المراكز البحثية ومعضلة الأخونة

المراكز البحثية ومعضلة الأخونة


18/06/2019

نروم التوقف عند ظاهرة مرتبطة بأداء الأيديولوجيا الإسلامية الحركية، سواء تعلق الأمر بالأيديولوجيا الإخوانية، أو الأيديولوجيا السلفية، أو غيرهما، دون الحديث عن الأيديولوجيات الإخوانية التي تأثرت بالمرجعية السلفية أو العكس، أو الأيديولوجيات السلفية التي تأثرت بالمرجعية الإخوانية، فهذه تفرعات نظرية وميدانية، ليس هذا مقام التفصيل فيها.

اقرأ أيضاً: إخوان المغرب يفشلون في تطويق الخلافات الداخلية
وبما أنّنا نتحدث أساساً عن خطاب أيديولوجي، مع ميزة أنّه ينهل من الدين، لكنّه يروم نشر وترويج مشروعه في المجتمع والدولة، ما دام يرفع شعارَي "أسلمة المجتمع" و"أسلمة الدولة"، فمن الطبيعي أن يشتغل الخطاب ذاته حتى يكون حاضراً في المنظمات الأهلية مثلاً، أو في مؤسسات الدولة والنظام، وهذا أمر تفوقت فيه الحركات الإسلامية كثيراً، خاصة تلك المعترف بها رسمياً في المنطقة العربية، من قبيل الاعتراف الرسمي الذي حظيت بها النسخة المغربية من المشروع الإخواني؛ أي حركة "التوحيد والإصلاح"، بذراعها السياسي الذي يحمل اسم حزب العدالة والتنمية، وهو الاعتراف الذي خوّلَ لهذا الثنائي، الانتشار فوق المتوقع في أغلب مؤسسات الدولة؛ فالأحرى المنظمات الأهلية.

واضح أنّ الحضور البحثي لأعضاء المشروع الإخواني المغربي في المراكز البحثية للخارج، هدفه الدفاع عن المشروع

في هذا السياق؛ نعاين حضور العديد من أعضاء الحركات الإسلامية، في مجال الدراسات والأبحاث، سواء في المؤسسات الجامعية أو المراكز البحثية، وإن كنا هنا نتحدث بالتحديد عن المراكز البحثية، المغربية والعربية، وهذا أمر متوقع، ما دام الهدف يروم الدفاع عن مشروع الحركة، كما هو الحال مع مجموعة من الأسماء البحثية التي تتم استضافتها في الصحف والمواقع الإلكترونية المغربية، ومنها الأسماء البحثية المقيمة في الخليج العربي على الخصوص، والحديث هنا عن الأقلام البحثية التابعة لحركة "التوحيد والإصلاح"، وحزب "العدالة والتنمية"، ومنها الأقلام البحثية المنتمية إلى "المركز المغربي للأبحاث والدراسات المعاصرة"، وهو المركز الذي يصدر تقريراً عن الحالة الدينية، من منظور إسلامي حركي، إخواني حصراً.

اقرأ أيضاً: رهانات خاسرة.. لماذا فشل تحالف "الاشتراكيين الثوريين" مع "الإخوان"؟
كما يصدر المركز، مجلة تحمل اسم "تحولات معاصرة"، وكما هو متوقع، تضمّ المجلة في لائحة الإدارة والاستشارة، أعضاء من الحركة ذاتها، على غرار مجلة "منار الهدى"، الصادرة عن جماعة "العدل والإحسان"، والتي تضم بدورها، في لائحة الإدارة والاستشارة، أعضاء من الجماعة ذاتها؛ أي جماعة "العدل والإحسان"، وقِسْ على المراكز البحثية التابعة لمشروع الجماعة، نذكر منها مركزين اثنين على الأقل: "المركز المغربي للأبحاث وتحليل السياسات"، و"مركز ابن غازي للأبحاث والدراسات الإستراتيجية"، دون الحديث عن شبكة رقمية تحمل اسم "شبكة ضياء للمؤتمرات والدراسات"، التي ينشر فيها باحثون من الجماعة.

اقرأ أيضاً: "الإخوان" وحزب "دينك" التركي.. لوبي في هولندا يرعى المتطرفين
هذه أمور متوقعة إذاً، ما دامت تنتصر لخطاب أيديولوجي ما، على غرار السائد مع باقي الأيديولوجيات، كما سلف الذكر، مع فارق يكمن في طبيعة المرجعية الأيديولوجية في هذا المقام، لأنها تدعي أنّها ممثلة للدين الإسلامي أكثر من إسلام العامة والخاصة، إضافة إلى رهان هذه الأيديولوجية على الهاجس السياسي بشكل مفرط، مقارنة بالحركات الإسلامية الدعوية، من قبيل: جماعة "الدعوة والتبليغ"، أو "السلفية العلمية"، وليس صدفة أنّ ملف العدد الأخير لمجلة "تحولات معاصرة"، والإحالة على العدد المزدوج (4/5 آذار (مارس) 2019)، وهي مجلة تابعة لحركة "التوحيد والإصلاح"، كان بعنوان "الديني والسياسي في السياق المعاصر: بين سؤالي الاتصال والانفصال"، مع مشاركة أسماء بحثية ينتمي أغلبها إلى الحركة ذاتها، أو كان ينتمي سابقاً إليها، وليس صدفة أيضاً؛ أنّ العدد السابق للمجلة، وهو العدد المزدوج (2/ 3) تضمّن ملفاً حول "القيم والسلطة في السياق الإسلامي المعاصر".

اقرأ أيضاً: فروع رحم واحدة تتقاسم الأدوار لتدارك تهافت الإخوان
ومن نتائج التقاء هذه المرجعية الأيديولوجية بالهاجس السياسي؛ أننا نعاين تطبيقات ذلك على أرض الواقع؛ حيث إنّه نادراً ما يتم الانتباه إلى ذلك، إما بسبب جهل المتتبع، أو بسبب انخراط العديد من هؤلاء في تبني التقية، أو لعوامل أخرى، ونتوقف عند بضع أمثلة في هذا السياق، وهي أمثلة لا يمكن أن نجد لها أيّ أثر فيما يصدر عن هذه المراكز البحثية، من تقارير ومجلات ودراسات وأبحاث وما إلى ذلك؛ لأنّ عقلية الولاء للهاجس الأيديولوجي تسمو على الولاء للهاجس المعرفي.
من بين هذه الأمثلة؛ أنّ من أسماء المشاركين في المؤتمر السنوي للباحثين في العلوم الاجتماعية والإنسانية، في موضوع "الديني والسياسي في السياق المعاصر: بين سؤال الاتصال وجدل الانفصال"، الرباط 20 و21 أيار (مايو) 2017، صدرت المشاركات في المجلة التي تطرقنا إليها من قبل، كان أغلب المشاركين من حركة "التوحيد والإصلاح" وحزب "العدالة والتنمية"، وفي سياق الانتصار للهاجس الأيديولوجي لأعضاء الحركة ذاتها، على حساب الهاجس المعرفي، نرى أنّ أغلب الباحثين المشاركين في التقرير السنوي الصادر عن "المركز المغربي للأبحاث وتحليل السياسات" [التابع لجماعة "العدل والإحسان"]، والذي يتطرق لحالة المغرب السياسية والاقتصادية والثقافية والدينية، ينتمون إلى جماعة "العدل والإحسان".

اقرأ أيضاً: الإخوان المسلمون: التمكين بين النظرية والتطبيق
لا يقتصر هذا الاصطفاف الأيديولوجي باسم "المرجعية الإسلامية" على مراكز الداخل؛ بل يطال المراكز البحثية العربية التي يوجد مقرها في المغرب؛ حيث إنّه بمجرد ما يظفر قلم بحثي بصفة باحث في هذا المركز، أو متعاون منه، نلاحظ أنّه يفتح أبواب التعاون مع المركز لأعضاء الأيديولوجيا الإسلامية الحركية التي ينتمي إليها، وهذا ما نعاينه مع مجموعة من الأمثلة، من قبيل ما طال في زمن ما "مركز نماء للبحوث والدراسات الإنسانية"، (وهو مركز بحثي سعودي) والذي كنا نعاين في أولى الإصدارات البحثية التي حَرّرها باحثون إسلاميون مغاربة، أنهم كانوا في غالبيتهم من حركة "التوحيد والإصلاح" وحزب "العدالة والتنمية"، ولكن توصل مدير المركز بملاحظات نقدية في هذا السياق، جعلته يُعيد النظر في التفاعل البحثي المغربي مع المركز؛ حيث اتضح أنّ مُمثلي المركز في المغرب كانوا ينتمون إلى حركة "التوحيد والإصلاح" وحزب "العدالة والتنمية"، فكانت النتيجة، المساهمة في تقويم هذا المأزق، وقِسْ على ذلك ما نعاينه في مراكز بحثية أخرى.

اقرأ أيضاً: تونس: هل تطيح التحالفات الحزبية بحركة النهضة الإخوانية؟
واضح أنّ هذا الحضور البحثي لأعضاء المشروع الإخواني المغربي في المراكز البحثية للخارج، هدفه الدفاع عن المشروع، سواء تعلق الأمر بالدفاع عن المشروع في مواجهة الدولة، أو في مواجهة باقي المشاريع الإسلامية الحركية، سواء كانت إخوانية أو سلفية، ولكن مع الأخذ بعين الاعتبار القاعدة الآتية: اشتغال الباحث المسلم (chercheur musulman) على ملف الحركات الإسلامية مختلف عن اشتغال الباحث الإسلامي الحركي (chercheur islamiste) على الملف نفسه؛ لأنّ الباحث المسلم متحرر من الانتماء لسياج ديني طائفي، ويمكن أن ينتصر للمشترك الإنساني كما يمكن أن ينتصر لقيم الدين الخاتم، ولكن بعيداً عن تقديم الولاء للأيديولوجيا الإسلامية الحركية، كما يفعل ذلك أيّ قلم منتمٍ، أو محسوبٍ، على هذه الأيديولوجيا.
وهناك عدد كبير من الأمثلة المرتبطة بهذه السياقات، ونتوقف في هذه الجزئية عند مثالين فقط:

الباحث المسلم متحرر من الانتماء لسياج ديني طائفي ويمكن أن ينتصر للمشترك الإنساني وقيم الدين الخاتم

ــ في الحالة الأولى، وفي إحدى مقالات الرأي الموجهة للرأي العام البريطاني؛ تطرّق أحد الباحثين، من المحسوبين على المشروع الإسلامي الحركي في نسخته المغربية، إلى أداء حزب العدالة والتنمية، وصراعه مع المؤسسة الملكية، وخلُص في خاتمة المقال إلى أنّ "الحدود المؤسساتية بين الطرفين (القصر والإسلاميون المعترف بهم)، قد أنتجت حالة توازن ستجبر القصر والحزب (الإسلامي الحركي) على التعايش في المستقبل المنظور". وواضح أنّ مثل هذا الخطاب كان في دائرة اللامفكر فيه، في حقبة ما قبل أحداث "الربيع العربي"؛ لأنّ مقام المشروع الإخواني حينها، لم يصل إلى مقام الاختراق والتمكين في مؤسسات الدولة اليوم، بما يُخوّل له أن يُفرز لنا أقلاماً بحثية تتحدث عن منافسة ندية بين القصر والحزب الإسلامي.

اقرأ أيضاً: باحث تونسي يكشف كيف شكّل "الإخوان" مخزوناً للجماعات المتطرفة
ــ بالنسبة للحالة الثانية، فنجدها في مضامين "تقدير موقف تحليلي" حول انتخابات 6 تشرين الأول (أكتوبر) 2016 التشريعية، وصدرت عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، في موقع إلكتروني لندني، ولكن مضمون التقرير، كان دعاية إعلامية لحزب "العدالة والتنمية"، فكانت النتيجة أن صدرت انتقادات في مواقع التواصل الاجتماعي تندّد بهذا التدخل الخارجي عبر البوابة البحثية في الشأن الانتخابي، بما تطلب صدور بيان عن المركز المعني، أكّد فيه أنّ "المركز ينأى بنفسه عن التدخل في أيّ شأن داخلي، في المغرب أو غيره"، وأنّه "مركز بحثي وأكاديمي عربي مستقلّ، لا يمثل أيّة جهة في أيّة دولة عربية، بما فيها مقره الرئيس في قطر، ولا يمارس أيّ دور سياسي، وليس طرفاً في أيّة صراعات سياسية داخلية عربية"، دون أن يؤكّد البيان أنّ الأولوية للباحثين الذين يتعاونون معه، ومع باقي المراكز في قطر، ينتمون إلى الحركات والأحزاب الإسلامية.

اقرأ أيضاً: هل تعود جماعة الإخوان من جديد للمشهد العام؟
هذه بعض الأمثلة، من باب تسليط الضوء على معضلة نعاينها في أداء الحركات الإسلامية، ويمكن الاصطلاح عليها "معضلة أخونة المراكز والمؤسسات البحثية"، من باب أنّ "الأخونة مقام من مقامات الأسلمة التي تسعى إليها جميع الحركات الإسلامية، لولا أنّ هذه المعضلة، ضمن معضلات أخرى، تقف من بين أسباب فشل هذه الحركات في الظفر بثقة شعوب المنطقة.

الصفحة الرئيسية