الغنوشي وقضية التمويل الخارجي: خطوة لتفكيك “الصندوق الأسود”

الغنوشي وقضية التمويل الخارجي: خطوة لتفكيك “الصندوق الأسود”

الغنوشي وقضية التمويل الخارجي: خطوة لتفكيك “الصندوق الأسود”


22/02/2024

عواطف السويدي

لطالما كان تمويل “حركة النهضة” موضوع “صندوق أسود” الذي لا يزال يثير الجدل، رغم أن الحركة الإسلاموية نفت مراراً تلقّي تمويلات خارجية في مواجهة اتهامات من خصومها.

ومنذ إعلان الرئيس التونسي قيس سعيّد عن الإجراءات الاستثنائية في 25 تموز/ يوليو 2021، تصاعدت المطالب بمحاسبة المنظومة التي تسببت فيما بات يُعرف بـ “العشرية السوداء”، التي شهدت استغلال عدد من الأحزاب لنفوذها السياسي في الحصول على تمويلات أجنبية تم توظيفها في تمويل حملاتها الانتخابية، وفي مقدمتها “حركة النهضة”، التي شاركت في الحكومات المتعاقبة بعد عام 2011، وأنفقت أموالاً طائلة على الحملات الانتخابية، ووعدت بمشاريع مهمة لم تنفّذ.

ولعل أبرز مظاهر التمويل الأجنبي الهائل لـ”حركة النهضة” كان خلال المؤتمر العاشر الذي عُقد عام 2016، بتكلفة مالية ناهزت 5 مليارات دينار تونسي، بحسب تقارير إعلامية، لكن الحركة نفت ذلك، مؤكدة أن الميزانية لم تتجاوز 1 مليار دينار.

“حزب النهضة” وشكوك حول مصادر تمويلها

تؤكد “النهضة” طيلة العشرية السابقة أن مصادر تمويلها اقتصرت على الانخراطات والهبات والزكاة لأصدقاء الحركة. وعندما وصلت إلى مقاليد السلطة كان لها وسائل إعلام خاصة بها، الأمر الذي أثار حفيظة “حزب التيار الديمقراطي” آنذاك.

في ذات الصدد، أثار تحقيق صحفي عن ثروة رئيس “حركة النهضة” راشد الغنوشي جدلاً واسعاً في تونس حول التدقيق في مصادر تمويل الإسلاميين وحزبهم. وذكر تحقيقٌ نشرته صحيفة “الأنوار” المحلية حينذاك، أن الغنوشي يتصدر قائمة أثرياء تونس بثروة لا تقلّ عن 2.7 مليار دينار تونسي (حوالي مليار دولار أميركي).

وكثيراً ما كانت علاقات حركة “النهضة” الخارجية محل تشكيك في تونس، خصوصاً في ظل الاتهامات التي تلاحقها بمحاولتها تنفيذ أجندات التنظيم الدولي لـ”الإخوان المسلمين” في البلاد.

وهذه الاتهامات لم يثبتها القضاء التونسي في السنوات الأخيرة، إلا أن تقرير محكمة المحاسبات الخاص بانتخابات 2019، ساهم في فتح هذا الملف، إذ توصلت السلطات القضائية بعد التحقيقات إلى إدانة قيادات “النهضة” في ملف التمويل الخارجي، فقد أصدرت مؤخراً الدائرة الجنائية المختصة في قضايا الفساد المالي بالمحكمة الابتدائية في تونس العاصمة حكماً بسجن رئيس “حركة النهضة” راشد الغنوشي، ثلاث سنوات مع النفاذ العاجل بتهمة تلقّي تمويل أجنبي. وقال محاميه سامي التريكي، لوكالة “فرانس برس”، إن الغنوشي الذي يمضي حالياً عقوبة بالسجن لمدة 15 شهراً، أُدين بتهمة تلقّي “تمويل أجنبي” لحزبه الإسلاموي.

 كذلك، حُكم على صهره رفيق عبد السلام، وزير الخارجية الأسبق (2011-2013)، غيابياً بالسجن ثلاث سنوات. وبالإضافة إلى أحكام السجن ضد الغنوشي وصهره، أمرت المحكمة “حزب النهضة” بدفع غرامة مالية قدرها مليون و170 ألفاً و470 دولاراً.

وأثار هذا الحُكم تساؤلات حول مصير الأحزاب السياسية المتّهمة بالفساد المالي وتلقّي التمويلات الأجنبية، إذ من شأن هذا الحكم أن يمهّد لحلّ “حركة النهضة” عبر القضاء استناداً إلى قانون الأحزاب.

وكانت مديرة ديوان رئيس الحكومة سامية الشرفي، قد أعلنت خلال جلسة استماع لها بالبرلمان في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، عن صدور قرارات قضائية تقضي بحلّ 15 حزباً سياسياً وتجميد نشاط 97 منها، بسبب قضايا تتعلق بـ”الشفافية المالية ومصادر التمويل”، دون تحديد هويتها.

تمويلات تدعم البقاء في الحكم

وفي تقريرها العام حول نتائج مراقبة تمويل الحملات الدعائية للانتخابات الرئاسية السابقة والتشريعية لعام 2019، رصدت محكمة المحاسبات أن “حركة النهضة”، تعاقدت في 2014 مع شركة دعاية وضغط أجنبية لمدّة أربع سنوات بمبلغ قدره 285 ألف دولار.

وجرى تجديد هذا العقد من 16 تموز/ يوليو 2019 إلى 17 كانون الأول/ ديسمبر من العام نفسه، بمبلغ قدره 187 ألف دولار، وهو ما اعتبرته المحكمة “شبهة تمويل أجنبي” بنص الفصل 163 من القانون الانتخابي.

ويرى مختصون أن “التمويل الأجنبي وتورط الحزب في تلقي تمويلات أجنبية من أجل الفوز بمقاعد في البرلمان يعني تزوير الانتخابات”.

وفي وقت سابق، اتّهمت منظمة “أنا يقظ” الحركة، بشبهة الحصول على تمويلات أجنبية مجهولة المصدر أعوام 2016 و2018.

وقالت المنظمة المتخصصة بقضايا الفساد، إن الحركة وقّعت عقدَين مع إحدى الشركات الأجنبية بقيمة تتجاوز 355 ألف دولار، قبل مؤتمرها العاشر عام 2016، وقبل الانتخابات البلدية عام 2018.

ويحظر القانون التونسي على الأحزاب السياسية قبول تمويل مباشر أو غير مباشر صادر عن أيّة جهة أجنبية ويُمنع حيازة أموالٍ بالخارج، ويعتبر أن البحث عن دعم أجنبي جريمة.

تنقية الحياة السياسية

ضمن هذا الإطار، يعتبر الناطق الرسمي باسم “حزب التيار الشعبي” محسن النابتي، أن “الضغط السياسي لحزب ما من أخطر القضايا السياسية لأنه يجمع بين التمويل الخارجي، وهو ممنوع منعاً باتاً على الأحزاب السياسية، وكذلك لخطورتها على المستوى السياسي وأهداف هذا الحزب أو أي حزب يقوم باللوبينغ خارجياً”.

وبيّن محسن النابتي في حديثه لـ”الحل نت”، أن “ملف تمويل النهضة ما زالت تداعياته مستمرة”، مشيراً في الوقت ذاته إلى أن ملف الفساد السياسي بشكل عام في تونس في العقد الماضي لم يظهر إلا “رأس جبل الجليد”، ولهذا يجب على القضاء الإسراع في فتح هذه الملفات.

وتابع متحدّثنا: “كل ملف يفتحه القضاء ويبت فيه بالإدانة أو البراءة في ملفات الفساد السياسي والمالي والإداري أو ملفات الأمن الوطني كالاغتيالات والتسفير واختراق أجهزة الدولة، هو خطوة في تنقية المناخ السياسي، والمناخ الاستثماري والعام”.

واختتم النابتي حديثه لـ”الحل نت”، بأن “هذا الأمر مطلب منذ سنوات، خاصة أن الحياة السياسية في تونس دُمّرت بالكامل جرّاء تشكّل مافيا سياسية حقيقية فيها ما هو مموّل خارجياً، وفيها واجهات لعائلات الريع ولوبيات داخلية، وتحوّل المشهد إلى ما يشبه الدمى المتحركة التي تحرّكها وتشكّلها مصالح وتقاطعات العائلات الريعية وشبكات النفوذ في الداخل، والتي بدورها مجموعة من وكلاء الشركات المتعددة الجنسيات، وحتى مراكز نفوذ التهريب لها أحزابُها وجمعياتُها وواجهاتُها السياسية، لذلك لا بدّ من المحاسبة”.

وفي سياق مستقبل الإسلام السياسي في تونس في ظل الملفات القضائية الكبرى التي تواجه “النهضة” الإسلاموية، يوضح النابتي، أن “ملف الضغط الخارجي والإسلام السياسي لا يمثلها حزب معين. فجماعة الإخوان المسلمين هي جزء رئيسي واضح من جماعات الإسلام السياسي، لكنها ليست كلها. وقد عرفنا في السنوات الأخيرة أشكالاً مختلفة من هذه الجماعات، وكلها كانت تتنافس لمعرفة أيّها أكثر عنفاً ودموية، وبرعت في كل شعارات التكفير والعنف الداخلي”.

مبادرة تشريعية في الصدد

من جانبها، تؤكد النائب في البرلمان التونسي، فاطمة المسدي، أن “مجلس نواب الشعب يدرس مسألة تقديم مبادرة تشريعية لتنظيم نشاط الأحزاب والجمعيات في تونس، بشكل يقطع التمويل الأجنبي المشبوه ويساهم في تنقية المشهد السياسي”.

وترى المسدي في حديثها لـ”الحل نت”، أن القضايا المتعلقة بـ”حركة النهضة” وقياداتها، كقضايا التسفير وتلقّي الأموال الخارجية والتخابر مع جهات خارجية، يستوجب حلّها وليس مجرد إغلاق مقرّاتها ومحاكمة قادتها”.

وفي نيسان/ أبريل 2023، أغلقت قوات الأمن التونسية المقرّ المركزي لـ”النهضة” وجميع مكاتبها في البلاد، فضلاً عن أنها منعت الاجتماعات فيها، وذلك بعد يوم من اعتقال زعيم الحركة راشد الغنوشي على خلفية قضايا “إرهاب”.

ويُلزم المرسوم المنظّم لنشاط الأحزاب السياسية في تونس كل حزب بـ”تقديم تقرير سنوي يتضمن وصفاً تفصيلياً لمصادر تمويله ونفقاته إلى دائرة المحاسبات”، لكن معظم الأحزاب لا تفعل ذلك.

وبالعودة إلى المسدي، فهي بصدد إعداد مقترح لتغيير قانون الأحزاب السياسية وهو المرسوم رقم 87، ليكون هناك تمويل عام للأحزاب، لإزالة أموال الفساد والتمويل الأجنبي المشبوه، وفق ما تضيفه لـ”الحل نت”.

تصنيف “النهضة” منظمة إرهابية!

في سياق متّصل، جرى نقاشٌ في “البرلمان” التونسي حول تصنيف “حركة النهضة” كتنظيم إرهابي، حيث قام مجموعة من النواب بعد إقرار إجراءات 25 تموز/ يوليو 2021، بإعداد قائمة سياسية لهذا الغرض، إلا أنها لم تتحصل على العدد الكافي من التوقيعات، إذ ظهر رأي آخر يتعلق بضرورة قيام القضاء التونسي بهذه الخطوة. كما ذكرت المسدي، أنه تمت مراسلة الحكومة حينها بهذا الخصوص، غير أنه لم يتم التفاعل مع الملف.

وتؤكد النائب فاطمة المسدي، أن ملف التمويل الخارجي إلى جانب ملفات التسفير والاغتيالات السياسية سيؤدي إلى حلّ “حركة النهضة”، خاصة أن القضاء يعمل بوتيرة أفضل حالياً وتخلّص من التعطيل الممنهج في الحُكم السابق للحزب، حيث أشارت إلى وجود ارتباط بين عدد من الملفات على غرار تمويلات “النهضة” وتمويل “جمعية نماء”.

وتنتظر النائب ان تتحرك الحكومة لمحاسبة “حركة النهضة” بعد جمع كافة الملفات والأدلة، مشدّدة على أنه في حال عدم اتخاذ الإجراءات القانونية، فإن النواب سيرفعون قضية في هذا الغرض.

في المقابل، لفتت المسدي إلى ضرورة تغيير قانون الأحزاب السياسية، نظراً لأن “حركة النهضة” أثّرت في صياغته عام 2011 بشكل يسمح لها بممارسة التعاملات الخارجية. وتتجه المبادرة التشريعية المزمع إعدادها إلى اعتماد التمويل العمومي كطريق للشفافية والمساواة، وبغاية خلق أحزاب كبيرة تُسهم في استقرار المشهد السياسي في تونس.

عن "الحل نت"




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية