يمثّل البعد الديني المذهبي أحد الأدوات الرئيسية في الاستراتيجية الإيرانية، والذي تستخدمه في التمدد وتعظيم نفوذها في المنطقة. ولا يعتبر توظيف إيران للبعد الديني- المذهبي في عقيدتها العسكرية مجرد شعارات فقط، وإنما يتعداه إلى تحركات على الأرض، تستهدف دعم الأقليات الشيعية في الدول العربية.
وإذا ما وجدت طهران الفرصة متاحة لها في أي دولة، فإنّها تحاول إنشاء أحزاب سياسية أو ميليشيات عسكرية، تعمل على تحقيق مصالحها في هذه الدول، سواء في الضغط على حكوماتها كما هو الحال في حالة "حزب الله" اللبناني أو في إفشال أي تحركات سياسية لا تتواءم مع مصالحها مثلما فعلت مع الحوثيين حين قدمت لهم الدعم العسكري حتى احتلال العاصمة صنعاء في سبتمبر 2014.
ويعتقد الباحث فراس إلياس، المختص في الشؤون الشرق أوسطية في مركز أنقرة لدراسة الأزمات والسياسات، أنّ طهران توظف البعد المذهبي في عقيدتها العسكرية، لتجعل من نفسها الدولة القائد للشيعة في دول المنطقة والعالم بأكمله، كما يبدو واضحاً في ضوء التحركات الإيرانية في السنوات القليلة الماضية.
التدخل للدفاع عن الشيعة
ولهذا تبرر طهران في دستورها التدخل للدفاع عن الشيعة في أي مكان، متجاوزة بذلك حدود الدول وسيادتها، ولعل هذا ما يفهم من تصريحات الرئيس حسن روحاني في آذار (مارس) 2016، والتي قال فيها صراحة: إن "إيران سوف تتدخل في أي مكان توجد به مقامات للشيعة، وتتعرض إلى تهديد من قبل الإرهابيين". وتلك هي الذريعة التي تفسر من خلالها إيران تدخلها في العراق ولبنان واليمن وسوريا والبحرين.
ويقول إلياس، في تقرير نشره الموقع الإلكتروني لمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، إنّ العقيدة العسكرية وفق بعض المنظرين الإستراتيجيين هي "منظومة المفاهيم المتبناة رسمياً في دولة ما، والترتيبات المتخذة لمواجهة التهديدات ولضمان الأمن، وكذلك لمنع الحروب والنزاعات المسلحة"، كما أنها "نظام الرؤى المتطورة حول البناء العسكري وتحضير البلاد والقوات المسلحة والفرق الأخرى للدفاع عن الوطن"، وهي أيضاً رؤى حول وسائل تحضير نضال مسلح أو غير مسلح وإدارته دفاعاً عن البلاد، إذاً العقيدة العسكرية في جوهرها هي إعلان حول سياسة الدولة في مجال الدفاع.
لإحداث التوازن مع القوات المسلحة النظامية، أنشأ الخميني منظومة الحرس الثوري الإيراني، لتصبح الأذرع الطويلة لطهران في المنطقة
وبالنسبة لإيران، شكلت الحرب العراقية الإيرانية خلال الأعوام 1980-1988 ركيزة مهمة في العقيدة العسكرية الإيرانية، فهي لازالت تدعم كل تحركات القوات المسلحة الإيرانية، من حيث الدروس المستفادة والنتائج المترتبة، كما استفادت العقيدة العسكرية الإيرانية من الدروس العسكرية التي ترتبت على الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، أو حرب 2006 بين إسرائيل وحزب الله، أو الصراع بين الحركات الفلسطينية وإسرائيل، من أجل دعم عقائدهم وإستراتيجياتهم الخاصة، كما ترتكز العقيدة العسكرية الإيرانية على فرضيات الحرب اللامتماثلة، بما في ذلك توظيف الجغرافيا والعمق الإستراتيجي والرغبة العامة في قبول الخسائر، وترجمتها تحت عنوان "الجهاد المقدس"، وذلك لمواجهة خصوم متفوقين عليها من الناحية التكنولوجيا كالولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل.
العقيدة العسكرية في عهد الشاه
وكانت منظومة العقيدة العسكرية الإيرانية في عهد الشاه محمد رضا بهلوي غربية التسلح والتفكير، كما يذكر إلياس، فقد كانت أغلب الصفقات العسكرية تتم مع الولايات المتحدة الأمريكية ودول غربية أخرى، فضلاً عن إرسال معظم الضباط الإيرانيين لبعثات عسكرية إلى الدول نفسها، ومع قيام الثورة الإيرانية عام 1979 أعدمت السلطات الثورية الإيرانية عدداً كبيراً من الضباط والقيادات العسكرية الإيرانية المواليين للشاه، إلى جانب فرار عدد آخر منهم وتحديداً سلاح البحرية، وقد انعكس ذلك على فقدان القوات المسلحة الإيرانية للخبرات التدريبية القادرة على تطبيق العقيدة القتالية المناسبة في ميدان القتال.
ولإحداث التوازن مع القوات المسلحة النظامية، أنشأ الخميني منظومة الحرس الثوري الإيراني، ذات المهمات القتالية الداخلية في بادئ الأمر، لتصبح الأذرع الطويلة لإيران في المنطقة، ولتتحول العقيدة العسكرية الإيرانية، فيما بعد الثورة، إلى عقيدة متشبعة بالحماسة الثورية، ذات المبادئ "الإسلامية" والأيديولوجية الشيعية، التي تتيح لها طلب ما تشاء من المتطوعين في صفوف القوات الإيرانية تحت مسمى "الجهاد المقدس".
قائد فيلق القدس قاسم سليماني: بات قادة الثورة مشهورين؛ من البحرين إلى سورية واليمن وحتى شمال أفريقيا
وتكفي الإشارة إلى أن الدستور الإيراني وعند حديثه عن بناء وتجهيز القوات المسلحة الإيرانية، جعل من الإيمان والعقيدة المذهبية قاعدة رئيسية لهذا البناء، وهكذا صار بناء الجيش والحرس الثوري الإيراني على هذا الأساس؛ إذ لا تلتزم هذه القوات بمسؤولية حماية وحراسة الحدود فحسب، بل تحمل أيضاً "أعباء رسالتها الإلهية"، وهي الجهاد في سبيل الله، والجهاد من أجل بسط حاكمية القانون الإلهي، وأيديولوجية ولاية الفقيه، وفي هذا الصدد، أشار الخميني في بيان صادر في 30 يوليو 1988:
"سـنعمل بكـل وجودنـا علـى الحد مـن ظاهرة الإتاوة وحصـانة المسؤولين الأمـريكیین، وإن تطلّـب ذلـك نضـالاً مستمیتاً، ولا نسمح بترديد معزوفة الاستسلام والمساومة لأمريكا وروسيا والكفـر والشـرك في الكعبة والحج، هذا المنبر العظيم الـذي ينبغـي لـه أن يوصـل نـداء المظلومين للعـالم أجمـع، وأن يصـدح بنـداء التوحيد، نسـأل الله أن يمـنّ علینـا بمثـل هذه القـدرة، لنـدق نـاقوس مـوت أمريكا وروسيا، لـیس مـن كعبـة المسلمين فحسب؛ بل من كنائس العالم".
وفي السياق نفسه، أشار قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني في تصريحات له العام 2016، أثناء الاحتفال بذكرى الثورة الإيرانية: "بات قادة الثورة مشهورين في كل المنطقة؛ من البحرين إلى سورية واليمن وحتى شمال أفريقيا".
تحديات تواجه العقيدة العسكرية الإيرانية
يذكر التقرير بعض التحديات التي تواجه العقيدة العسكرية الإيرانية، والتي نتجت عن التقارب السياسي والعسكري بين القادة الإيرانيين، والذي انعكس فيما بعد على حالة الصراع السياسي داخل المؤسسة العسكرية الإيرانية، وهو ما أثر سلباً على العقيدة العسكرية الإيرانية، من خلال تحدي المفاهيم الثورية، والإخلال بمفهوم تصدير الثورة والدعوة إلى الانكفاء داخل حدود الدولة الإيرانية، وأدى إلى انتقال الصراع السياسي بين التيارين المحافظ والإصلاحي إلى داخل المؤسسة العسكرية.
كما يلفت إلى حالة الصراع والصدام التي استمرت داخل المؤسسة العسكرية الإيرانية، وأخذت تتصاعد منذ العام 2015، وتحديداً بين الجيش والحرس الثوري الإيراني، وأخذت بوادر هذا الخلاف تتضح مع التصريحات التي أطلقها القيادي في الحرس الثوري الإيراني حسن عباسي منتقداً الجيش الإيراني بشدة، ومؤكداً أنّ الجيش الإيراني ضعيف، وهو ما أثار حفيظة قادة الجيش، وسرعان ما هب قادة النظام وعلى رأسهم المرشد الإيراني علي خامنئي إلى إحتواء هذه الأزمة، ولكن تصريحات حسن عباسي كشفت، من جهة أخرى، عن مدى الضعف الذي أعترى العقيدة العسكرية الإيرانية، المتمثلة في ضعف الالتزام والانضباط العسكري داخل المنظومة الأمنية الإيرانية.
بعد أن كان العراق عدواً، أصبح حليفاً، وكذلك بالنسبة للدول والجماعات المسلحة في الشرق الأوسط، وإقليم كردستان العراق
ويتوقع التقرير، في ضوء الصراعات السياسية التي بدأت تفرض نفسها على المؤسسة العسكرية الإيرانية، أن تواجه العقيدة العسكرية الإيرانية في المستقبل عدة خيارات منها التحوّل إلى النمط الدفاعي، وذلك بفعل المتغيرات الداخلية والتحديات الخارجية المتمثلة في الضغوط المتصاعدة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها، كما قد يكون لضعف التنسيق بين الحرس الثوري الإيراني والجيش الإيراني تداعيات خطيرة على عملية التخطيط الاستراتيجي، خصوصاً تلك المتعلقة بالقضايا الرئيسية التي تخص إيران والمنطقة، كما يمكن القول إن المحاولات الجديدة التي شرعت بها حكومة الرئيس روحاني، والتي تستهدف تغيير المناهج الدراسية في المدارس والجامعات الإيرانية، لكي تتواءم مع متطلبات منظمة اليونيسكو، قوبلت بالرفض الكبير من قبل التيار المحافظ في إيران، معللين ذلك بأنّ تغيير هذه المناهج سوف يلغي الكثير من المفاهيم الثورية التي وضعها الخميني، وبالتالي سيكون لها انعكاسات خطيرة على العقيدة العسكرية الإيرانية.
هناك، كما يؤكد الباحث إلياس، أيضاً تطورات إقليمية متجددة انعكست بصورة مباشرة على العقيدة العسكرية الإيرانية من حيث ترتيب الأولويات، فترتيب الأعداء في العقيدة الإيرانية خاضع للتغيير المستمر، فبعد أن كان العراق عدواً، أصبح اليوم حليفاً، وكذلك الحال بالنسبة للدول والجماعات المسلحة في الشرق الأوسط، أو حتى التطورات المتعلقة بإقليم كردستان العراق، وبالتالي فإنّ حالة عدم الإستقرار في ترتيب الأعداء والأولويات الإستراتيجية، سينعكس بصورة مباشرة على ثبات هذه العقيدة وفعاليتها، وعلى الاستقرار السياسي والأمني في المنطقة.