المدرسة.. من اخترعها؟ ولماذا؟

المدرسة

المدرسة.. من اخترعها؟ ولماذا؟


28/02/2019

"من اخترع المدرسة؟" قد يكون هذا سؤالاً مؤرقاً لطفل أرهقته الواجبات المنزلية، وقد يطلب إجابة، وينتظر أن تكون باسم من مقطعين لشخص ربما يوجه له بعضاً من المسؤولية عمّا أصابه، لكن بحثاً مبسطاً يظهر أنّ الأمر لم يقف على شخص، وإنّما هي نتاج لتحولات كبرى في الاجتماع والسياسة والاقتصاد، وعلى أيّة حال، فلنحاول الإجابة.
ما هو الاختراع الذي لم تكن المدرسة لتوجد بدونه؟
المدرسة هي بالأساس مكان للتعليم، وبالتالي فإنّ ظهورها تابع لتطوّر العلوم والمعارف عند المجتمعات، ومن ثم الحاجة لنقل هذه العلوم وإيصالها إلى الأجيال الناشئة في هذا المكان المسمى "مدرسة".

استدعى تطوّر الجيوش وأساليب القتال اهتماماً متزايداً بالتعليم لرفد الجيوش بكوادر متخصصة ضمن سلاحيْ الطب والهندسة

في عصور ما قبل اختراع الكتابة كانت الأقوام تتناقل معتقداتها وحكاياتها عبر المشافهة، وبالتالي فلم تتبلور فكرة التعليم كما حدث لاحقاً بعد نشوء الحضارات واختراع الكتابة، بدايةً من بلاد سومر جنوبي العراق؛ حيث ارتبطت عملية التعليم في بداياتها بتعليم كيفية كتابة النصوص وقراءتها.
وعند الفراعنة ظهرت فئة خاصة عرفت باسم "الكتبة" كانت من ضمن الطبقات العليا في المجتمع، وكانت مهنتهم محاطة بالسريّة، فقدرتهم على القراءة والكتابة جعلتهم مؤتمنين على أسرار الملوك والدولة، وبالتالي فإنّ فكرة التعليم لعامة الناس لم تكن واردة آنذاك.
وطوال العصور القديمة كثيراً ما تداخل التعليم مع الكهانة وكانت المعابد هي مكان نقل المعارف الدينية، وفي الهند القديمة كانت المعرفة محصورة في الطبقة العليا من رجال الدين الهندوس (البراهمة).

رسم يصوّر كاتبين من مصر القديمة

الانفصال عن المعبد
ومع تزايد المعارف والعلوم الدنيوية المنفصلة عن إطار المعارف الدينية ظهرت في مدينة أثينا لأول مرة نموذج الأكاديمية المستقلة كما "أكاديمية أفلاطون" (تأسست عام 387 ق.م) وهو النموذج الذي تكرر لاحقاً في مدن عدة من مختلف أرجاء العالم الإغريقي-الروماني. وكانت هذه الأكاديميات والمدارس تعلم "الآداب الحرّة" (Liberal Arts)، بما يشمل الفلسفة، والمنطق، والشعر، واللغات، والموسيقى، والدراما.

اقرأ أيضاً: المدرسة والبيت: علاقات جدلية.. فكيف نحقق المعادلة الصعبة؟

ويشير المؤرخ "هوبكنز" في كتابه "الغزو عن طريق الكتاب"، إلى أنّ نسب معرفة القراءة والكتابة في مدن اليونان لم تكن تتجاوز ما نسبته 5% في أحسن الأحوال، في حين أنّها في عموم الإمبراطورية الرومانية لم تكن تتجاوز 1-2%.

لوحة رافائيل الشهيرة.. مدرسة أثينا

عودة إلى دار العبادة
وفي العصور الوسطى تطوّرت نماذج وأشكال جديدة للتعليم والمدارس، جمعت ما بين التعليم الديني ودراسة آداب حرة كالمنطق واللغة، ففي العالم الإسلامي ظهرت "الكتاتيب"، وبدأت على شكل حلقات داخل المساجد، ثم أصبح لها مكانها المخصص بجانب المسجد، وارتبطت بتعليم الأساسيات لصغار السن، بينما يتلقى الأكبر سنّاً الدروس في حلقات علم على يد شيوخ مختصّين.

تم توظيف المدارس لغايات ضبط التنشئة السياسية لعموم المواطنين عبر التوجيه والتربية الوطنية

وقد تطوّرت نماذج أولى للجامعات وانطلقت من الجوامع المركزية كالجامع الأزهر بالقاهرة، والزيتونة في تونس، والقرويين في فاس. ثم ظهر التعليم الخاص، كما في تدريس المؤدبين لأبناء الخلفاء والوزراء. وفي القرن الحادي عشر ظهر نموذج جديد مطوّر لأماكن التعليم، عرف باسم "المدارس النظامية"، نسبة لمؤسسها الوزير "نظام الملك"، ولكنها ظلّت مرتبطة بالأساس بتدريس العلوم والمعارف الدينية.
وفي العالم المسيحي، كانت الأديرة هي مراكز الدراسة والتعليم الأساسية؛ حيث كان الرهبان في الكنيسة الكاثوليكية يتعلمون القراءة والكتابة باللاتينة، ويعتكفون على دراسة الأناجيل وشروحها، وكانت هذه الأديرة المنعزلة هي أصل نظام المدارس الداخلية. وقد عرفت جزيرة أيرلندا بـ "جزيرة العلماء والرهبان"، لكثرة انتشار الأديرة فيها.

اقرأ أيضاً: مدرسة الرقاب القرآنية تهزّ الرأي العام التونسي.. هذه تفاصيل القضية
أما في الشرق الأقصى، فأدى تطور "بوذية الزن" في الصين واليابان والتحرر من النظرة السوداوية للعالم التي اتسمت بها البوذية الهندية، إلى ظهور اهتمام متزايد بإتقان وممارسة الفنون والرياضات، وبالتالي ازدادت مواد ومواضيع التعليم والتدريس وازداد الإقبال عليها.

رسم يصور حلقات العلم في أروقة الجامع الأزهر

تحوّلات كبرى.. ما علاقاتها بفرض التعليم الإلزامي؟

وبعد اختراع يوهان غوتنبرغ المطبعة عام 1447، وما أُدخل من تطويرات لاحقة عليها، تضاعف حجم الكتابات المطبوعة سريعاً، وساهم ذلك في تحقيق انتشار واسع للكلمة المقروءة، وباتت الكتب في متناول الجميع، وترافق ذلك مع نهضة العلوم في وسط وغرب أوروبا، كما تطورت منذ القرن الخامس عشر أنظمة المعاملات البنكية، وأدى كل ذلك إلى إقبال متزايد على تعلم القراءة والكتابة والحساب.

في عصور ما قبل اختراع الكتابة كانت الأقوام تتناقل حكاياتها عبر المشافهة فلم تتبلور فكرة التعليم كما حدث بعد نشوء الحضارات

كما شهدت أوروبا خلال القرن الثامن عشر تحولات سياسية كبيرة، أدت إلى صعود الدولة القومية بدلاً من الإمبراطوريات، واستدعت الحروب وتطوّر الجيوش وأساليب القتال اهتماماً متزايداً بالتعليم؛ لرفد الجيوش الحديثة بكوادر متخصصة ضمن سلاحيْ الطب والهندسة.
وازدادت الحاجة لضبط جموع المواطنين وتوجيههم وفق احتياجات الدولة، وفي روسيا، لذا سعت الإمبراطورة "كاترينا الثانية" (1762-1796) إلى تحقيق نهوض شامل بالبلاد، وهنا ظهرت محاولة مستشارها "إيفان بيتسكوي" الذي أراد "خلق عرق جديد من الشعب الروسي عبر التعليم"، وترجمت أفكاره عبر تأسيس "معهد سمولني"، والذي خصص لبنات طبقة النبلاء في مدينة سانت بطرسبورغ شمال البلاد.

اقرأ أيضاً: هل تسمح بلجيكا بافتتاح مدرسة الهلال الإسلامية؟
وفي عام 1800، تم إقرار أول تعليم إلزامي انتظمت فيه قطاعات واسعة من الشعب، وكان ذلك في مملكة بروسيا (جزء من ألمانيا وبولندا اليوم)، وجاء هذا النظام بدافع إنتاج جنود ومواطنين أكثر طاعةً وانضباطاً.

فتيات من معهد سمولني.. أثناء وقت تناول الطعام

أبو التعليم العام.. من هو؟
وبعد استقلال الولايات المتحدة الأمريكية، أعلن "توماس جيفرسون" فصل المدارس عن الكنائس في الولايات المتحدة، ولكن الخطوة الأهم جاءت مع إصلاحات "هوراس مان"، بعد انتخابه في مجلس ولاية ماساشوستس، والتي انتهت بحدود العام 1840 إلى إقرار نظام التعليم الأساسي المجاني في الولاية، ليعرف منذ ذاك الحين بـ "أبو المدارس العامة"، ثم بدأ التعليم الأساسي المجاني بعدها بالانتشار في مختلف الولايات. وقد دفع هذا الانتشار إيمان الساسة الأمريكيين بضرورة خلق مجتمع متعلم كخطوة أساسية للوصول إلى المجتمع الديمقراطي.

اقرأ أيضاً: تونس: محاولة إحراق مدرسة دينية يهودية
ومع تزايد تأثيرات الثورة الصناعية في القارة الأوروبية، ازدادت الحاجة لإعداد القوى العاملة المنتجة، بحيث تكون قادرة على المساهمة في الاقتصاديات الصناعية الناشئة. وبذلك بدأت نسب التعليم ترتفع في عموم أرجاء القارة، ووصلت نسب التحاق الأطفال بالمدارس في أوروبا في هذه المرحلة إلى حدود 40-50% من الذكور و15% من الإناث.

هوراس مان "أبو التعليم العام" في الولايات المتحدة

ومع حلول أواخر القرن التاسع عشر، كان التعليم الأساسي للقراءة والكتابة والحساب قد انتشر في معظم أرجاء غرب ووسط أوروبا، وفي عام 1900 وصلت نسبة الالتحاق بالتعليم هناك إلى حدود 90%. ويعود ذلك بالأساس إلى إيمان القادة بدور المدرسة في توجيه سلوك المواطنين وضبطهم وصياغتهم وفق توجهات الدولة واحتياجاتها والاقتصادية، وكذلك كان الحال في اليابان في عهد إمبراطورية ميجي، حيث كان التعليم عنصرا أساسياً في عملية التحديث هناك.
المدرسة الجمهورية الحديثة.. ما الهدف منها؟
وكما كان اسم "هوراس مان" اسماً فارقاً في الولايات المتحدة كان "جول فيري"، السياسي الفرنسي الذي تولى وزارة التوجيه العام في ثمانينيات القرن التاسع عشر، اسماً فارقاً على صعيد تأسيس النظام المدرسي الحديث في أوروبا.
فقد قام فيري باستحداث نظام "المدرسة الجمهورية الحديثة"، وذلك عبر إلزام الأطفال تحت سن الخامسة عشر، ذكوراً وإناثاً، بالالتحاق بها وقام بإصدار قوانين خاصّة بذلك، وكانت هذه المدارس مجانية وعلمانية، وأراد فيري تحقيق هدف أساسي من ورائها، وهو كسر سيطرة الكنيسة الكاثوليكية على صغار السن، وقد ظلت المدارس  الكاثوليكية ذات حضور بارز حتى مطلع القرن العشرين.

جول فيري.. كان شديد العداء للكنيسة ورجالها فأراد خلق نظام تعليمي يحد من نفوذها

وأما خارج القارة الأوروبية، فقد ساهمت الإرساليات بدور كبير في نشر نظام التعليم الحديث، فكانت الإرساليات في المشرق العربي تقوم بتأسيس مدارس ومستشفيات ضمن مقرّاتها، وفيما بعد أصبحت الدعوة إلى تأسيس المدارس الحديثة جزءاً أساسياً من دعوات الإصلاح والنهوض في العالم الإسلامي.
هل هناك هدف سياسي للمدرسة؟
ونتيجة لتطور أجهزة ومؤسسات الدول، ونشوء المهن المتخصصة في القرن العشرين، ازدادت الحاجة لإعداد العمالة الماهرة المتعلمة، وبالتالي بات من غير الممكن الاستغناء عن التعليم الإلزامي العام بالنسبة للدولة الحديثة، وذلك بسبب ارتباط التعليم بالاقتصاد وإعداد الموارد البشرية. وهو ما تُرجم عبر تنفيذ برامج محو الأميّة، وإقرار مبدأ التعليم المجاني. كما تم توظيف التعليم والمدارس لغايات ضبط التنشئة السياسية لعموم المواطنين، عبر التوجيه والتربية الوطنية.

اقرأ أيضاً: لماذا وظّفت مدرسة مسيحية معلمة مسلمة محجبة؟
وفي مرحلة لاحقة من القرن، ومع تراجع دور الدولة في أنحاء عديدة، ازدادت نسب المدارس الخاصة مقابل المدارس الحكومية، كما ظهرت أنظمة من المدارس العالمية التي تخضع لأنظمة خاصة مستقلة عن النظام المعتمد في الدولة.
وإذا كان الاتجاه السائد في العصر الحديث اتجه نحو التمسك بنموذج المدرسة والتعليم الإلزامي، فإنّ ذلك لم يمنع من بروز اتجاهات وأفكار عديدة مناوئة رأت في المدرسة حجاباً عن التعليم لا سبيلاً له، وحاولت تقديم البدائل التي رأتها أكثر فعالية، وقد تعززت هذه الدعوات من تطوّر وسائل الاتصال والتقنيات الحديثة، سنتعرف على أبرز هذه الاتجاهات والأطروحات في التقرير القادم.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية