هذه المقالة أرضية أوّلية ودعوة مفتوحة للاشتغال الجماعي، كلّ من مقامه، على ظاهرة يبدو أنّها لم تظفر بعد بالمواكبة البحثية المرجوة، وإن صدرت بعض الإشارات، بما في ذلك بعض المقالات والدراسات حول الموضوع، لكن ينقصها التدقيق في عدة تفاصيل مهمّة أو مفصلية، إمّا مسكوت عنها لأنّها حساسة من عدة أوجه، وإمّا لأنّه لا يتم الانتباه إليها أساساً، أو لا مفكر فيها، بتعبير ميشيل فوكو. ومعلوم أنّ مفتاح "الموضوع اللّامفكر فيه" هذا يُعتبر أحد القواسم المشتركة بين أعمال محمد عابد الجابري ومحمد أركون، بما لهم وما عليهم.
نتحدث بالتحديد عن تأثير الثورة الرقمية على أداء وتفاعل الخطاب الديني في المنطقة العربية إجمالاً، حتى لا نتيه في تفاصيل أكثر مع الخطاب الديني في العالم الإسلامي، أو لدى الجاليات المسلمة في أوروبا وأمريكا وفضاءات مجتمعية أخرى.
المقصود بالخطاب الديني هنا شقه الإسلامي، الصادر عن مجمل الفاعلين في الحقل الإسلامي، سواء تعلق الأمر بالمؤسسات الدينية أو التيارات الصوفية أو الحركات الإسلامية، دعوية كانت أو سياسية أو جهادية، من قبيل جماعة (الدعوة والتبليغ) في الشق الدعوي، أو المشروع الإخواني في الشق السياسي، أو تنظيم (داعش) في الشق الجهادي، ضمن تيارات أخرى، إضافة إلى باقي الفاعلين في دور القرآن والمساجد وكليّات الدراسات الإسلامية وغيرها.
في حقبة "الربيع العربي" عاينا بزوغ ظاهرة "الكتائب الإلكترونية"، وهي ظهور مجموعة من الحسابات على مواقع التواصل تابعة للمشروع الإخواني، هدفها شيطنة خصوم المشروع، سواء تعلق الأمر بالدولة أو الأحزاب السياسية أو كل من يختلف ويعترض على المشروع الإخواني
وواضح أنّ مجرد استحضار المنعطف الرقمي على أداء هذا الاتجاه أو غيره، يفتح أبواباً من مجالات الاشتغال، يهمنا منه هنا الاشتغال البحثي الذي نعاني منه خصاصاً مركباً، على غرار الخصاص البحثي الذي يهم الاشتغال على لائحة عريضة من القضايا في المنطقة العربية.
في المحور الخاص بأداء المؤسسات الدينية مع المنعطف الرقمي، يكفي أن نستحضر الفوارق الكبيرة للحضور الرقمي بين أداء الإسلاميين، من حركات دعوية وسياسية وجهادية، مقارنة مع أداء الفاعلين في مؤسسات دينية، والأمر هنا يكاد يكون قاسماً مشتركاً في المنطقة العربية، إلى درجة أنّ بعض صناع القرار يتدخلون بين الفينة والأخرى من أجل تذكير هذه المؤسسات بهذه المعضلة، أو على الأقل إثارة انتباه أهل هذه المؤسسات، كما عاينا ذلك في مجموعة من المحطات خلال العقدين الماضيين.
في المحور الخاص بأداء الإسلاميين، أو أداء الإسلاموية، يكفي أن نتذكر ما عايناه في حقبة "الفوضى الخلّاقة" عند البعض أو "الربيع العربي" عند البعض الآخر، أي أحداث 2011 ـ 2013، وفي الحالة المغربية، على سبيل المثال لا الحصر، عاينا بزوغ ظاهرة "الكتائب الإلكترونية"، وهي ظهور مجموعة من الحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي تابعة للمشروع الإخواني، هدفها شيطنة خصوم المشروع، سواء تعلق الأمر بالدولة أو الأحزاب السياسية أو كل من يختلف ويعترض على المشروع الإخواني. من الصعب إحصاء الأمثلة في هذا السياق، حتى إنّ إحدى الصحف اليومية اضطرت، من باب تنوير الرأي العام، إلى نشر سلسلة تحقيقات حول الظاهرة، ويتعلق الأمر بيومية (الأحداث المغربية) المقربة من دائرة صناع القرار، وكانت سابقة أن تنشر صحيفة تحقيقات حول الموضوع، وممّا تطرقت إليه اليومية عبر حلقات من الكشف والتدقيق أنّ حزب (العدالة والتنمية) حينها لم يُكوِّن كتائبه اعتباطاً أو بشكل ارتجالي، بل صرف عليها مالاً وفيراً وهيّأ لها تكويناً شرساً، واستعان بخبرات أجنبية في المجال، واستفاد من تجارب إخوانية قادمة من دول عديدة، ولعلّ المتأمل لعمل هاته الكتائب سيقف على احترافية طريقة اشتغالها، وعلى تبعيتها العمياء للحزب، وتنفيذها لمخططه بشكل حرفي.
مؤكد أنّ مجرد انخراط منبر إعلامي في هذا الموضوع يُترجم وعياً بخطورة ما صدر عن تلك الكتائب، في حقبة كان فيها المشروع الإسلاموي محلياً وإقليمياً في أوجه، إلى درجة حلم البعض بعودة "دولة الخلافة" و"تطبيق الشريعة" وإطلاق مراكز بحثية محسوبة على "أسلمة المعرفة"، ومؤشرات من هذا السياق.
أمّا في المحور الخاص بتفاعل أهل التصوف والعمل الصوفي مع المنعطف الرقمي، فيمكن العمل بقاعدة "حدث ولا حرج"، لأنّ النتائج هنا تطرح عدة أسئلة حول ما يُشبه تحولات يمرّ بها الخطاب الصوفي، وما نعاينه عملياً على أرض الواقع الرقمي أو الافتراضي أنّ نسبة لا بأس بها من أهل هذا العمل الديني ليست واعية بهذه التحولات، ولا يبدو أنّها واعية بتأثير المنعطف الرقمي على الخطاب الصوفي، سواء تعلق الأمر بالتأثير على الأتباع عند الطرق الصوفية، أو تأثيره على المتتبع للتصوف، من قبيل التيارات التي انفتحت عليه خلال العقد الماضي على الخصوص، بعض التيارات النسوية، وبعض أتباع الإسلاموية ممّن طلقوا خطاب "دولة الخلافة" و"الطائفة المنصورة"، أو تيارات أخرى.
أمّا المحور الخاص بتفاعل الإسلاموية الجهادية مع المنعطف الرقمي، فإنّنا نجد أنفسنا أمام "أمّ المفارقات"، من باب الاستئناس بدلالات عنوان مقالة شهيرة للمفكر الفرنسي جان بودريار، عندما وصف اعتداءات نيويورك وواشنطن بأنّها "أمّ الأحداث".
والمقصود هنا بالحديث عن "أمّ المفارقات"، أنّه في حقبة توصف فيها الجماعات الإسلامية الجهادية بأنّها رجعية ومتخلفة وظلامية وإرهابية واتهامات من هذه الطينة، وهي اتهامات في الغالب وجيهة، نعاين أنّها كانت سباقة إلى توظيف المنعطف الرقمي لخدمة مشروعها الإسلاموي، بل فعلت ذلك قبل باقي الفرقاء أعلاه، سواء تعلق بالأمر بالمؤسسات الدينية، أو الإخوان، أو أهل العمل الصوفي، وهذه كبرى المفارقات.
ومن بوسعه أن يغفل عن الحروب التي اندلعت بعد تلك الأحداث بين الأمريكيين على الخصوص وتنظيم (القاعدة) وباقي الجماعات الجهادية، التي جرت في شبكة الإنترنت، وكانت تدور أساساً حول حجب المواقع الإلكترونية والمنصات الرقمية الجهادية التي كانت تروج الخطاب الإسلاموي الجهادي الذي يستهدف الشباب والمراهقين في العالم الإسلامي، وحتى في الساحة الأوروبية والأمريكية، وفي مقدمتها (منبر التوحيد والجهاد) الذي كان ينشر موسوعات في الأدبيات الجهادية؟ وقد سبق لبعض الباحثين الأوروبيين أن انتبهوا لهذه الجزئية الدقيقة، مقابل تواضع الاشتغال عليها بحثياً على الصعيد العربي، كما سلف الذكر.
من باب الإنصاف وعدم التورط في تمرير الخطاب الاختزالي، أشرنا أعلاه إلى تواضع الاشتغال البحثي على هذه القضايا، لكنّ هذا العنوان أو المعطى العام لا يُقزّم قط من أعمال بحثية نوعية اشتغلت بشكل أو بآخر على الموضوع، من زاوية تخصصها أو مجال اهتمامها، بما ساهم في تحقيق بعض التراكم، ونتوقف هنا عند مثالين اثنين على الأقل، قاسمهما المشترك أنّهما صدرا في عزّ إطلاق الفضائيات العربية، ومنها الفضائيات الدينية:
ـ يتعلق الكتاب بأحد أعمال عبد الله الغذامي تحت عنوان "الفقيه الفضائي: تحول الخطاب الديني من المنبر إلى الشاشة"، حيث اجتهد المؤلف في تقديم مجموعة من الأفكار والملاحظات والتحليلات حول هذا الموضوع المركّب، ويُحسبُ للكاتب أنّه أحد الأوائل الذين انتبهوا للظاهرة منذ عقد.
ـ أمّا الكتاب الثاني، فقد ألفه يحيى اليحياوي تحت عنوان "الخطاب الديني في الفضائيات العربية: مقاربة من منظور الموسطة"، ويروم الإجابة عن مجموعة أسئلة، من قبيل: ما طبيعة التديّن الجديد؟ كيف تشكّل؟ وما سرّ الانتقال من الدين إلى التدين؟ ما مكوّنات التديّن المرتكز على الفرد؟ ما مدى نجاح تقديم الدين إعلامياً، بعدما كان مقتصراً على حلقات المساجد؟ هل انفجار أعداد الفضائيات الدينية في العالم العربي نتيجة تنامي الحاجة إلى الدين كرمزٍ للهوية؟ أو كملجأ للاحتماء من انفتاح المجال واسعاً لعولمة تنقل السلع المادية واللامادية الغربية؟ أم نتيجة نشاط الحركات الإسلامية في نشر الدعوة، ومواجهة الأطراف الدينية الأخرى المنافسة لها؟
باستثناء هذه الأمثلة، فالواقع البحثي الذي لا يرتفع، يُفيد أنّ الاشتغال على التحولات التي تطرقنا إليها عبر فقرات في هذه المقالة، لا يرتفع، عنوانه التواضع الكمي والنوعي.
مواضيع ذات صلة:
- "رؤية 2030" وتجديد الخطاب الديني