الحرب الروسية الأوكرانية: هل أعادت العالم إلى التوحش؟

الحرب الروسية الأوكرانية: هل أعادت العالم إلى التوحش؟


19/03/2022

كتب الباحث السوري جاد الكريم الجباعي على حسابه الشخصي في "فيسبوك": "الحرب نكوص إلى الهمجية؛ والجيوش مدارس للتربية على التوحش. ربما كانت الهمجية أطول مرحلة في تاريخ الجنس البشري، لذلك تظل رواسبها ثاوية في لا وعي البشر وفي وعيهم وممارستهم".

لفت نظري في المنشور جملة "ربما كانت الهمجية أطول مرحلة في تاريخ الجنس البشري" فـ "ربما" هنا تدل على احتمال، من جملة احتمالات كلّها قابلة أن تكون قائمة بالفعل، وكأنّ الجباعي أراد أن يقول إنّ الهمجية باتت واقعاً محققاً في بلدان "الربيع العربي"، وفي العراق ولبنان، وكما هي اليوم في الحرب التي تشنها السلطة الروسية على شعب مسالم، تقول إنه يرتبط بالشعب الروسي بأواصر متينة، وكأنها مثل أي سلطة تشن حرباً على شعبها.

 يكفي أن ترتفع أسعار الوقود وأسعار الحبوب لترتفع أسعار معظم السلع، في كل مكان ويزداد فقر الفقراء والمُفقرين عمداً وجوع الجائعين والمجوَّعين عمداً

بل إنّ خلف العدوان الروسي على أوكرانيا وردود الفعل الأوروبية والأمريكية عليها، حرباً اقتصادية شاملة سوف تلفح بنارها (الباردة) جميع سكان الكوكب، ولا سيما الفقراء والمهمشين منهم، إذ يكفي أن ترتفع أسعار الوقود وأسعار الحبوب لترتفع أسعار معظم السلع، في كل مكان ويزداد فقر الفقراء والمُفقرين عمداً وجوع الجائعين والمجوَّعين عمداً. الحيوانات المفترسة تقتتل على الفريسة ويحظى منها كل قوي بحسب قوته، هكذا قد يكون العالم، بسبب توحش الكبار، الأقوياء، المدججين بأسلحة التدمير الشامل.

إقرأ أيضاً: مع تصاعد التوتر في أوكرانيا.. ما احتمالية حدوث حرب نووية؟ وما تداعياتها؟

التاريخ البشري قابل للانعكاس، كما يقول الجباعي، في أحد منشوراته على "فيسبوك"؛ أي إنّ العودة إلى الهمجية ممكنة، بل قد تكون مؤكدة، بدليل انتكاس أوروبا نفسها، إلى الفوضى والاضطراب والهمجية بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية والغرق في عصور الظلام، وانتكاس روسيا نفسها إلى المافياوية واللصوصية بعد سقوط الاتحاد السوفييتي؛ ولعل الحرب على أوكرانيا من ارتدادات ذلك السقوط. 

 الحيوانات المفترسة تقتتل على الفريسة ويحظى منها كل قوي بحسب قوته، هكذا قد يكون العالم، بسبب توحش الكبار، الأقوياء، المدججين بأسلحة التدمير الشامل

ليس من تفسير لممارسة حكام الشرق سوى الهمجية التي يستثيرها تمدن العالم الغربي المتمدن، فتعمل ما في وسعها لكي تشده إلى الخلف، بخيار شمشوني؛ أي بتهديم المعبد على رؤوس الجميع. يبدو أنّ الشرق كمريض فعلاً بالغرب، كما لاحظ المفكر الراحل جورج طرابيشي، ولا تفسير لهذا المرض سوى الشعور بالدونية والعجز عن إنجاز شي يستحق التقدير. ويجب ألا يفهم أنّ التوحش مقصور على الشرق وحكامه ونخبه وأحزابه الشمولية وحرسه الثوري.. فالغرب ليس بريئاً من التوحش، ولا سيما حين يحمي أنظمة متوحشة، ويعجز عن السيطرة على شركاته التي تعمق تبعيته لأنظمة متوحشة، في سبيل مراكمة أرباحها من النفط والغاز، مع أنّ في مقدوره الاستغناء عن مصادر الطاقة القاتلة والملوثة للبيئة لولا هذا الإغراء. من حق الإنسان أن يتساءل: لم هذا الارتهان للدول المصدرة لمولدات الطاقة إذا كان بالإمكان الحصول على طاقة نظيفة من موارد محلية؟ 

إقرأ أيضاً: أيُّ فرص لدول الخليج من الحرب الروسية-الأوكرانية؟

يتفق كثير من المحللين والكتاب على أنّه لولا تراخي الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة إزاء ضم شبه جزيرة القرم عام 2014، ولولا إرخاء الحبل لفلاديمير بوتين في سوريا، وليبيا وغيرها لكان من الصعب أن يتجرأ بوتين على غزو أوكرانيا. إنّ صفقة الكيماوي بين بوتين وأوباما وكيري ولافروف هي الجريمة التي مهدت لجريمة غزو أوكرانيا، وتقتضي المسؤولية الأخلاقية والقانونية ألا تمر تلك الجريمة وهذه الجريمة بلا عقاب.

لم تفاجئنا الحرب الروسية على أوكرانيا، فنحن السوريين والسوريات نعيش، منذ عقد ونيّف، مع الحرب وفي داخلها، وكانت روسيا من الدول الداعمة للحرب في سوريا، ومنذ عقد ونيّف ونحن نعيش النكوص إلى الهمجية وإلى ما قبل الدولة وقد يكون إلى ما قبل نشوء المجتمعات المدنية، ما يفاجئنا هو هذا التوحش الذي افتتحت به الألفية الثالثة للميلاد، هذا التوحش لا يكون مستبطناً إن لم يكن من الطبيعة البشرية، ولم تستطع الثورات الصناعية والتطورات التقنية في العالم أن تُخرج من أعماق الإنسان الوحشية الذي كان يعيشها كي يبقى مستمراً في الحياة، والتي ظهرت في الحرب الروسية على أوكرانيا، وقبلها في العالم العربي، ابتداء من مصر وانتهاء بسوريا ولبنان وغيرهما. 

 اختلال العالم بهذا الشكل المرعب، لا بد أن ينتج عنه توحش مرعب أيضاً، ولا بد أن ينتج عنه الإرهاب والتطرف والتعصب على جميع مستويات الحياة العامة

من الواضح من خلال هذا التوحش الذي تمارسه السلطات السياسية العالمية على شعوبها أنّ الإنسان لم يعمل طيلة 3 آلاف عام على التحسن الذاتي والأخلاقي، بل على التحسن العقلي، وأقصد العقل المتملك، والمسيطر، الذي لا يقبل الحرية للأفراد والمجتمعات، ولا يقبل السلم والسلام، إنما يسيطر سيطرة كاملة على الإبداع الإنساني.

قد يقول قائل إنّ صناعة الأسلحة إبداع عقلي، نعم هو كذلك، لكنه ليس إبداعاً عقلانياً، وإنسانياً؛ أي لا يخدم المصالح الإنسانية، ولا يخدم بناء العالم، ولا يحافظ على حقوق الإنسان، إنما هو إبداع يخدم مصالح وزارات الدفاع في الدول المتحكمة في العالم، ويخدم الشركات الكبرى المُنتجة للأسلحة، والتي تسيطر أيضاً على اقتصاد العالم بتجارتها وسياستها الاحتكارية، وعلاقتها بالإرهاب وتفشيه في جميع أنحاء العالم، إضافة إلى دعمها للتطرف الديني والسياسي، ولو من قبيل رد الفعل على تطرفها.

التوحش رديف الإرهاب، وهو ليس فعلاً فحسب؛ إنما هو فكر عابر للحدود، ينتهك عقول الأفراد والجماعات، والدول من ثم، ويعزز الرغبة في سيطرة الجميع على الجميع، وامتلاك الكل للكل، منبعه أيديولوجيات سياسية ودينية، واقتصادية، ومرجعيات متطرفة تبتز الفقراء والمهمشين والمتعطلين في المجتمعات، ونزاعات دولية، ونزاعات داخلية في الدولة الواحدة، والأمثلة كثيرة.

إقرأ أيضاً: حرب أوكرانيا: معارك المعلومات والدعاية المضللة

نضيف إلى ذلك القوة الاقتصادية المتحكمة في قوى الإنتاج العالمية، والاستهلاك اليومي للمجتمعات، تلك القوى أضعفت شروط التبادل الاقتصادي بين الدول الغنية والدول الفقيرة، التي تعيش على تصدير ثرواتها الطبيعية، مثل النفط والغاز والمعادن الدفينة، فاختلال العالم بهذا الشكل المرعب، لا بد أن ينتج عنه توحش مرعب أيضاً، ولا بد أن ينتج عنه الإرهاب والتطرف والتعصب على جميع مستويات الحياة العامة. 

إنّ عصر التنوير في أوروبا، وعصر الحداثة الحالي الذي تعيشه الدول المتقدمة، أرسيا أسس الحياة الكونية، وقد راهن المفكرون والفلاسفة على الممكنات المعرفية والأخلاقية، وابتكار مسار جديد يرتكز على الديمقراطية وحقوق الإنسان والعناية بالحياة عامة والحياة الإنسانية خاصة، وتصالح الإنسان مع ذاته ومع الطبيعة، من أجل إنسانية كونية أو كوكبية، لكن الثورات والثورات المضادة والحروب والنزاعات .. أفضت إلى أزمة شاملة ومركَّبة، وقد تنتهي بتدمير هذه "المركبة الفضائية"، الأرض، وساكنيها، وقد تقضي على جميع الإبداعات والعلوم الإنسانية؛ إذا استمر التوحش البشري بهذا الشكل المرعب، وقد يبيد العالم إلى غير رجعة. ربما صار الرهان على السيطرة رهاناً على الموت.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية