الحرب تقسم الأراضي السورية إلى كانتونات... من المستفيد؟

الحرب تقسم الأراضي السورية إلى كانتونات... من المستفيد؟

الحرب تقسم الأراضي السورية إلى كانتونات... من المستفيد؟


18/12/2023

قسمت الحرب السورية الأراضي الحدودية في شمال البلاد إلى كانتونات، فأصبحت (5) مناطق واقعة على الحدود الشمالية، وممتدّة من الشرق إلى الغرب، تتمتّع بدرجات متفاوتة من الحكم الذاتي؛ (4) منها تحظى بدعم من تركيا؛ بل تعتمد عليها. 

وبات تقسيم جزء كبير من شمال سورية أمراً واقعاً؛ نتيجة عوامل عدة هي: التدخل التركي، والعملية العسكرية التي نفّذها النظام السوري بدعم روسي، وتحوّل المنظومة التجارية في وقت سابق من حلب نحو جنوب تركيا، والاقتصاد القائم على المساعدات العابرة للحدود والخاضعة بشكل متزايد لسيطرة تركيا.

ووفق دراسة لمركز (كارنيغي للشرق الأوسط)، فإنّه لن نشهد أفول ظاهرة الكانتونات في المستقبل القريب، لكن قد تتواصل عملية تعديل حدودها، فالمفاوضات التي جرت أخيراً بوساطة روسية بين تركيا ونظام الأسد تؤكد على استمرارية هذه الظاهرة.

وشكّل مسار الأستانة بداية تقسيم الأراضي الحدودية في شمال سورية إلى كانتونات، حيث ساهم في تمكين النظام السوري وتركيا، بالتنسيق مع روسيا، من إعادة رسم خارطة الشمال الغربي من دون أن يكون ثمّة خطر كبير باندلاع أعمال عدائية بين جيوش هذه القوى أو وكلائها.

لن نشهد أفول ظاهرة الكانتونات في المستقبل القريب، لكن قد تعدل حدودها، عبر المفاوضات التي تجري بوساطة روسية

وبحسب الدراسة، المنشورة على موقع المركز الإلكتروني، فإنّه بعد انضمام تركيا إلى مسار الأستانة، أصبحت الخطوط العريضة للتحوّل الذي خاضته السياسة التركية بشأن الحرب في سورية واضحة للعيان. فقد رأت تركيا في مسار الأستانة إطاراً أفضل من مفاوضات جنيف لمعالجة التحديات الأمنية عند حدودها الجنوبية. ورأى النظام السوري في مسار الأستانة، الذي لم يشارك فيه بصورة رسمية، فرصةً سانحة كي يكون له من جديد رأيٌ، من خلال المساعي الإيرانية والروسية، في شؤون الأراضي السورية الخارجة عن سيطرته. وأدّى ذلك بدوره إلى تحقيق مكاسب ملموسة، مثل استعادة جزء من تلك الأراضي، ومن ضمنها مراكز حضرية مهمة، في ضوء ارتباط مصير الشمال الغربي على نحو متزايد بمسار الأستانة.

 

تقسيم جزء كبير من شمال سورية أمر واقع؛ نتيجة عوامل عدة هي: التدخل التركي، والعملية العسكرية التي نفّذها النظام السوري بدعم روسي

 

ورأت الدراسة أنّه كي توافق المجموعات الثورية في أيٍّ من الكانتونات الـ (5) على دمج المناطق الواقعة تحت قبضتها في الأراضي التي يسيطر عليها النظام يجب منحها ضمانات بأنّ تلك المناطق ستتمتع بقدر كبير من الاستقلال الذاتي، ممّا يقتضي اعتماد الحكم اللامركزي. لكنّ المشكلة في هذا الصدد هي أنّ أيّ خطوة تتّخذها الدولة السورية باتجاه اللامركزية من شأنها أن تتحوّل إلى هاجس أمني بالنسبة إلى تركيا، لأنّها قد تثير مخاوف من إضفاء طابع رسمي على الحكم الذاتي الذي تتمتع به المناطق الخاضعة لسيطرة الأكراد في شمال شرق البلاد، وهو أمرٌ لا يمكن أن تتقبّله أنقرة. أمّا فيما يتعلق بالنظام في دمشق، فمن شأن أيّ خطوة لتقاسم السلطة من خلال اللامركزية الواسعة النطاق أن تشكّل تنازلاً كبيراً وتطرح تهديداً محدقاً باستقرار نظام الأسد.

تبعاً لذلك، هذه حالة نادرة تتفق فيها تركيا وسورية اتفاقاً كاملاً حول مسألة معيّنة. حتى إذا وُضِعت جانباً القضية الشائكة المتمثلة برغبات سكّان الكانتونات ومختلف مجموعات الثورة أو المعارضة التي تمارس سلطتها هناك، ليست أنقرة ولا دمشق متحمّستَين للتوصّل إلى اتفاق ينص على إعادة دمج هذه المناطق في الأراضي الخاضعة لسيطرة النظام السوري. والحال هو أنّ تقسيم الحدود التركية السورية إلى كانتونات ليس أمراً واقعاً فحسب، بل إنّ الفرص شبه معدومة بأن يتبدّل هذا الوضع في المستقبل القريب.

وأضافت الدراسة أنّ الدولة السورية خسرت بسبب الحرب جزءاً من أرضها وشعبها، ممّا سدّد لها ضربة قويّة، كما استنفذت تركيا طاقاتها من خلال التزاماتها في درع الفرات، وعفرين، ونبع السلام، وإدلب، من دون أن تتمكّن فعلياً من إضعاف المناطق الشمالية الشرقية الخاضعة لسيطرة الأكراد. في غضون ذلك بات سكّان الكانتونات الـ (5) في شمال البلاد محكومين بالعيش في كيانات ليست جزءاً كاملاً؛ لا من سورية ولا من تركيا، ولكنّها أيضاً غير مستقلّة عنهما.

رأت تركيا في مسار الأستانة إطاراً أفضل من مفاوضات جنيف لمعالجة التحديات الأمنية عند حدودها الجنوبية

وأوضح المركز في دراسته أنّ تركيا وسورية لا تمتلكان أرضية مشتركة كبيرة لتطبيع العلاقات بينهما، لكنّ مصالحهما تتوافق بما يكفي لتطبيق بعض المساومات والتسويات في الكانتونات المحاذية لحدودهما المشتركة، ولا سيّما في الكانتونات الـ (4) الواقعة في شمال غرب البلاد. والجدير بالذكر أنّ الاجتماعات بين المسؤولين الأتراك ومسؤولي النظام السوري متواصلة على قدم وساق، لكنّ الحسابات معقدة للغاية، إذ إنّ المناطق موضع التفاوض بين الجانبَين قد رسمت معالمها الحرب، أي تُعدّ جميع العوامل الديموغرافية والأمنية والاقتصادية القائمة هناك تجسيداً لتأثير الحرب. وقد نشهد تبلور سلسلة من التفاهمات الأمنية والاقتصادية حول أجزاء من كانتون واحد أو أكثر من الكانتونات الـ (4) في شمال غرب سورية.

فعلى سبيل المثال، قد تُبدي أنقرة مرونة حيال تعدّي دمشق على هذا الكانتون أو غيره، في حال امتنع النظام السوري في المقابل عن قصف المنطقة التي ما تزال تخضغ لسيطرة الثوّار في الكانتون. ومن شأن ذلك أن يمكّن أنقرة، التي تهدف، في خطوة مثيرة للجدل، إلى إعادة بعض اللاجئين السوريين في تركيا إلى بلادهم، من إثبات وجود مناطق آمنة في شمال غرب سورية. كذلك، قد تتوقع أنقرة، مقابل سماحها لدمشق بالسيطرة على أحد الطرق السريعة أو المعابر الحدودية المدرّة للربح، تعاونَ النظام السوري معها في الضغط على الكانتون الخاضع لسيطرة الأكراد في شمال شرق البلاد.

 

كي توافق المجموعات الثورية في أيٍّ من الكانتونات الـ (5) على دمج المناطق، يجب منحها ضمانات بأن تتمتع بالاستقلال الذاتي، وهذا يُعتبر هاجساً أمنياً لتركيا

 

وتابعت الدراسة أنّه من شأن أيٍّ من السيناريوات التي قد تنجم عن اتفاق مُحتمل بين تركيا والنظام السوري على حجم التعديلات المُنفّذة على حدود كانتون أو أكثر في الشمال الغربي، أن يعيد مجدّداً رسم الخارطة السياسية لشمال غرب سورية. لكنّ أيّاً من هذه السيناريوات لن يؤدّي إلى أفول ظاهرة الكانتونات نفسها، أو حتى إلى تغييرها بشكل جذري. بل على العكس، قد يرسّخ الاتفاق ظاهرة الكانتونات من خلال الاعتراف شبه الرسمي بها. مع أنّ إدلب والكانتونات الـ (3) الخاضعة للنفوذ التركي تشكّل شوكة في خاصرة النظام السوري وعبئاً يثقل كاهل أنقرة، وقد تشكّل أيضاً مصدر مشاكل لتركيا.

وتناولت الدراسة تأثير تلك الكانتونات الاقتصادي، حيث فقد النظام السيطرة على مساحات واسعة من الأراضي في شمال غرب البلاد، وأصبحت المعابر الحدودية مع تركيا البوابة الأساسية إلى الخارج لحركة الأشخاص ووصول المساعدات الإنسانية والسلع التجارية، ليتحوّل النشاط الاقتصادي نحو المناطق الحدودية الشمالية، وباتت تركيا المصدر أو الممر الأساسي للنشاط التجاري.

وتابعت الدراسة "أنّه على ضوء هذه التغييرات، تشكّل اقتصاد عابر للحدود بمليارات الدولارات. ففي العام 2014، بلغت قيمة الصادرات التجارية التركية إلى سورية عبر المناطق الشمالية الغربية حوالي (1.8) مليار دولار 2011، ليصبح جنوب تركيا، ولا سيّما غازي عنتاب، وجهة أساسية لمجتمع الأعمال السوري. فقد نقل عدد كبير من السوريين أعمالهم إلى تركيا، لكنّهم واصلوا تزويد الأسواق نفسها، مثل العراق ودول الخليج، من مركزهم الجديد. باختصار، لم يصبح السوريون، الذين نقلوا أعمالهم إلى جنوب تركيا جزءاً من الاقتصاد التركي وحسب، بل أيضاً جزءاً من اقتصاد المناطق الخاضعة لسيطرة الثوّار في شمال غرب سورية.

تنامى دور أنقرة باعتبارها نقطة انطلاق لإرسال الكميات الكبيرة والمتزايدة من المساعدات الإنسانية إلى سوريا

إضافةً إلى بروز اقتصاد عابر للحدود مقرّه تركيا، تنامى دور أنقرة باعتبارها نقطة انطلاق لإرسال الكميات الكبيرة والمتزايدة من المساعدات الإنسانية إلى سورية. في البداية، كانت معظم المساعدات التي تدخل إلى البلاد تمرّ عبر دمشق وفق شروط النظام. وكانت قدرة الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية الدولية العاملة من دمشق على الوصول إلى الشمال محدودة. ويُعزى سبب ذلك جزئياً إلى صعوبات لوجستية، وإلى أنّ النظام منع تسليم المساعدات عبر خطوط النزاع (أي المساعدات التي تُرسل إلى دمشق أوّلاً ثم إلى مناطق المعارضة عبر الخطوط الأمامية، أو خطوط التماس)، ورفض إيصال المساعدات عبر الحدود إلى المناطق الخاضعة لسيطرة الثوّار باعتبار ذلك انتهاكاً لسيادة البلاد، لكن بدءاً من منتصف العام 2013 رزحت الأمم المتحدة للضغوط المتزايدة التي مارستها منظمات غير حكومية دولية كبيرة - مثل أطباء بلا حدود، ومنظمات إغاثة مرتبطة بالمعارضة السورية، وتحالف "أصدقاء سورية"، الذي يضمّ دولاً غربية وعربية داعمة للمعارضة، للسماح بدخول المساعدات عبر الحدود من تركيا من دون الحصول على موافقة مسبقة من النظام. وفي شهر تموز (يوليو) 2014 أصدر مجلس الأمن الدولي القرار رقم (2165)، الذي أجاز دخول المساعدات المُرسلة من دول عدّة، بما فيها تركيا، عبر الحدود من دون موافقة الحكومة السورية.

 

احتكرت تركيا بعض القطاعات كالتعليم والصحة والإدارة المحلية والمساعدات الإنسانية، وهذه بعض المكتسبات التي تحاول أنقرة الاحتفاظ بها

 

شكّلت هذه الخطوة تحوّلاً رئيساً، إذ وضعت الأساس القانوني لعمل الأمم المتحدة مباشرةً في المناطق غير الخاضعة لسيطرة النظام، وربما الأهم أنّها منحت غطاءً قانونياً لمنظمات كانت تقدّم مثل هذه المساعدات عبر الحدود بشكل أو بآخر. 

سهّلت أنقرة من جهتها عملية تسليم المساعدات من خلال السماح لجنوب تركيا بأن يصبح مركزاً للعمليات العابرة للحدود من دون فرض الكثير من القيود والتنظيمات على المنظمات غير الحكومية الدولية. وساهمت أيضاً في تنظيم عملية تسليم المساعدات إلى سورية، في ما سُمّي بـ "عملية النقطة صفر"، التي جسّدت الدور التيسيري الذي لعبته تركيا. 

وفي العام 2014 بدأت تركيا تدريجياً في الانخراط بشكل مباشر أكثر في مسألة المساعدات الإنسانية، واتّضح لاحقاً أنّ السبب هو أنّ أنقرة كانت تسعى للإشراف على الإمدادات. 

إلى جانب الحملات العسكرية التركية في مناطق الشمال السوري، عزّزت أنقرة أدوارها في مجالات عدة، مثل المساعدات الإنسانية وإرساء الاستقرار والحوكمة، فقد رُبطت المناطق الخاضعة لسيطرة تركيا في سورية بأقرب ولاية تركية، وتولّى الولاة المعنيون إدارة كل منطقة بحكم الأمر الواقع. فعلى سبيل المثال، وبعد فترة وجيزة من انتهاء عملية درع الفرات، قامت رئيسة بلدية غازي عنتاب بزيارة جرابلس، مشيدةً بنجاح بلادها في تحسين الخدمات البلدية. وأصبحت مثل هذه الزيارات للمسؤولين الأتراك، بمن فيهم مسؤولون رفيعو المستوى، مثل وزير الداخلية، شائعة وعبّرت عن نفوذ تركيا المتنامي في المنطقة.

أصبحت المعابر الحدودية مع تركيا البوابة الأساسية إلى خارج سوريا، لحركة الأشخاص ووصول المساعدات الإنسانية والسلع التجارية

أمّا على  المستوى العملي، فقد عيّنت السلطات التركية "مساعدين للولاة" ليكونوا وسطاء بينهم وبين المجالس المحلية في سورية. عموماً، يتمتع هؤلاء المسؤولون الأتراك بسلطة قوية على السكان المحليين.

الجدير بالذكر أنّ بعض القطاعات تخضع لإشراف الوزارات التركية المعنية بشكل مباشر، ويعمل موظفوها بالتنسيق مع الموظفين السوريين المحليين والهيئات التركية التي تعمل في سورية. فعلى سبيل المثال احتكرت تركيا بعض القطاعات منذ فترة 2016-2017 مثل التعليم والصحة في منطقة درع الفرات، فضلاً عن إدارة المخيمات في مناطق أخرى، خصوصاً في عفرين ونبع السلام. إضافةً إلى ذلك يشكّل القطاع الخاص التركي جزءاً لا يتجزأ من جهود تركيا لإرساء الاستقرار في شمال سورية. فقد نفّذت شركات البناء التركية مثلاً مشاريع سكنية وأخرى للبنى التحتية. كذلك يشكّل قطاع الاتصالات مجالاً آخر تستثمر فيه الشركات التركية الخاصة من خلال شركاء محليين مختارين بعناية يتولّون إدارة الأعمال من الجانب السوري.

وفي النهاية؛ تبقى مشكلة تقسيم أراضي الدولة السورية معلقة إلى حين الاتفاق على إطار معيّن مع تركيا، التي أصبحت تتعامل مع بعض المناطق السورية على أساس أنّها جزء كبير من مكتسبات أنقرة الاقتصادية والسياسية، وأحد السيناريوهات المطروحة لحلّ أزمة اللاجئين السوريين. 

مواضيع ذات صلة:

الانشقاقات في الفصائل المسلحة في الشمال السوري... تفكك أم إعادة ترتيب الصفوف؟

إسرائيل تقصف دمشق... والأسد يرد على المدنيين في شمال غربي سوريا

سوريا والعراق: صندوق الرسائل السياسية في زمن الصراعات الإقليمية




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية