الدور الروسي المرتقب في فض الخلاف الإيراني - الأميركي

الدور الروسي المرتقب في فض الخلاف الإيراني - الأميركي

الدور الروسي المرتقب في فض الخلاف الإيراني - الأميركي


15/03/2025

د. محمد الزغول

تقدمت روسيا خلال الأسابيع الأخيرة بمقترح وساطة لتحريك المياه الراكدة بين إيران والولايات المتحدة. وعرضت موسكو تصورها الأولي لكيفية فض الخلاف بشأن الملف النووي الإيراني الذي بات يشكل بؤرة قلق ساخنة؛ إذ يمر الملف بمنعطف صعب خلال الأشهر القليلة المتبقية من عمر الاتفاق النووي لعام 2015، والذي تنتهي صلاحيته في 18 أكتوبر القادم.

وفي خضم العديد من الوساطات التي يشهدها الملف النووي الإيراني هذه الأيام فإن وساطة روسية بين طهران وواشنطن، ستكون بلا شك موضع اهتمام مختلف الأطراف. ليس فقط لأن روسيا قوة عالمية كبرى، وإنما كونها أيضا، أحد أطراف الاتفاق النووي، والقوة التي تحظى بنفوذ كبير في مطبخ القرار السياسي الإيراني، وفي أوساط الدولة العميقة في طهران.

مبادرة من طرف واحد

تعمل مختلف الأسباب الموضوعية لصالح مبادرة الوساطة الروسية، وتمنحها مكانة مركزية بين مجموعة مبادرات الوساطة المطروحة؛ إذ وقّعت روسيا مؤخرا اتفاقية شراكة إستراتيجية مع طهران، كما أن عودة الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض فتحت ممرا دبلوماسيا عريضا بين موسكو وواشنطن بعد أن ظل طريق الدبلوماسية موصدا بينهما، طيلة ولاية الرئيس جو بايدن.

ومع ذلك، فإن الواقع يشير إلى أن المبادرة الروسية لا تزال أشبه بالتغريد من جانب واحد. ويبدو الجانب الروسي هو الجانب الوحيد الذي يروّج لها. وفي سياق هذا الترويج، يأتي تأكيد المصادر الدبلوماسية الإيرانية على أن موسكو أوفدت وزير خارجيتها المخضرم سيرغي لافروف إلى إيران، ليعلن من عاصمتها طهران، أن بلاده مستعدة للعب دور فعال في تحريك عجلة المفاوضات النووية بين إيران والولايات المتحدة، من خلال القنوات الدبلوماسية النشطة هذه الأيام بين روسيا والإدارة الأميركية.

الاستثمارات الغربية، تنظر اليوم إلى المحاولات الأميركية لإحياء الاتفاق النووي، بوصفها خطوات لإغلاق المجال الإيراني أمام الصين، سواء على صعيد وقف تدفق النفط الإيراني الرخيص إلى المصافي الصينية، أو على صعيد إنهاء الهيمنة الصينية على الأسواق الإيرانية.

وفي سياق هذا الترويج ذاته، جاء تأكيد المفوض الروسي لدى المنظمات الدولية ميخائيل أوليانوف أن روسيا تعتبر الخيار الأنسب لتقديم العون من أجل التوصل إلى حل بين طهران وواشنطن بشأن خلافهما على الملف النووي.

ولم يقتصر الترويج الروسي للوساطة على هذه المواقف، وإنما تجاوزه إلى التلويح بأن موسكو تمتلك ملامح مبادرة مدروسة، وعملية، لفض تلك الخلافات؛ إذ أكدت موسكو ابتداء، أن ما ينبغي وضعه على الطاولة للتفاوض، هو “الاتفاق النووي” فقط، وأن المفاوضات ينبغي أن تقتصر على هذا الملف، ولا تتجاوزه إلى ملفات خلافية أخرى، من شأنها عرقلة المفاوضات، أو إجهاضها كالبرنامج الصاروخي، أو المشروع الإقليمي.

وتبدو هذه الانطلاقة أشبه برسالة طمأنة أو محاولة لكسب رضا الجانب الإيراني. كما أكدت موسكو من جهة أخرى، أن الجانب الإيراني يمكن أن يقبل بوضع حدود على برنامجه النووي، والعدول عن الخطوات التصعيدية، والخضوع للمزيد من القيود، وآليات الشفافية، إذا ما قررت الولايات المتحدة، وشركاؤها، خفض العقوبات الغليظة المفروضة على الاقتصاد الإيراني. وكأن موسكو تريد أن توحي للأطراف الدولية الأخرى بأنها مخولة بالإفصاح عن الرؤية الإيرانية للمفاوضات، أو التعبير عمّا ترفضه إيران، أو تقبله.

وعلى الرغم من الجهود المستمرة إلى الآن، لم تلق المبادرة الروسية ترحيبا إيرانيا على كل المستويات؛ فعلى صعيد مؤسسات الدولة العميقة التي يفترض أنها تربطها علاقات قوية بروسيا ترتقي من وجهة نظر بعض المراقبين إلى مستوى التبعية، تظهر الإشارات القادمة من طهران حتى الآن، رفضا تاما للانخراط في أيّ مفاوضات مع الولايات المتحدة.

وتوج المرشد الأعلى آيات الله علي خامنئي هذا الرفض بمواقف صريحة خلال أكثر من كلمة ألقاها في الشهرين الماضيين. كما أكد مثل هذا الموقف قادة الحرس الثوري، ورجال الدين المقربين من مؤسسة “بيت القائد”.

أما على صعيد الحكومة التي تعد المفاوضات بشأن الملف النووي من ضمن صلاحياتها بموجب توزيع سياسي داخلي فإن مصادر مطلعة أعلنت أن وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي أكد خلال الزيارة ذاتها التي أجراها وزير الخارجية الروسي إلى طهران، على أن إيران إذ تثمن النوايا الروسية الحسنة فإنها ترفض الانخراط في عملية مفاوضات مع إدارة ترامب في الوقت الراهن. وهو الموقف ذاته الذي أعلنه الرئيس الإيراني في البرلمان، حين أوضح بأن حكومته تتبع “كلمة الفصل” التي قالها المرشد الأعلى، وتعدل عن مطالبتها ببدء مفاوضات مع واشنطن حول الموضوع النووي.

وتأتي هذه المواقف الإيرانية الرافضة للحوار مع إدارة ترامب، وسط إهمال صحفي للمبادرة الروسية، تشاركت فيه الصحافة المقربة من المحافظين والدولة العميقة، مع الصحافة الإصلاحية والمعتدلة؛ ليتبين أن ثمة إجماعا في الأوساط السياسية الإيرانية على تجاهل وساطة الحليف الروسي.

لِمَ تتجاهل طهران الوساطة

بعيدا عن الرؤية السلبية المتجذرة في المجال السياسي الإيراني حيال روسيا، والتي تتبناها وجوه في التيارين المعتدل والمحافظ، يمكن إحالة الإهمال الذي واجهته مبادرة الوساطة الروسية في الأوساط السياسية الإيرانية إلى عدة أسباب متداخلة:

• الفجوة الواسعة بين رؤية البلدين حول كيفية التفاوض بشأن الملف النووي؛ فالرؤية التي تعتمدها طهران في المرحلة الراهنة، تعتبر روسيا خارج إطار المفاوضات النووية، وتعتزم طهران أن يكون أيّ تفاوض حول البرنامج النووي محصورا هذه المرة بين إيران والولايات المتحدة. في حين أن روسيا تعتمد رؤية معاكسة تماما؛ إذ ترغب روسيا في تهميش الجانب الإيراني في المفاوضات التي تريد لها أن تجري بين موسكو، وواشنطن أولا. وذلك على غرار المفاوضات التي جرت بين الولايات المتحدة وروسيا بشأن الحرب الأوكرانية؛ حيث جرى التفاوض أولا بين الكبار، ثم فرضت نتائج الحوار على الجانب الأوكراني. وفي هذا السياق فإن العديد من التحليلات التي ظهرت غداة زيارة لافروف إلى طهران، أكدت بأن وزير الخارجية الروسي قدم إلى طهران، لإطلاع الجانب الإيراني على بعض تفاصيل المفاوضات الروسية – الأميركية حول الموضوع الإيراني في إطار حوارهما الإستراتيجي حول مختلف الملفات الخلافية في الرياض. كما أكدت المتحدثة باسم الخارجية الروسية، أن موسكو بصدد فتح حوار منفصل مع الولايات المتحدة حول الملف النووي الإيراني. إنها إذن، فجوة أساسية ناجمة عن إرادة روسيا وإيران، بتغييب الطرف الآخر أو على الأقل تهميش دوره على طاولة المفاوضات.

• الخلاف بين الجانبين حول الدور الأوروبي في المفاوضات النووية؛ إذ أظهرت الحكومة الإيرانية من خلال جولات الحوار المتكررة حول الملف النووي مع الأطراف الأوروبية خلال الأشهر الماضية بأن طهران عازمة على الاستعانة بالأطراف الأوروبية من أجل تجسير الهوة مع واشنطن في المسألة النووية والقضايا الخلافية الأخرى. وعلى عكس ذلك، تنبذ روسيا فكرة مشاركة الأطراف الأوروبية في أيّ مفاوضات حول الملف النووي الإيراني، مؤكدة أن الجانب الأوروبي جزء من المشكلة، وأنه لا يملك موقفا حياديا في الملف النووي يخوله أن يكون جزءا من الحل. فيما يسود في الأوساط الإيرانية الاعتقاد بأن الموقف الروسي هذا قد يصح بشأن أوكرانيا، لكنه ليس صحيحا إطلاقا في الملف النووي الإيراني.

• مراعاة إيران للموقف الصيني؛ فبشكل عام تعتبر الصين محاولات الاحتواء الأميركي لروسيا وإيران، خطوات في سبيل إستراتيجية أشمل، تهدف إلى عزل الصين، وأبعاد حلفائها عنها. وتظهر بكين تحسسا واضحا إزاء التحرك الروسي في الملف النووي الإيراني، خصوصا أنه تحرك يعتمد تغييب الصين – إلى جانب الثلاثي الأوروبي – من طاولة المفاوضات النووية، ويرغب بجعل الأمر مقتصرا على الثنائي الأميركي – الروسي، والجانب الإيراني. كما تقرأ بكين في الفاعلية الروسية في المجال الإيراني، مدخلا إلى تفعيل مشاريع يراد منها التنافس مع المشاريع الاقتصادية الصينية في إيران، وغرب آسيا عموما. وأخيرا فإن الصين التي ذاقت النتائج المرة للاتفاق النووي السابق، والذي أبعد إيران عن الصين بعد فتح أبواب طهران على الواقع يشير إلى أن المبادرة الروسية لا تزال أشبه بالتغريد من جانب واحد ويبدو الجانب الروسي هو الجانب الوحيد الذي يروّج لها.

الاستثمارات الغربية، تنظر اليوم إلى المحاولات الأميركية لإحياء الاتفاق النووي، بوصفها خطوات لإغلاق المجال الإيراني أمام الصين، سواء على صعيد وقف تدفق النفط الإيراني الرخيص إلى المصافي الصينية، أو على صعيد إنهاء الهيمنة الصينية على الأسواق الإيرانية في غياب المنافسين. وأغلب الظن أن تلك الأسباب، تدعو بكين إلى التحفظ حيال أيّ مبادرات بشأن إحياء الاتفاق النووي وإنهاء العقوبات. خصوصا وأن تلك المبادرة، تتضمن عزل الصين عن أحد حلفائها الرئيسيين في المنطقة. وهي الأسباب ذاتها التي سببت تلكؤا في بعض مؤسسات “الدولة العميقة” الإيرانية، والمقربة من الصين، ومنعتها من التعامل الإيجابي مع المبادرة الروسية؛ إذ يظهر تأثير الموقف الصيني على تلك المؤسسات، منافسا قويا للتأثير الروسي.

وبشكل عام، تحبذ إيران فكرة الوساطات الدولية لفض الخلاف مع الولايات المتحدة، لكي لا تضطر إلى الجلوس بنفسها على طاولة حوار مباشر مع واشنطن. ومع ذلك، لم تلق مبادرة الوساطة الروسية الأخيرة ترحيبا إيرانيا. ويمكن إحالة التجاهل الإيراني للوساطة الروسية إلى عدة أسباب، تظافرت ودفعت صانع القرار في الحكومة الإيرانية إلى إهمال مبادرة الحليف الروسي. فيما كان صمت مؤسسات الدولة العميقة الإيرانية المقربة من روسيا بمثابة ضوء أخضر لرفض المبادرة.

وتظهر مراقبة السلوك الإيراني أن طهران لا تبحث عن وساطات بهذا الحجم، بل تسعى إلى تأمين قنوات اتصال موثوقة مع واشنطن، تتكفل بنقل الرسائل، وتسعى في تقريب وجهات النظر بينهما، من دون أن تصبح متحدثة باسم أحدهما، أو تصبح طرفا في المفاوضات. ولم تكن الوساطة الروسية تتناغم مع المتطلبات الإستراتيجية التي تحكم الرؤية الإيرانية للمفاوضات مع الولايات المتحدة.

غير أن التجاهل الإيراني، قد لا يعني بالضرورة، استبعادا مطلقا للوساطة الروسية. إذ تتطلع روسيا إلى دورها هذا في فض النزاع حول الملف النووي، كجزء من منظومة التفاهمات الإستراتيجية الأوسع نطاقا مع الجانب الأميركي. وتمتلك روسيا الكثير من الأوراق التي يمكنها من خلالها أن تضغط على صانع القرار الإيراني في الأيام القادمة. ومن هذا المنظور فإن احتمال خضوع المؤسسة السياسية في إيران للضغوط الروسية يبقى واردا، بحيث تقبل طهران في المحصلة بهذه الوساطة تحت الضغط.

ومن جهة ثانية، ستكون الرغبة الأميركية في التوصل إلى حل سريع للعقدة الإيرانية سببا داعما يعزز احتمال اعتماد الوساطة الروسية. ولم تظهر الولايات المتحدة حتى الآن، موقفا رسميا حيال مبادرة الوساطة الروسية. وربما تفضل واشنطن (مثل طهران) وسيطا أقل حجما، وأقل تدخلا في عملية التفاوض، لكن يبقى من المحتمل أن تعوّل واشنطن على النفوذ الذي تتمتع به روسيا في إيران، وتنظر إلى المبادرة الروسية من هذا المنطلق بوصفها طريقا مختصرة، يمكن من خلالها التوصل إلى اتفاق سريع. وما يعزز الشعور بذلك، هو اعتماد الجانب الأميركي أجندة موسعة في حوارها مع موسكو، تتضمن ملفات من بينها الملف الإيراني.

وقد تفضل إدارة ترامب وضع الورقة الإيرانية في جيب اللاعب الروسي في سياق إستراتيجية عزل روسيا وإيران عن الصين التي تعتبرها الولايات المتحدة التحدي الإستراتيجي. وكل ذلك، يعني أن المبادرة الروسية التي تم تجاهلها إلى الآن من الجانب الإيراني، ستبقى متأرجحة بين احتمال إخفاقها كما حصل مع مبادرات سابقة أخرى تقدمت بها روسيا لحل بعض الملفات الإيرانية، أو احتمال اعتمادها ونجاحها في شق طريق مختصرة إلى حل سريع للملف النووي الإيراني. وتدعم هذا الاتجاه أسباب ظرفية أخرى، لعل أهمها المهلة الزمنية الضيقة المتوافرة قبل أكتوبر المقبل، حيث ينتهي الاتفاق النووي لعام 2015.

العرب




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية