في يناير من العام 2013، أعلنت مجموعة من طلاب جامعة الخرطوم - في مهرجان خطابي– مشهود، انتماءها إلى تنظيم "داعش" تحت مسمّى (السلف الجهادي في بلاد النيلين). لاحقاً هاجمت ثُلّة من أعضاء هذا التنظيم سفارتي ألمانيا والولايات المتحدة مستغلة التظاهرات المُنددة بالإساءة للرسول، وكان أعضاؤها متشحين برايات سوداء مكتوب عليها عبارة (لا إله إلا الله). لم تكن مثل تلك التنظيمات لتمارس عنفها وجبروتها وتعلن عن نفسها بوضوح في المجتمع السوداني المتسامح، لولا أنّ البلاد كانت، وما تزال، تحت قبضة تنظيم الإخوان المسلمين.
إسقاط مفهوم الجهاد على كل فعل دموي عنيف عبر تفسيراتٍ عدوانية للإسلام لتبرير استخدام القوة تجدها جليّة بكتاب الإخوان المُقدّس "معالم في الطريق"
لاشك أنّ كافة التخريجات المُسمّاة (فتاوى) والتي تُروج للإسلام الراديكالي العنيف (طُبِخت) على (نار) حركة الإخوان المسلمين، فتكفير المجتمعات والشعوب والحكومات باعتبارها (جاهليات)، والعداء والرفض لكل ما هو غربي ومن ثم مواجهته بقوة وعنف وإسقاط مفهوم الجهاد على كل فعل دموي عنيف عبر تفسيراتٍ عدوانية للشريعة والإسلام لتبرير استخدام القوة تجدها جليّة في كتاب الإخوان (المُقدس) "معالم في الطريق" لسيد قطب.
كما هو معروف لم يشهد السودان عُنفاً دينياً إلاّ بعد استيلاء تنظيم الإخوان على السلطة، منتصف 1989م، قبلها كان السودانيون يعيشون بسلام؛ المسلم والمسيحي والإحيائي، الكلّ متسمك بدينه وفخور به دون إيذاء الآخرين المُختلفين عنه أو نفيهم. لكن لسوء حظهم جميعاً أنّهم أصبحوا تحت هيمنة الإخوان حقلاً لتجارب مريرة، انتهت إلى الأوضاع الرثة والهشة الماثلة الآن.
انتبه الروائي السوداني الراحل الطيب صالح مُبكراً ومنذ السنوات الأولى لحكم الإخوان، فكتب مقالته الشهيرة تحت عنوان "من أين أتى هؤلاء الناس"؟
ما من سودانيين اثنين يتجادلان الآن، حول سوء وفشل تجربة حكم الإخوان المسلمين للبلاد. فحقبتهم اتسمت بالفساد العميم وإراقة الدماء والانفصال عن الواقع وتقسيم البلاد وقهر العباد وتشريدهم عن وظائفهم وتدمير البنيات الأساسية للاقتصاد والخدمة المدنية والتعليم العام والعالي والثقافة والترويج للعصبية القبلية والطائفية وافقار البلاد ونهب ثرواتها. كل ذلك وأكثر –لا نطلقه جزافاً أو اعتباطاً– بل هوموثق ومعروف، وباعتراف الهيئات والمؤسسات الرسميِّة الحالية للدولة.
لم يشهد السودان عُنفاً دينياً إلاّ بعد استيلاء تنظيم الإخوان على السلطة، قبلها كان السودانيون يعيشون بسلام؛ المسلم والمسيحي والإحيائي، الكلّ متسمك بدينه وفخور به
بطبيعة الحال، لم يحكم الإخوان السودان وحدهم، فهم مرتبطون بالتنظيم العالمي للجماعة ويتلقون أوامرهم منه، ولأنهم لا يؤمنون بالمفهوم الحديث للدولة بوصفها: "مجموعة من الأفراد يمارسون نشاطهم على إقليم جغرافي محدد ويخضعون لنظام سياسي متفق عليه فيما بينهم، يديرون وفقاً له كافة الأنشطة السياسية والاقتصادية والاجتماعية"، سعوا بكل ما أوتوا من قوة إلى أسلمة جنوب السودان وأعلنوا عليه الجهاد من خارج المؤسسة العسكرية؛ إذ سلحوا القبائل ووزعوا السلاح يمنةً ويسرةً وسخّروا الإعلام ؛الصحف، والإذاعة والتلفزيون، بعد أن منعوا عن الأخيرين بث الغناء عدا أغاني الحرب (الحماس)، سخّروا تلك الوسائل لخدمة الحرب الضروس التي انتهت بانفصال الجنوب كما هو ماثل، وها هي دارفور ومناطق أخرى تسير على ذات الدرب.
حقبة الإخوان في السودان اتّسمت بالفساد وإراقة الدماء وقهر العباد وتدمير البنيات الأساسية للاقتصاد والخدمة المدنية والتعليم العام والترويج للعصبية القبلية والطائفية
لم يكتف الإخوان بذلك؛ بل استدعوا المتطرفين والإرهابيين إلى البلاد، من كارلوس إلى أسامة بن لادن، باعوا الأول للفرنسيين وخططوا لبيع الثاني لولا اكتشافه خطتهم وهروبه، فصادروا أمواله واقتسموها بينهم، فهؤلاء لا يرعون ذمة ولا يوفون بعهد أو ميثاق.
التجربة الإخوانية الفاشلة في السودان تصلح مثالاً يحتذى لمصير الشعوب والدول التي تقع فريسة لهذه الجماعة التي تتسم بعقل دائري منغلق ووثوقي لا يؤمن بالأوطان؛ لأن الوطن عندها "يمتد بامتداد العقيدة" كما هو معروف في أدبيات ومقولات ابن تيمية والمودودي وحسن البنا وسيد قطب وحسن الترابي، ولذلك فهم يؤمنون بتصدير الثورة وهنا يلتقون مع المفاهيم الشيعية (الخمينية) على وجه التحديد. لذلك تجدهم يتدخلون في شؤون الدول الأخرى ويستجلبون الإرهابيين من كل فج عميق ويهيئون لهم منابر إعلامية يروجون خلالها لأفكارهم المتشددة والمتشنجة ويدعمونهم بالمال والسلاح والتخطيط.
للأسف، هذا ما حدث في السودان خلال ما يقترب من ثلاثة عقود. تلك التجربة المريرة، يحتاج السودانيون إلى عقود طويلة (مضاعفة) للخروج منها ومحو آثارها الرهيبة على حياتهم واقتصادهم وصورتهم في الخارج، وهذا ما انتبه له الروائي الراحل الطيب صالح مُبكراً ومنذ السنوات الأولى لحكم الإخوان، فكتب مقالته الشهيرة بأخيرة مجلة "المجلة" تحت عنوان "من أين أتى هؤلاء الناس"؟