الصناعات العسكرية في تركيا... ما أسباب التوجه المتزايد نحوها؟ وما أهم المعوقات أمامها؟

الصناعات العسكرية في تركيا... ما أسباب التوجه المتزايد نحوها؟ وما أهم المعوقات أمامها؟


23/08/2020

بالترافق مع المشاريع التركية الطامحة للتوسّع ومدّ الهيمنة والنفوذ في الخارج، تتزايد الحاجة التركية لتأمين احتياجاتها من السلاح والعتاد، لما تتطلبه هذه المشاريع من خوض مواجهات عديدة محتملة، وهنا ترسّخت القناعة التركية بضرورة تأمين احتياجاتها من السلاح والذخيرة والعتاد العسكري بشكل دائم، وأنّ هذا لا يمكن أنّ يكون إلّا بالاعتماد على التصنيع العسكري المحلي.

مؤشرات متزايدة

تتزايد الأرقام والمؤشرات التي تؤشر وتدلّ على التوجّه والتخطيط التركي نحو تطوير الصناعات الدفاعية العسكرية. وتقدّر قيمة ميزانية الإنفاق الحكومي التركي على البحث والتطوير العسكري اليوم بنحو (1.5) مليار دولار، لتكون بذلك واحدة من بين الدول الخمس عشرة الأكثر إنفاقاً على التكنولوجيا العسكرية في العالم. ووفق إحصاءات معهد ستوكهولم للسلام، فإنّ إجمالي ميزانية المبالغ المستثمرة في الصناعات الدفاعية المحلية في تركيا ارتفعت من (5.5) مليار دولار عام 2002م، لتصل إلى (60) ملياراً في العام الماضي 2019م. وبحسب ما تعلن وزارة الدفاع الوطني التركية، فإنّ تركيا بحلول العام 2018م باتت تصنّع نحو (70%) من احتياجاتها العسكرية، بعد أن كانت النسبة لا تتجاوز الـ (20%) في عام 2003م. ويكرّر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في محافل عديدة خلال السنوات الأخيرة، أنّ بلاده ستصل إلى الاكتفاء العسكري الكامل بنسبة (100%) بحلول عام 2023م، ضمن ما يُطلق عليه "رؤية تركيا الجديدة".

أردوغان خلال إلقائه كلمة بمناسبة تصنيع سفينة حربية تركية... في أيلول 2019

كيف كانت البداية؟

بعد الغزو التركي لجزيرة قبرص عام 1974م واحتلال الجزء الشمالي منها، وُوجهت الخطوة بإدانة دولية  واسعة، وبادرت دول عديدة لفرض عقوبات على تركيا لإجبارها على التراجع، ومن بين ذلك كان فرض حظر تصدير السلاح إليها، وفي مقدّمة الدول كانت الولايات المتحدة الأمريكية التي فرضت عليها حظراً لتصدير السلاح استمرّ حتى تمّ رفعه في العام 1978م. بسبب ذلك كانت النتيجة هي اتجاه الأتراك نحو البدء بتطوير الصناعات العسكرية المحلية، فبادروا إلى تأسيس مجموعة من الشركات المختصّة في تصنيع السلاح، مثل "أسيلسان"، و"هافيلسان". وبالتالي كان فرض العقوبات في حينها نقطة تحوّل دفعت تركيا نحو تطوير الصناعات العسكرية المحلية.

التخلص من التهديدات

تعزّزت القناعة لدى الأتراك بضرورة تفادي خطر تكرار فرض العقوبات والتهديد المستمر بفرضها من قبل الدول المورّدة للسلاح، وما يقترن بذلك من فرض للقيود على السياسة التركية، الخارجية والداخلية، ومن تهديدات للأمن القومي لتركيا، خصوصاً في ظلّ تصاعد الصراع المسلّح داخل البلاد، مع اشتداد المواجهات منذ الثمانينات مع حزب العمال الكردستاني، وكذلك زيادة توتر العلاقات مع كلٍّ من قبرص واليونان منذ وقوع الأزمة القبرصية عام 1974م. كلّ ذلك دفع باتجاه المواصلة في تطوير الصناعات العسكرية المحلية.

باتت تركيا اليوم واحدة من بين الدول الخمس عشرة الأكثر إنفاقاً على التكنولوجيا العسكرية

وتعزّز هذا التوجه بفعل استمرار التوترات مع الدول المورّدة للسلاح، وفي مقدّمتها دول الاتحاد الأوروبي ودول حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ومن ذلك كان مؤخراً التهديدات الأمريكية بفرض عقوبات على تركيا في حال مضيّها في صفقة شراء صواريخ (S-400) الدفاعية من روسيا، وقد تمّ فرض عقوبات بالفعل، تمثّلت في إخراجها من برنامج التدريب على طائرات الـ (F-35) وتعليق تسليمها الطائرات، مع تهديدات مستمرة من قبل الكونغرس الأمريكي بفرض المزيد.

مقرّ شركة "أسيلسان" للصناعات الدفاعية التركية في أنقرة

وبعد التوغّل العسكري التركي في شمال سوريا في تشرين الأول (أكتوبر) 2019م، قرّر عدد كبير من دول الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو تعليق مبيعات السلاح إلى تركيا بسبب الهجوم، ومنهم مصدّرون رئيسيّون لها مثل: فرنسا، وكندا، والسويد، والتشيك، وألمانيا.

أعلن الرئيس التركي أردوغان أنّ بلاده ستصل إلى الاكتفاء العسكري الكامل بحلول عام 2023

وهو ما يمثّل تهديداً مباشراً للأمن القومي التركي؛ إذ إنه لا يعني فقط الحرمان من المعدّات الجديدة، وإنما نفاد ما لدى تركيا من ذخيرة وسلاح في حال استمرار الحظر لفترات تَطُول ولا تتناسب مع معدّل الاستهلاك من قبلها، إضافة إلى الصعوبات على مستوى الصيانة والتحديث وعدم امتلاك القطع اللازمة لذلك. وبالتالي تعزّزت القناعة لدى الساسة والمخططين الأتراك بضرورة التخلُّص من الشروط والضغوط التي قد تفرضها الدول المورّدة لها، وهو ما يكون سبيله الأوّل عبر التوجّه للتصنيع العسكري المحلي.

التخلص من القيود

إضافة إلى خطر العقوبات، كان لدى الأتراك دافع وهاجس آخر، يتمثل في سلوك الدول المورّدة وحرصها الدائم على عدم تصدير أحدث التقنيات وأكثر الأسلحة تفوقاً إلى تركيا، والدول المستوردة عموماً؛ وذلك لحسابات تتعلق بالتوازن العسكري وعدم منح تركيا أو غيرها من الدول المستوردة التفوّق العسكري وأسرار كامل التقنيات العسكرية. ومن ذلك كان الرفض الأمريكي خلال السنوات الأخيرة لتصدير النسخ كاملة التقنية من طائرات الـ (F-35) لتركيا، وكذلك عدم تصدير كامل تقنيات منظومات صواريخ "باتريوت" الدفاعية"، وهو ما دفع تركيا للتوجه نحو شراء أسلحة بديلة مناظرة لها، كطائرات "السوخوي" وصورايخ الـ (S-400) الروسية. إلّا أنّ البحث عن بديل مناظر لا يجدي دائماً، وتبقى الخطوة الآمنة بهذا الخصوص هي في التوجّه نحو تطوير التقنيات المحلية والاستغناء عن الاستيراد من الخارج.

أهمّ المعوّقات

إلّا أنّ توافر الإرادة والتخطيط غير كافٍ وحده لتحقيق مثل هذا التحوّل نحو الاعتماد على الصناعات العسكرية المحلية بالكامل؛ إذ إنّ المعدّات العسكرية التركية المصنعّة محلياً تعتمد على المحرّكات والمكوّنات الدقيقة المستوردة من الخارج، وتطوير مثل هذه المكوّنات محلياً بالمستوى التقني المطلوب لن يكون تحدياً سهلاً، وسوف يحتاج مبالغ طائلة، وقد يستغرق فترات زمنية طويلة للوصول إلى المستويات المطلوبة.

بعد التوغّل التركي الأخير في شمال سوريا قامت دول عديدة بتعليق صادرات السلاح إلى تركيا

أمّا المعدّات التركية المصنعة بالكامل محليّاً، فهي تعتمد على أنظمة بسيطة وغير مُكلفة نسبياً، ما يجعلها   غير قادرة على المنافسة على مستوى واسع في الأسواق الخارجية؛ إذ إنها تبقى بمستوى مماثل للمعدّات التي تنتجها العديد من البلدان حول العالم. وهنا يبرز تحدٍّ أمام تطوير الصناعات العسكرية التركية، وهو عدم استطاعتها منافسة الدول الكبرى المصنعّة والمصدّرة للسلاح، مثل الولايات المتحدة الأمريكية، وروسيا، وفرنسا، والصين، وبريطانيا، لذلك فإنها تكون مضطرة للانتقال والمنافسة مع الدول ضمن المستوى الأدنى في هذا المجال. وبالنظر إلى أهمّ تعاقدات تصدير السلاح التركي الحالية، نجدها مع دول حليفة مثل: باكستان، وقطر، في حين لم تتمكّن من الوصول إلى أسواق أخرى حول العالم، وينعكس ذلك على إجمالي الصناعة وفرص تطوّرها؛ إذ يقلل من جدواها وإمكانات ضخّ المزيد من الأموال فيها.

اتجه الأتراك نحو تطوير الصناعات العسكرية في أعقاب الحظر الذي فرض عليهم إثر غزوهم قبرص

وبسبب وجود مثل هذه المعوّقات، ومع بقاء أقل من 3 أعوام على حلول العام الموعود، 2023م، للوصول إلى الاكتفاء الذاتي في مجال التصنيع العسكري، يبدو أنّ تحقيق مثل هذه الغاية ما زال بعيداً عن المتناول، وستظلّ تركيا بحاجة لاستيراد السلاح من الخارج، خاصّة الأسلحة النوعية التي تلزمها في المرحلة الراهنة، وهو ما ظهر مؤخراً في صفقة شراء الصواريخ الروسية.

في عام 2018 أتمّت تركيا وباكستان صفقة شراء (30) مروحيّة من مروحيات "أتاك" الهجومية التركية

الصفحة الرئيسية