اللبنانيون ورحلة البحث عن الدولة في الدولة

اللبنانيون ورحلة البحث عن الدولة في الدولة


22/10/2020

يقول الكثير من اللبنانيين إنّه لا توجد لديهم دولة في دولة لبنان، ولا جمهورية في الجمهورية، سوى أنّها شركة مساهمة محدودة في المال والأعمال والصفقات، لطبقة من السياسيين الذين انحرفوا بفعل الإغراء إلى السياسة من أجل عيون الاقتصاد الأسود.

ويعترف كاتب بحجم سمير عطا الله، في صحيفة "الشرق الأوسط"، بأنّه وغيره لم يعودوا يتذكرون آخر مرة كانت لهم دولة، وعندما يتذكرون ذلك - حسب تعبيره - يدعون الله أن يحمي الدولة التي ولدت أو أقيمت على المفترقات.

 

يمكن توصيف المتغيرات السياسية باللغة اللبنانية بأنّها عواصف سياسية، والأزمة قد تبدو بصيغة كارثة

 

يبدو أنّ الكاتب يحاول إيصال فكرة للجميع مفادها أنّ لبنان بلد المفارقات بجدارة؛ فاللبنانيون، الذين لا يليق بهم كل ما يحدث لهم ولبلدهم، شعب ما فوق حداثوي أو ما بعد حداثوي، يعيش حالة سياسية مُشوّهة ومُربِكة، لا تكاد تقترح تحليلاً مناسباً لواقعها السياسي والاقتصادي والاجتماعي وحتى البيئي؛ ففي فترة من الفترات - وهي قريبة بالمناسبة - تحوّلت شوارع بيروت إلى "مزابل"، بسبب عناد وأنانية وقبح الرأسماليين غير الشرفاء، نعم، لا تكاد تقترح تحليلاً مناسباً لذلك الواقع حتى تكون مضطراً للاشتباك مع وقائع أخرى يتغيّر وفقها السلوك السياسي حسب المزاج وليس حسب الضرورة أو الحتمية، وأيضاً، تكاد تقترح علينا اللغة كلمات ومصطلحات وتعبيرات في الواقع أو الوقائع السياسية اللبنانية أكثر قسوة ممّا لو كانت في سواها من البلدان والدول، يمكن - على سبيل المثال - أن يتم توصيف المتغيرات السياسية باللغة اللبنانية بأنّها عواصف سياسية، والأزمة قد تبدو بصيغة كارثة.

اقرأ أيضاً: لبنان العائم على مخازن "حزب الله"!

لدى الكثيرين حالة شديدة اللهجة من التساؤل باستغراب: "لماذا لم تتحول لبنان الدولة والشعب وحتى الجغرافيا إلى كارثة حقاً؟"، ولكن هناك فعلاً من يبدو جريئاً جداً إلى درجة كبيرة ومؤلمة، تؤهله لأن يقول بفم مليء بالأسئلة الحرجة ووجدان طافح بالحيرة؛ إنّ الكارثة موجودة فعلاً، موجودة في مراكز الحكم والتحكّم والسلطة والقيادة، وهنا للكلمات دلالاتها المباشرة فعلياً، والتي لا تحتاج إلى تأويل؛ ففي لبنان مراكز وليس مركز قيادة وحكم وسلطة، وذلك داخل الجغرافيا اللبنانية وحدها. ولا أتحدث هنا عن سلطة كارلوس لوريس في الهندوراس ولا سيزار طرابيه حين كان رئيساً لكولومبيا، وجميل معوض وعبد الله بو كرم وثيودور سالم في الأكوادور مثلاً، أقصد أولئك الذين يناضلون بإصرار عجيب داخل لبنان ضد لبنان وضد اللبنانيين، وهذه مفارقة أخرى بطبيعة الحال؛ فالعقل اللبناني الذكي الذي حكم بجدارة في أمريكا الجنوبية، لم يستطع أن يحكم في الشرق الأوسط، وفي لبنان تحديداً، في هذه المساحة الصغيرة جداً التي كانت في الستينيات مدرسة رائعة في الحداثة والرقي والأمن والسحر والجمال، وأصبحت اليوم مدرسة حتى في الفشل، والذي يحدث ليس فشلاً أو إخفاقاً، إنّه إرادة الفشل والإخفاق القصدي مع سبق الإصرار والعناد والطمع وموت الضمير والانتماء وقلة الوفاء.

 

الفساد في لبنان قاتل وخطير وعنيد، لا يمكن معالجته بتحقيقات شرطية أو محاكمات قضائية أو أحكام جرمية

 

فيّ لبنان، هذا لسان حال كل لبناني يعتاش على ركام كثير وكثيف من القلق والخيبات وخسارات حروب السياسة والمقاومة والنضال، لقد حوّل حزب الله - على سبيل المثال - لبنان إلى ميدان أو معسكر، كل شيء مُركّب وفق هذه الصيغة؛ عسكرة السياسة والاقتصاد وعسكرة المجتمع وعسكرة الثقافة وعسكرة الخطاب وعسكرة الطموح والأمل.

وفي هذا السياق الحاد من الاستعصاء والاستحالة، يطلب زعيم المعسكر الديني حسن نصر الله من اللبنانيين جميعاً خلق نهضة زراعية وصناعية لمواجهة ظروف لبنان واللبنانيين، ولست أدري عن أي فهم يمكن أن نصدر حكماً ما على هذه الدعوة الملتبسة بسوء الفهم أو التي تقصد سوء الفهم من قبل رجل هو أعمق جزء من المشكلة اللبنانية، يستحيل معها أن يكون هو ودعوته تلك للزراعة والصناعة، جزءاً من الحل.

اقرأ أيضاً: هل ذهبت انتفاضة اللبنانيين إلى غير رجعة؟

إنّ لبنان اليوم بين عسكر السياسة المهزوزة والمهزومة، وبين سياسة العسكر الخبيثة، تحوّل إلى هذا البلد الواهن والضعيف والمغلوب على أمره بين سياسيين ضالعين في التأزيم والمحاصصات، وبين عسكر بعمائم ورتب وبزّات وربطات عنق، ضالعين في تقويض التفاهمات من أجل صناعة انتصارات وهمية، تُشبه تلك الانتصارات التي تملأ الميكروفونات والشاشات وأوراق الصحف والمنشورات وأحاديث الحارات.

اقرأ أيضاً: في ذكرى انتفاضة 17 تشرين: السياسيون منقسمون والجوع يهدد اللبنانيين

الفساد في لبنان ليس مجرد حالة من اللصوصية ونهب المال العام والسطو على العطاءات الحكومية، وليس حسابات بنكية فيها أنانية وشبهات أكثر ممّا فيها أموال، الفساد في لبنان طائفي أيضاً، وهو فساد من نوع قاتل وخطير وعنيد، لا يمكن معالجته بتحقيقات شرطية أو محاكمات قضائية أو أحكام جرمية، إنّه جريمة عميقة على مستوى الثقافة والوعي والانتماء.

 

 يعيش لبنان حالة الحرب بلا حرب، ويعيش تفاصيل مجتمع الكراهية دون أن يتوقع أحد أنّ ما يحدث كراهية

 

لا أحد ينجو في لبنان من سوء السياسة، وإن نجا منها أحد - ولا أظن ذلك - فلا يكاد ينجو من سوء الطالع. ولا أحد بريء في لبنان، حتى أولئك الباحثون عن الدولة في الدولة الفاشلة، وتحت أنقاض ما تهدم من أشواق اللبنانيين وأحلامهم وتطلعاتهم تحت وطأة عناد السياسيين وشراستهم لأجل مصالحهم الواسعة والفضفاضة التي تحتاج أكثر من لبنان واحد لتحقيقها وتحصيلها وحمايتها.

اقرأ أيضاً: كيف سيتمكن لبنان من التعافي؟

بالنهاية، يبدو الأمر مثيراً جداً ليس للخوف والقلق على لبنان، بل للغرابة، فهو بلد يعيش حالة حرب بحذافيرها بلا حرب، وبلد يعيش تفاصيل مجتمع الكراهية دون أن يتوقع أحد أنّ ما يحدث كراهية؛ فاللبنانيون ودودون ومحبون للحياة، لكن ثمة من هم ليسوا لبنانيين - بالوفاء والانتماء والود والطيبة والحب - بل بجوازات السفر والبطاقات الشخصية.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية