفكرية، وليس فقط أمنية. فنجاح النموذج الأوروبي في التعامل مع هذه الظاهرة سيكون مرهوناً بقدرته على دمج المسلمين بطريقة تضمن احترام خصوصيتهم وتنوعهم الثقافي والديني، من دون التهاون مع المحاولات التنظيمية والحركية للتغلغل في المؤسسات والمجتعات عبر المجتمع المدني والمراكز الدعوية والثقافية، والأنشطة التنموية والخيرية، لتشكيل حواضن وحوامل اجتماعية، لإضعاف أسس الدولة الديمقراطية، وتشكيل أفخاخ لإنتاج جيل من الإرهابيين.
وقد كشفت مصادر رسمية وصحافية عن قائمة للمنظمات التي تُروّج لتنظيم الإخوان الإرهابي وللإسلام المتطرف، والتي تُموّلها أوروبا بنفسها بشكل مباشر أو عبر أطراف أخرى، بحسب تقرير حديث لصحيفة (لوفيغارو) الفرنسية. في حين يأتي ذلك بعد أيام قليلة من نشر محكمة المحاسبات المالية الأوروبية، منتصف نيسان (أبريل) الجاري، تقريراً صادماً انتقد المفوضية الأوروبية بسبب إدارتها الغامضة وغير المعقولة لـ (7.4) مليار يورو من الإعانات المخصصة عادة للمنظمات غير الحكومية، ولم يعد من الممكن تتبّع سُبل إنفاقها.
تواطؤ وتمويل
وعلى مدى الأعوام الـ (10) الماضية كانت المفوضية الأوروبية ودولها الأعضاء تمنح مبالغ كبيرة من التمويل للمنظمات المثيرة للجدل دون أن تُحرك ساكناً. وهو الوضع الذي استنكرته منذ فترة طويلة عضو مجلس الشيوخ ناتالي جوليت، المُتخصصة في تمويل الإرهاب.
وقالت القانونية الفرنسية، التي دأبت على التحذير من تمويل أوروبا للمشاريع الإسلاموية: إنّ "السؤال هو متى سنتمكن من السيطرة على هذه التجاوزات؟"، لافتة إلى أنّ هذه القضية لم تغب عن أذهان بعض البرلمانيين، لكنّهم عاجزون عن إيقاف الآلية، وذلك على الرغم من أنّهم سبق أن قدّموا أمثلة عن الأموال المدفوعة لجامعات ومنظمات وجمعيات محسوبة على الإسلام السياسي، وفقاً لما نقلته صحيفة (24) عن التقرير الفرنسي.
من جهته، كشف المحلل السياسي الفرنسي والكاتب في (لو فيغارو)، ستيف تينري، أنّ الصحيفة تمكنت قبل أيام في تحقيق لها من الوصول إلى وثائق أكثر إحراجاً، تُثبت أنّ اتحاد الـ (27) دولة أوروبية واصل في الأعوام الأخيرة تمويل عدد كبير من المنظمات التي تروّج للإسلام السياسي والراديكالي، وخاصة الإخوان الإرهابيين، وذلك على الرغم من أنّ بروكسل تشترط لدعم أيّ منظمة أو جمعية أن تقوم بأعمال "تحترم قيم الاتحاد الأوروبي"، أي الحرية والديمقراطية والمساواة وسيادة القانون وحقوق الإنسان.
ومن المفترض بمجرد تقديم المنح المالية أن تظهر في نظام الشفافية المالية الإلكتروني، لكن بحسب محكمة المحاسبات، فإنّ هذا التمويل الضخم يتم تخصيصه بشكل سيّئ للغاية، ويتم الإشارة إليه بشكل أسوأ، لدرجة أنّه يفلت من أيّ مراقبة إدارية، خاصة أنّ اللائحة المالية تتطلب فقط الكشف عن المستفيدين من المستوى الأول، أي أولئك الذين يتلقون التحويلات مباشرة من الاتحاد الأوروبي.
وشملت قائمة التمويل، حسب مصادر (لو فيغارو)، الجامعة الإسلامية في مدينة غازي عنتاب التركية، وعُمداءها المُثيرين للجدل بدعمهم لحركات الإسلام السياسي وتصريحاتهم المتطرفة. إذ بفضل انضمامها إلى برنامج "إيراسموس+" للتبادل الطلابي الجامعي، الذي تُديره المفوضية الأوروبية، تمّت الاستفادة من أكثر من (12) مليون يورو، إمّا بشكل مباشر، وإمّا عبر جهات أخرى مُستفيدة من الدعم الأوروبي. كما تم استثمار نحو (14) مليون يورو في منظمة غير حكومية تُدعى "الإغاثة الإسلامية العالمية"، المقربة من جماعة الإخوان الإرهابية، بشكل مباشر، لغرض "المساعدات الإنسانية" للفئات السكانية الضعيفة في سوريا وتركيا والبوسنة، ولكن ظهرت دلائل على استخدام الأموال في دعم منظمات مصنفة إرهابية.
وهناك جمعية أخرى داعمة للإخوان استفادت من أموال أوروبا، هي "منتدى المنظمات الشبابية والطلابية الإسلامية الأوروبية"، الذي يُمثل حوالي (30) جمعية شبابية في (22) دولة أوروبية، ومن بينها منظمة "الشباب المسلمين في فرنسا"، و"المجتمع الإسلامي"، ومنظمة "تنمية الشباب المسلم في أوروبا"، التي حصلت على مبالغ ضخمة.