
هاني نسيرة
أحسم ابتداءً أن لفظة الحاكمية لم تظهر في التاريخ والتراث الإٍسلامي إلا عقب القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي، مشيرة لأتباع الخليفة الفاطمي السادس والإمام الإسماعيلي العاشر الحاكم بأمر الله، الذي عاش خمسة وثلاثين عاما بين عامي ( 375-409 هجرية)، فأتباعه هم الحاكمية، الاسم الأول لطائفة الموحدين الدروز، بني معروف.
ولا شك عندي أنه لو انتبه الأستاذ مسعود الندوي (توفي سنة 1954)، وهو مترجم وعراب المودودية وحاملها للعالم العربي، أو الأستاذ سيد قطب لتلك التسمية التاريخي، ما استخدما هذا اللفظ، وما حملاه حمولة هذا المفهوم الشغال الخطير، ولم يرد في نص من قرآن ولا سنة ولا فقه ولا فكر في تراثنا قبل هذا التاريخ.
ربما لهذا السبب، ولحداثة هذه اللفظة، حاول البعض من الإسلاميين تأصيل هذا المفهوم، بردِّه لقضية التحكيم عند الخوارج، التي وقعت أثناء معركة صفين سنة 37 هجرية، رغم المفارقة والمغالطة اللغوية، فالحاكمية من الحاكم والمسيطر، المعبود الأعلى عند أهلها، والتحكيم من الاحتكام لمشترك معياري ومقدس، وهو في حالتنا كان القرآن الذي رفع على أسنة المصاحف، وكان أن تكلم في النهاية بالقرآن الرجال، كما حذر الإمام على رضى الله عنه، لتتفجر براكين الفتنة والإمامة وسلاسل الدم التي لم تنته حتى الآن، ولهذه الخلفية كان هذا التأصيل نادرا ولكنه موجود حتى عند أسماء كبيرة كالراحل القرضاوي مبررا لهذا المفهوم.
وكما كان ظهور اللفظ بحمولته الفرقية والعقدية الإمامية متأخرا في التاريخ، كان ظهوره بمفهومه الراهن متأخرا في العصر الحديث، مع ترجمات كتابات أبي الأعلى المودودي عقب عام 1949، والأعوام الأولى من خمسينيات، حين بدأ ذكره في العراق مع تلامذة تقي الدين الهلالي وتحديدا مسعود الندوي المتوفى سنة 1954، ثم عرض الدمشقي محمد بهجة البيطار ومحمد كامل الخطيب لها في دمشق، ثم حمله عبدالله العقيل لمصر، وبشر به أبوالحسن الندوي سيد قطب في زيارته الأولى لمصر سنة 1950، وهنا أحيل على المقالات الماتعة والمميزة للعزيز المتألق الأستاذ على العميم في الشرق الأوسط في شهري إبريل ومايو هذا العام، عن تسلل المودودية للعالم العربي.
وأضيف، أنني ذات يوم، تشجعت وهاتفت الشيخ فضل عبدالقادر بن عبدالعزيز، أبرز وأهم منظري الجهادية المعاصرة، وكان ذلك قبل مراجعاته، أثناء بحثي للدكتوراه، وكان سؤالي محددا له، وهو عن عدم استخدامه للحاكمية في الثمانية مجلدات التي يضمها كتابه «الجامع» على عكس المقدسي وأبي قتادة وغيرهما، وهو الأرسخ وكتابه المذكور يوصف بأنه دستور جماعات الجهاد، فأجابني بوضوح، لم أستغربه منه، لأن لفظ الحاكمية محدث وبدعة، واستبدله بتعبيرات أخرى أكثر شرعية، ولكن غيره من منظري الجهادية والقطبية ظل يستخدم هذا اللفظ المحدث.
لقد دفعني لهذا المقال في تاريخ الحاكمية وظهورها المتأخر قديما وحديثا، وخارجيتها التي لم يسبق إليها المودودي تحديدا، ما تابعته من حملة موتورة وعنيفة شنها بعض الموتورين على السوشيال ميديا عقب ندوة أقامتها جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية حول «تنظيم الإخوان وتفكيك تطرفه» شارك فيها عدد من المفكرين والأكاديميين المرموقين، ركزت على تفكيك هذه الجماعة الفكري وأزماتها التأصيلية، شارك فيها د. رضوان السيد ود. خليفة الظاهري ود. يوسف حميتو ود. خالد ميار، وأدارها باقتدار الدكتور محمد العزيزي من الهيئة الأكاديمية للجامعة.
وقد صادفني، مما صادفني من هجمات الحملة الموتورة على هذه الندوة، هجوم عنيف وشخصي على الأكاديمي المغربي وأستاذ أصول الفقه الدكتور يوسف حميتو، جاء في مقال بعنوان «الحاكمية ويوسف حميتو»، يصف ويتهم الأكاديمي المتخصص في الفقه وأصوله، بأبشع الأوصاف والتهم، دفاعا عن الحاكمية، كما وضعها المودودي وقطب ومن تبع طريقهما، نافيًا حداثة هذا المفهوم وغيابه عن كتب التراث السياسي الإسلامي.. ولو أنصف متهمه لشكره، وشكر سائر المشاركين في الندوة المشار إليها، فهي تحرير للإٍسلام من توظيفه سياسيًا وتحريره لفهمه من تراث الفتن وتجنبا لها.
وهنا أسال هذا المتطرف الموتور المهاجم لـ حميتو، ولرافضي توظيف الدين وأيقنة الحاكمية وادعاء أصالتها؟ هل يمكنه أن يذكر اسم كتاب واحد يحمل لفظ أو تعبير الحاكمية بالعربية قبل خمسينيات القرن الماضي؟ تاريخ عبور المودودية للغة العربية، أو في تاريخ اللغتين الأردية والفارسية قبل العام 1928 تاريخ تأليف المودودي كتبه «الجهاد في الإسلام» ثم «الانقلاب الإسلامي العالمي» وكتاب «المصطلحات الأربعة» التي أسس فيها للمفهوم، وانتقده عليه فيما بعد بالخصوص كل من تلميذه ورفيقه السابق المرحوم وحيد الدين خان ثم أبو الحسن الندوي الذي لجأ إليه الأول.
لعل المتلببين المؤمنين بـ هالة «الحاكمية» لا يعلمون أنه من بين نيف وثلاثمائة كتاب، في التراث والأدب السياسي الإسلامي، السني والشيعي على السواء لن يجدوا كتابا يحمل مفهوم أو لفظ الحاكمية، أو استخدام التعبير في غير ما وضع له في بعض كتب الكلام والتاريخ، إشارة لـ بني معروف، في مخطوط واحد لم ينشر، مجهول المؤلف، فقد قطعوا مع التاريخ بتجاهل دروسه وعبره وفتنه كما قطعوا مع الأدب والتراث السياسي المختص بفنهم بالخصوص!!
تدفعني أيضا لهذا التوضيح والتصحيح، قناعتي أن مسألة الحاكمية وتأثيرها المستمر أخطر من مسألة الخلافة لأنها تجعل مسألة الحكم والحاكم توحيدا ودينا وعقيدة!!! وليست فقط تاريخا كما كانت الخلافة، أو إمامة افترقت عليه الأمة بعد وفاة النبي الكريم (ص)!! ويلوون عنق النص القرآني بتأويلاتها اللغوية القصدية لها!! وأنها من أسباب نهضتنا المعاقة، في قيودها وحبائسها، كما رصدت في كتابي «الإسلام المتخيل والنهضة المعاقة» المنشور عام 2020، حين صارت نهضتنا مشروطة بحكم لاهوتي يعادي الوطن والدولة الوطنية، ولا يعتبر بتاريخنا ولا بتاريخ غيرنا!! وينحبس في قناعاته كما ينحبس الكاهن في معبده يلعن العالم ولا يشارك فيه!
ختامًا، أرى أن الحاكمية وغيرها مهم طرحها ودرسها في إطار علم تاريخ الأفكار والمفاهيم، والبحث في حفرياتها، وهو الأمر الذي يحتاج الكثير من الجهد في مؤسساتنا البحثية والأكاديمية وخطابنا العربي الراهن.. وللحديث بقية.
المصري اليوم