ترجمة: محمد الدخاخني
إذا سألتَ طُلّاباً جامعيّين، مختصّين في الفلسفة، عن الكيفيّة الّتي أصبحوا بها مهتمّين بموضوع دراستهم، فإنّه من المرجّح جداً أنْ تكون الإجابة: "نيتشه".
وربّما لم يختلف معظم النّاس على فيلسوف مثلما اختلفوا على نيتشه.
في الأعوام الّتي أعقبت الحرب العالمية الثانية، بدا نيتشه، بشكل يتعذّر إصلاحه، ملطّخاً بارتباطه بالاشتراكية القومية.
واحتقارُه العلنيّ للمساواة واصفاً إياها بأنّها شكل من أشكال أخلاق العبيد، وكلامُهُ حول وجود شعوب وأجناس متفوّقة وأخرى متدنّية، ودعوتُهُ لنُخبة جديدة قد تُعيد تشكيل مستقبل أوروبا، كلّها بدت كافية لإبعاده عن قوانين الفكر الفلسفيّ الجاد، إنْ لم يكن عن أبسط مبادئ اللباقة.
إنّ إعادة النّظر في نيتشه بدأت في وقت مبكّر يعود إلى عام 1950 مع صدور الكتاب المؤثّر "نيتشه: فيلسوف، عالم نفسانيّ، عدوّ للمسيح" لفالتر كوفمان، والّذي صوَّره على أنّه إنسانويّ ألمانيّ ضمن تقليد كلّ من غوته وشيلر. تتبّع كوفمان سوء الاستغلال الّذي حصل لنيتشه على يد هتلر ووجد أنّه يرجع إلى تأثير شقيقة نيتشه، إليزابيث، وزوجها بيرنهارد فورستر، اللذين قاما بتنقيح نصوصه بُغية دعم عاطفتهما المعادية للسّاميّة والمؤيّدة للنّازيّة. ورغم أنّ قلّة من النّاس اليوم تقبل تفاصيل تحليل كوفمان، فإنّ عمليّة إعادة تأهيل نيتشه تسير على قدم وساق في الأعوام الأخيرة.
اقرأ أيضاً: قطار الوعي القادم في آخر النفق: النجاة على طريقة ماركس ونيتشه وفرويد
لقد استُعيد نيتشه كعالم أخلاق يدرِّس عقيدة تحرّرية راديكالية، وكمتذوّق للجمال رأى العالم وكأنّه شبيه بقطعة أدبيّة، كـ"صاحب منظور" علّمنا بأنّ كلّ الفلسفة، جوهرياً، هي عبارة عن سيرة ذاتية، ومؤخّراً، كمفكِّك و"منظِّر نقديّ" دفع بنهجه الجينالوجيّ ضدّ جميع الأفكار المتعارف عليها. وبحلول هذا الوقت، يبدو أنّ عقارب السّاعة النّيتشويّة قد لفّت دائرتها كاملة.
نيتشه والنّازية
يستعرض الكِتابان الّلذان يخضعان للمراجعة هنا موجة هذا الافتتان الجديد بنيتشه، بالرّغم من أنّهما لا يشتبكان مباشرة مع الإرث المعقّد لاستقباله. كتاب سو بريدو "أنا ديناميت!"، وكان نيتشه قد استخدم هذه العبارة في وصف نفسه في كتابه "هذا هو الإنسان"، يتتبّع حياة نيتشه منذ ولادته عام 1844 لعائلة بروتستانتية متديّنة وميسورة، وإنجازاته الأكاديمية المبكّرة في جامعة لايبزيغ، وتعيينه في كرسي الفيلولوجيا الكلاسيكية في جامعة بازل في سنّ الرّابعة والعشرين فقط.
الشّخص الّذي يَعِدُ بأنّه "يوماً ما سيرافق اسمي ذكرى شيء مروّع" لا ينبغي أنْ يُفاجأ عندما يظهر شيء مروّع
قد يُغفر للمرء إذا فكّر أنّ حياة نيتشه كانت لتأخذ المسار المملّ للدّراسات العلميّة وما يستتبع ذلك من أوسمة أكاديميّة وغيرها من دلائل الإنجاز؛ أي أنْ تأخذ مساراً شبيهاً بذاك الّذي كان لزميله السّويسري جيكوب بوركهارت. وعوضاً عن ذلك، اتّخذ نيتشه منعطفاً عنيفاً بعيداً عن مهنته التي اختارها بنشر كتابه الأوّل، "مولد التراجيديا"، والذي قام فيه باختراق الفيلولوجيا الأكاديمية باسم القِيَم العليا للحياة والموسيقى. ولم يُغفر له ذلك البتّة. إنّ أفضل أجزاء كتاب بريدو تركّز على افتتان نيتشه بريتشارد فاغنر وكوزيما فون بولو، الابنة غير الشرعيّة لفرانز ليزت، اللذَين قاما بدعوة الباحث الشّاب لأنْ يصبح جزءاً من دائرتهما المقرّبة في فيلتهما على بحيرة لوسيرن، ثمّ قطيعته اللاحقة معهما.
أصبحتْ حياة نيتشه متقلّبة على نحو متزايد بسبب سلسلة أمراض، ليس من الواضح تماماً ما إذا كانت حقيقيّة أو متخيّلة، أبقته بعيداً عن التّدريس. وخلال هذه الفترة من المنفى الاختياريّ كان أنْ كتب كتابيه الأعظمين والأكثر ديمومة، "جينالوجيا الأخلاق" و"هكذا تكلّم زرادشت". أمّا أعوامه الأخيرة فقد قضاها في التّطواف بين كافّة أنحاء إيطاليا وسويسرا قبل انهياره الأخير في تورينو، حيث ألقى بذراعيه حول عنق حصان رآه يتعرّض للضّرب في الشّارع، وما تبع ذلك من إيداعه إحدى المستشفيات للمرّة الأخيرة.
اقرأ أيضاً: أسلي أردوغان: تركيا الآن ألمانيا النازية في الثلاثينيات
تنهي بريدو كتابها مستهجنة إضفاء الطّابع النّازيّ على إرث نيتشه، لكنْ دون أنْ تسأل البتّة عمّا إذا كان نيتشه يتحمّل أيّ مسؤوليّة عن سوء الاستخدام هذا. لماذا كتب بطريقة سمحت بمثل هذا النّوع من سوء الاستخدام؟ يجب على المفكّرين الخطرين توقّع جذب أتباع خطرين. فماذا نتوقّع من فيلسوف يصف نفسه بالدّيناميت؟ لا شكّ أنّ نيتشه كان ليحتقر الدّيماغوغويّين الشّعبويّين من أمثال موسوليني وهتلر، ولكنّ الشّخص الّذي يَعِدُ بأنّه "يوماً ما سيرافق اسمي ذكرى شيء مروّع" لا ينبغي أنْ يُفاجأ عندما يظهر شيء مروّع.
اقرأ أيضاً: هل يقف النازيون الجدد وراء وفاة طفل سوري في ألمانيا؟
وباعتبارها مؤلّفة سِيَر ذاتيّة سابقة لكلّ من إدوارد مونك وأوغست ستريندبرغ، تعرف بريدو طريقها بوضوح إلى عالم الحداثة الأوروبية العُليا. إنّها قوية الطّرح فيما يتعلّق بحياة نيتشه، وإنْ كانت أقلّ قوّة بكثير فيما يخصّ أفكاره. في الواقع، وبصرف النّظر عن أفكار نيتشه، فإنّ حياته ليست ذات أهميّة كبيرة. وهي لا تقوم بالكثير من أجل شرح ما يجعل من نيتشه فيلسوفاً له ديمومة يستمرّ في ممارسة تأثير كبير. كما أنّها لا تحاول أنْ تضع نيتشه في سياق معاصريه ومعجبيه العظماء في أواخر القرن التّاسع عشر من أمثال؛ وليام جيمس وفرويد وغيد وشو، وآخرين كثر.
نيتشه مشّاءً
كتاب جون كاغ، "التّنزّه مع نيتشه"، هو عبارة عن شبه سيرة ذاتية تتعقّب المؤلّف عندما كان في التّاسعة عشرة من عمره، وهو يتنزّه في منطقة سيلس ماريا في جبال الألب السّويسرية، بحثاً عن منزل نيتشه، ثمّ تروي قيامه بالرّحلة نفسها من جديد بعد ثمانية عشر عاماً وهو أستاذ للفلسفة مع زوجته وابنته الرّضيعة. يُقال في كثير من الأحيان إنّه لا يمكنك فهم أيّ شخص إلّا عندما تلبس حذاءه؛ يعتقد كاغ أنّ الحكمة لا تأتي إلّا عند المشي على أثرهم.
إنّ كاغ هو رَاوِيَةٌ مفعم بالحياة يُحضِر حياة نيتشه ويجعلها في تواصل مستمرّ مع حياته هو نفسه
هذا الكتاب ليس دراسة علميّة لنيتشه بقدر ما هو تأمّل في العلاقة بين التّنزّه والفلسفة. بالنّسبة إلى كاغ، فإنّ المشي لا يتعلّق بالوِجهَة وإنّما بالمغامرة نفسها. وقد كان معظم الفلاسفة الكبار، سقراط وأرسطو والرّواقيّون وروسو وكانط وثورو، من المُشاة الّذين تبرعمت أفكارهم فقط أثناء الحركة. يأخذ المؤلّف تحدّي نيتشه بـ"أنْ تصبح من أنت عليه!" كنداءٍ لتطواف عائلته الصّغيرة حول جبال الألب من أجل تحقيق هدفه في اكتشاف الذّات. ولا شكّ أنّ زوجته قد امتلكت صبر قدّيسة.
إنّ كاغ هو رَاوِيَةٌ مفعم بالحياة، يُحضِر حياة نيتشه ويجعلها في تواصل مستمرّ مع حياته هو نفسه. وهنا يكمن كلٌّ من ضعف وقوّة هذا الكتاب. لقد نجح بشكل جيّد في الحفاظ على التّوازن بين حياة نيتشه وفكره، وعقد بضع ارتباطات جيّدة مع إيمرسون وهيس ومان وأدورنو. وإنّني أتخيّله كمعلّم ممتاز. وفي أوقات أخرى، يتّكلّف كثيراً في الأسلوب، فنتعلّم الكثير إلى حدّ ما عن مهارات الأبوّة الخاصّة بالمؤلّف.
اقرأ أيضاً: الرجل الخارق كما رآه نيتشه: عبوة ديناميت ترى في الشر خيراً مبدعاً
وعلى غرار بريدو، ينظر كاغ إلى نيتشه على أنّه وجوديّ غير مُسيّس إلى حدّ كبير، يتحدّى قرّاءه ليصبحوا ما قد يكونوا عليه. ما لا يقوله لنا هو كيف نصبح ما قد نكون عليه. يتمّ تقديم نيتشه كرسول عظيم للرّوح الحرّة، كفردانيّ خَشِن وغير مُذعِن يعيش في عصر لا ذوق له، عصر "الإنسان الأخير". لا يتجاهل كاغ بشكل تامّ الحواف الوعرة لنيتشه، افتتانه بعِلم تحسين النسل، غَزَله لمعاداة السّاميّة، كراهيته للدّيمقراطيّة بكافّة أشكالها، لكنّه يرى أنّها ليست قاتلة لمشروع نيتشه المتمثّل في التّغلّب الفرديّ على الذّات.
نيتشه وأبعاده المتعدّدة
في كتاب جديد ومهمّ بعنوان "عقول خطرة"، يُجادل عالم السّياسة رونالد بينر بأنّ نيتشه أصبح جزءاً من الهواء الثّقافيّ الّذي نتنفّسه. فدعوته المثيرة لاحتضان التّحرّر والحياة بمقتضى أعلى تطلّعاتنا قد ألهمت أجيالاً من الرّوائيّين والكتّاب المسرحيّين والفلاسفة، فضلاً عن عدد لا يُحصى من الطّلاب الجامعيّين. ومع ذلك، تنبّأ نيتشه أيضاً بعالَم من "السّياسة العظيمة" تميّزه حروب وثورات تقاتل من أجل مستقبل الحضارة نفسه.
اقرأ أيضاً: هل صفّت ألمانيا فعلاً حساباتها مع الماضي النازي؟
لقد كان نيتشه بمثابة ماركس اليمين، المحارب الثّقافيّ الأصليّ الّذي اعتقد أنّ المستقبل لهؤلاء الذين يمتلكون الشّجاعة لمواجهة العدميّة الحاليّة والشّجاعة لتشكيلها كما يشكّل صانع الخزف صلصاله. من الممكن النّظر إلى الإنسان الأعلى عند نيتشه كمشّاءٍ وحيد لا يتحمّل مسؤوليّة أيّ شخص سوى نفسه، ولكن بالقدر نفسه؛ كان نيتشه يتخيّل وجود نسخ جديدة من قيصر أو بورجا أو نابليون. وأن نتجاهل هذا البُعد في نيتشه يعني أن نعطيه أقلّ ممّا يستحق.
مراجعة للكتابين التاليين:
(1) سو بريدو: أنا ديناميت، حياة نيتشه (تيم دوغان للكتب، 452 صفحة).
(2) جون كاغ: التنزّه مع نيتشه، في أنْ تصبح ما أنت عليه (فيرار وستراوس وجيرو، 255 صفحة).
المصدر: ستيفين ب. سميث، النيويورك تايمز