الخط العربي: جمال الكلمة وفلسفة المعنى

الخط العربي: جمال الكلمة وفلسفة المعنى


26/01/2019

كانت ثقافة العرب ووعيهم التاريخي في المرحلة التي ظهر فيها الإسلام، تعتمد أساساً على اللغة التي أبدعوا فيها شعراً ونثراً، لكن العناية المتعلقة بالتدوين فرضها الاهتمام بالقرآن الكريم؛ فكان الخط المفهوم والواضح هو الأساس، لكن الضرورة العملية هذه، لم تمنع من تطور الجانبين؛ الجمالي والفلسفي، للخط العربي الذي غدا تدريجياً فناً مستقلاً بذاته.
ضرورة وجمال
في هذا السياق، يقول الكاتب والباحث مصدق الحبيب: "باعتباره واحداً من الفنون الإسلامية الرئيسة؛ يتميّز فنّ الخطّ العربي بالتزامه بأصول محددة وأسس قواعدية منضبطة، تتطلب تدريباً تقليدياً طويلاً، ومراساً مستمراً، من أجل أن يتسنى للخطاط تنفيذ أعماله الفنية ببراعة وعناية فائقتين تتناسبان مع المكانة الفنية التأريخية، المبنية على التهذيب والانضباط الروحيين لهذا الفنّ، ورغم أنّ ممارسة هذا الفنّ تُلزم الخطاط بتكريس نشاطه التدريبي بانهماكٍ مكثف ولأمد طويل، إلا أنّ أعمال الخطّ العربي الكلاسيكية، ولقرونٍ خلت، واجهت تحدياً جمالياً كبيراً، نجحت فيه".

تحتاج ممارسة الخط العربي إلى مراس وتقنيات وأدوات عالية الجودة

ويضيف الحبيب، في دراسته المنشورة على موقع "الحوار المتمدن"، بتاريخ 3 آب (أغسطس) 2008؛ "مقولة الإمام علي: "الخطّ الجميل، يزيد الحق وضوحاً"، هي مقولةٌ توجد في عمق الخط العربي الإسلامي بما حققه من توازنٍ وجمالٍ واستخدامٍ غير مألوفٍ للعناصر الهندسية واللونية في تطوير الخط العربي الكلاسكي ومنحه كذلك معناه الفلسفي الواسع".

الحبيب: الخطّ العربي يقدم رسالةً فحواها العدل والتوازن والمساواة والجمال والمحبة للبشر والطبيعة والمخلوقات

يمكن اعتبار الخطّ العربي والإسلامي، أول فنّ تشكيلي عربيّ، إن صحّ التعبير، ولم تكن عملية الإتقان والالتزام وحدها، ما أبقى الخط العربي الإسلامي على مرّ العصور، إنما قدرته على التعبير عن الجمال والمعنى الفلسفي معاً؛ فالكلمة العربية في الخطّ العربي المكتوب يجب أن تظهر دوماً بمظهر التشكيل الساعي للتفوق على إطاره، ولعلّ أوّل من وضع الإطار الوهمي هذا، كان الوزير العباسي ابن مقلة.
وتشير الدراسات إلى أنّ ابن مقلة رسم دائرة فارغة، كدليلٍ على اللانهائية واللامحدودية، وترك الأحرف تتشكل وترتسم فيها من الفراغ، وكان ابن مقلة يعني بذلك مدى قدرة الدائرة، كشكلٍ وإطار، على توليد الأفكار والأشكال الهندسية العملية من ناحية، وعلى قدرة الخط العربي على تطويع وتوظيف قدرات الدائرة في إظهار جمالية الخط العربي ولا نهائيته من ناحيةٍ أخرى.

أبعاد زمنية وفلسفية
الخطّ العربي يتمتع بعناصر جمالية أيضاً، منحته قدرته على التكيف؛ ومايزال محافظاً حتى اليوم على قدرته على التلاؤم مع العديد من أنواع الفنون التشكيلية والزخرفية الحديثة، وبهذا الخصوص يرى كلّ من الخبيرين في الفنّ الإسلامي والعربي، الباحثان؛ خضير عباس دلي، وعدي ناظم فرمان من العراق؛ أنّ الخطّ العربي يتميز بضمّه عدداً من الأفكار، من أهمها:
"التوازن؛ وهو حالة تبحث عنها القوى الطبيعية عندما تتفاعل في الطبيعة؛ إذ يسعى الخطاط، من أجل تحقيق التوازن، وهذا يمثل جانباً واحداً من الميل الكلي في الطبيعة نحو التوازن، وكذلك الإيقاع، ويوجد من خلال تنوّعٍ مكرّرٍ في الألوان مثلاً، أو تكرارٍ في عناصر التصميم، أو التزيين، وكذلك السيادة؛ أي تميّز عنصرٍ في التصميم أو الخطّ، أو الزخرفة، يجعل منه محوراً لكلّ ما حوله من مكونات".

اقرأ أيضاً: محمد أبو عزيز: خصوصية الخط العربي أدخلته عالم الفنون من أوسع أبوابه
ويقدّم الباحثان، في بحثهما "النظرية الجمالية للخطّ العربي الإسلامي" الصادر عن جامعة بابل العام 2016، عرضاً مطولاً يتعلق بالنسق والدقة والتباين والتضادّ والتقابل، والانسجام، وغيرها العديد من صفات الخطّ العربي والفنّ الإسلامي عموماً؛ حيث يمكن من خلالها جميعاً، النظر إلى قيمة الخطّ العربي، كفنّ هندسيّ متقن ومدروس، ومعبّرٍ قويٍ عن الجمال، وحاملٍ للمعنى الفكري والفلسفي والديني، المتعلق بالطبيعة تحديداً وعناصرها، ومن ثم الكون.

الدائرة مساحةٌ لا نهائية من المعاني والتأويلات التي يمثلها الخطّ العربي

وهنا يؤكد الباحثان أنّ "كلّ ما تمتع به الخط العربي من صفاتٍ وتقنيات تم ذكرها، تقود مباشرةً إلى الخالق وقدرته العظيمة على إحداث كلّ هذه العناصر في الكون أصلاً، والخط يعبّر عنها، ويعبّر عن كون الإنسان مكتشفاً للقوانين الرياضية والفيزيائية والعلاقات الطبيعية، فهو يعيد استخدامها، ويعيد إنتاجها بأفضل ما يستطيع، متعلماً من الخالق بعضاً قليلاً من أسرار الجمال والبقاء في هذا العالم".

الخطّ العربي يتمتع بعناصر جمالية منحته القدرة على التكيف مع العديد من الفنون التشكيلية والزخرفية الحديثة

ويخلص الباحثان إلى القول إنّ "الرسالة الفلسفية من الخطّ العربي، تبعث على الدهشة والمحبة في آن؛ فهي تتحدث عن الحرية كونها تزيد من مسؤوليات الفنان وتتطلب منه إتقان عمله، فكلما كانت حريته في التخطيط والتزيين من أجل الجمال والإتقان أكبر، أصبحت مسؤوليته في جعل عمله شبه كاملٍ أكبر؛ لأنّه يعبّر غالباً عن علاقة الإنسان بالطبيعة والكون وبخالقهما"، ويحاول اختصار الكون في رموزه وأحرفه الدالة على المعنى.

من أنواع الخطّ العربي

وبالعودة إلى الباحث مصدق الحبيب؛ فإنّه يرى أنّ "الخطّ العربي مثّل رسالةً فحواها العدل والتوازن والمساواة والجمال والمحبة، للبشر والطبيعة والمخلوقات وموجودات العالم التي مثلها من خلال تقنيات كتابة الأحرف ورسم الكلمات العربية، إلا أنّه لم يتم توظيف هذا الفنّ جيداً، وتركت طريقة التعبير عن الإسلام جمالياً ودينياً وفكرياً، لتكون سياسيةً وحزبيةً أكثر منها فنيةً وجمالية، رغم الإرث العظيم لفنّ الخطّ العربي عبر التاريخ الإسلامي".


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية