الجزائر: أزمة ثقة بين السلطة والمعارضة. من يحاور من؟

الجزائر

الجزائر: أزمة ثقة بين السلطة والمعارضة. من يحاور من؟


04/08/2019

لا أحد من الأطراف المتصارعة في الجزائر، ينكر أنّ البلاد تعيش حالة فراغ سياسي، ودستوري تامّ، وأنّ المَخرج الأوحد للمعضلة الحالية يتمثل في حوار وطني شامل، لكن ثمّة أسئلة ملحّة في حاجة إلى إجابات، تتمثل في: كيف، وبأيّة آلية يمكن الوصول للجهة المشرفة على هذا الحوار، ومن هي الشخصيات التي يمكن أن تحقق قبولاً، حتى لا نقول إجماعاً، لدى الأطراف كافة، سيما أنّ المزاج الثوري العام، لم يعد يثق في خيارات السلطة، حتى إن بدت اقتراحاتها جادة، في بعض الأحيان؟، الدعوة التي أطلقها الرئيس المؤقت، عبد القادر بن صالح، عشية ذكرى الاستقلال، الخامس من تموز (يوليو) الماضي، تضمّنت وعوداً بتشكيل هيئة وطنية مستقلة، تشرف على مجريات الحوار الوطني، تتمتع باستقلالية تامة عن الجهاز الحكومي، ولا تكون المؤسسات النظامية، جزءاً منها، بما فيها الجيش، هذه الوعود وإن بدت مقبولة نسبياً، وتحقق جزءاً من مطالب "الحراك الشعبي"؛ فإنّ أزمة الثقة الناتجة عن التجارب السابقة، ظلت تراود نشطاء الحراك الشعبي؛ حيث تعاطوا مع الوعود بحذر شديد، رغم صدور بعض التصريحات المرحِّبة بالمبادرة من عدد قليل من النشطاء المحسوبين على الحراك.
من يُمثّل مَن؟ تلك هي المعضلة
لعلّ إحدى أهم المعضلات التي يعاني منها الحراك الجزائري؛ غياب التأطير الواضح للفعل الثوري، سواء على مستوى التعاطي مع المبادرات المطروحة، أو على مستوى تقديم اقتراحات بديلة، من خلال شخصيات وازنة، أو قنوات إعلامية تعبّر عن الحراك؛ حيث يجري كلّ شيء في الساحات العامة، (كلّ جمعة)، في غياب نُخب تحظى بتمثيل الجماهير العريضة، وتعبّر عن آرائها وتطلعاتها؛ أي إنّ الحراك الشعبي، حتى اللحظة، لم يبتكر آليات تعبير مناسبة، ولم يتحول إلى جهد منظم ومنضبط، تشرف عليه شخصيات أو هيئات ثورية، تعنى بترتيب أوراقه وأولوياته القصوى، مما يضاعف من صعوبة التوصل إلى أرضية مشتركة، للحد الأدنى من التوافق!

اقرأ أيضاً: الجزائريون يلوّحون باتخاذ هذه الإجراءات التصعيدية
وبالتالي؛ فإنّ "المبادرة الرئاسية"، ظلّت تراوح مكانها، حتى تبادر السلطة باقتراح الأسماء المرشَّحة لقيادة الحوار المنشود!
وبدت تلك النقطة بمثابة الاختبار الأول، في رأي ناشطي الحراك، لمدى جدية السلطة في مسعاها، بجانب نقاط أخرى، تتعلق بتعاطيها مع المظاهرات، وانفتاحها على الإعلام، علاوة على مطلب إطلاق سراح المعتقلين على خلفية مشاركتهم في الاحتجاجات.

د. ناصر جابي أستاذ علم اجتماع ومرشح سابق للجنة الحوار الوطني
وبإعلان السلطة الأسماء المقترحة لعضوية اللجنة، بدأت الاحتجاجات تصدر من أسماء محسوبة على الحراك.
وفي هذا الصدد، يؤكّد الدكتور ناصر جابي، أستاذ علم اجتماع، لـ "حفريات"؛ أنّ مؤسسات رسمية تواصلت معه للتشاور حول اقتراح اسمه لعضوية اللجنة، ويضيف جابي: "أبديت موافقتي المبدئية، كشخصية وطنية مستقلة، ولجهة إيماني الراسخ، بضرورة بدء حوار وطني شامل، يمثل بادئة أولى للحلّ"، ويوضح جابي موقفه: "كانت موافقتي مشروطة بما أسميه "تنفيذ إجراءات التطمين"، باعتبارها ضرورة ملحة، وبادرة حسن نية من السلطة".

تشكيلة هيئة الحوار المعلَن عنها لا تتمتع بإدراك كافٍ للوضع الذي تعيشه الجزائر وصاحب القرار الرسمي لم يعد قادراً

ويحدّد جابي، تلك الإجراءات؛ بـ "إطلاق سراح شباب الحراك القابعين في مختلف المعتقلات والسجون، الكفّ عن إجراءات التضييق على فعاليات الحراك، وضمان أكبر لحرية التعبير، خاصة عبر فتح القنوات التلفزيون العمومي للرأي الآخر". ويضيف: "لقد تبيين لي أنّ هناك قبولاً رسمياً لتلك الشروط، مما شجعني على الاستمرار في التواصل مع الطرف الرسمي، والتأكيد على ضرورة الاتفاق المسبق على سيادية هيئة الحوار في كلّ ما يتعلق بتشكيلها وقراراتها وأسلوب عملها، قبل انضمامي لها رسمياً، كما بادرت بربط الاتصال مع زملاء ذكرت أسماءهم كأعضاء في هذه الهيئة، منهم: سعيد صالحي، وإلياس مرابط، قناعة مني بأنّ حضورهما في هذا المسعى سيضيف مصداقية على عملها، لما يتمتعان به من خصال وتمثيل قد ينعكس إيجاباً على عمل اللجنة، فضلاً عن إمكانية الحصول على قبول ناشطي الحراك الشعبي".

 أحد أهم المعضلات التي يعاني منها الحراك الجزائري غياب التأطير الواضح للفعل الثوري

أول الغيث نكوص
يؤكّد الدكتور ناصر جابي؛ أنّ الأمور ظلت تسيرُ بسلاسة حتى ليل الأربعاء؛ حيث اتفقت الشخصيات الثلاث مع الجهات الرسمية، وكذلك مع السيد كريم يونس، المُقترح لرئاسة اللجنة، على ضرورة الشروع في تنفيذ "إجراءات التطمين"، كما كلّفت الأخير بالتواصل مع السلطة والوقوف على تنفيذ الشروط المتفق عليها، قبل إعلان تشكيل اللجنة للرأي العام، إلا أنّ طارئاً ما حدث وغيّر المسار؛ حيث التقى كريم يونس صباح الخميس، الرئيس المؤقت بصحبة أسماء جديدة مقترحة لعضوية اللجنة!

اقرأ أيضاً: من هي الشخصيات الجزائرية الست التي ستقود الحوار؟
ويوضح جابي: "لقد فوجئنا بوجود وجوه جديدة، تمّ ضمّها دون علمنا، رافقت رئيس اللجنة في لقائه برئيس الدولة، وهو اللقاء الذي كنا قد تحفظنا عليه قبل الإعلان عن تأسيسنا، ووضع برنامج عملنا، على الأقل في خطواته الأولى، دون أن يمنعنا هذا من التواصل لاحقاً مع كلّ مؤسسات الدولة، وكلّ الأطراف التي يمكن أن تساعد الهيئة في عملها".
ويعرب جابي عن خيبة أمله، فيما يراه نكوصاً رسمياً، مؤكداً "تُعبّر تشكيلة الهيئة المعلن عنها، من وجهة نظري، عن عدم إدراك كاف للوضع الذي تعيشه الجزائر بعد 22 شباط (فبراير)، وصاحب القرار الرسمي لم يعد قادراً على تجاوز الثقافة الرسمية للنظام القديم، في ممارساته وليس في أقواله فقط".

اقرأ أيضاً: شروط الأحزاب المعارضة الجزائرية للمشاركة في الحوار
ويؤكّد جابي:" أمام هذا الوضع، اضطررت للانسحاب من عضوية اللجنة؛ حيث إنّ المقدمات تشي بالمسار والنتائج"، ويعرب جابي في حديثه لـ "حفريات" عن أنّه "واثق تماماً في أنّ الجزائريين الذين ظلوا يعبرون عن تجنّدهم السلمي والوطني منذ شهور، قادرون على انتزاع مطالبهم، بكلّ سلمية"، ويختم جابي إفادته بالقول: "أتمنى لزملائي في اللجنة الوطنية للحوار أن يتجاوزوا الوضع الحالي، ويمضوا في مسعاهم الذي يتوقف في جزء كبير منه على مدى قدرة النظام السياسي على القبول بمطالب الجزائريين".   
حوار في غياب ضمانات حقيقية!
من جهته، يرى الصحفي رضا شنوف؛ أنّ "خطاب رئيس الدولة وإعلانه عن تشكيل هيئة للحوار، لا يمثل إنجازاً في حدّ ذاته، إن لم يتبع بإجراءات فعلية، تحقق الحدّ الأدنى من شروط الحراك، وعلى رأسها؛ رحيل رئيس الحكومة الحالي، وعدد من الوزراء الذين يعدّون امتداداً لنظام بوتفليقة".

رضا شنوف صحفي ورئيس القسم الدولي بجريدة الخبر
ويضيف شنوف: "السلطة، حتى الآن، لم تقدم ضمانات حقيقية تجعل الحوار، أو التحضير له، أمراً ممكناً، كما أنّها لم تسعَ بشكل كافٍ لنيل ثقة الشارع، مما خلق شكوكاً حول نواياها الحقيقية، وأضحى الشارع المنتفض يطرح أسئلة كثيرة، من قبيل: هل النظام فعلاً يريد حواراً يضمن انتقالاً فعلياً للسلطة، أم مجرد مناورة للالتفاف على مطالب الشعب؟".

اقرأ أيضاً: صفقة رئاسة البرلمان تعمق خلافات إخوان الجزائر
ويرفض شنوف اختزال الجدل الدائر حالياً في دائرة وماهية الشخصيات المقترحة لإدارة الحوار، ويوضح: "الخلاف الحالي ليس على الشخصيات فحسب؛ بل أيضاً حول طريقة اختيارها، والجهات التي عينتها؛ حيث يكشف هذا الأمر تناقضاً بين الخطاب والواقع"، ويضيف: "تعيين شخصيات لم تنتمِ يوماً للمعارضة، ولم يُسمع لها صوت في رفض ممارسات نظام بوتفليقة، لا يعدّ مبعثاً للتفاؤل".
ويوضح شنوف: "أليس غريباً أن تضمّ لجنة الحوار في عضويتها، أحد مهندسي دساتير بوتفليقة، الذي ساهم في صياغة دستور، تمّ من خلاله تركز كلّ الصلاحيات بيد الرئيس، خلافاً لكلّ الدساتير السابقة، والمصادق عليها منذ بداية التعددية السياسية، عام 1989".

نعم للحوار... ولكن!
ويرى شنوف؛ أنّه "لا مفرّ من الحوار الوطني الشامل والشفاف، وبالحوار فقط يمكن أن تحلّ الأزمة الحالية، لكن ليس بالطريقة المعتمدة حالياً، أو بالإخراج الذي تريده السلطة منفردةً"!
ويضيف شنوف: "هناك تجربة في السودان؛ حيث حدث تقدّم كبير في مسار الحوار الوطني مقارنة بالجزائر، واستطاعت المعارضة أن تشكل فريقها المفاوض وتجلس مع المجلس العسكري، لتنقل مطالب الشعب، وقد تفاوضت وحققت اتفاقات حول قسمة السلطة والثروة، وهناك قضايا ما تزال على طاولة التفاوض، لكنّ الأمور تسير، على عكس الوضع في الجزائر؛ حيث لا ندري مَن عيّن اللجنة، ووفق أيّة معايير، سيما أنّ عدداً من أعضاء اللجنة لا يلقون قبولاً؛ بل هم مرفوضون وذوو سوابق مع نظام بوتفليقة، وحتى الأسماء التي تمّ اقتراحها لاحقاً لتضاف للقائمة، بغرض توسيع وتنويع اللجنة، أثارت هي الأخرى جدلاً واسعاً، وبعضها رفض العرض لأسباب تتعلق بعدم استقلالية عمل اللجنة"!

الحراك الشعبي لم يبتكر آليات تعبير مناسبة، ولم يتحوّل إلى جهد منظم تشرف عليه نخب تعنى بترتيب أوراقه وأولوياته

وفي ردّه على سؤال التمثيل، وعدم إفراز الحراك لأسماء يرى أنّها تُعبّر عن مواقفه، يقول شنوف: "هذه الفرضية صحيحة إلى حدّ ما، فلسوء الحظ، لم يتفق الحراك، حتى الآن، على شخصيات معينة لتمثيله؛ فكلّما طُرحت شخصية ما، لقيت رفضاً، والبعض طعن حتى في مصداقيتها، وعلاقتها بالحراك؛ فالكرة اليوم مثلما هي في ملعب السلطة، المطالَبة بإظهار حسن نيتها، هي أيضاً في ملعب الحراك، الذي ينبغي أن يكون في مستوى اللحظة التاريخية التي نعيشها اليوم، وتقع عليه مسؤولية تاريخية في أن يخرج من الأطروحات العدمية، ويتوافق على شخصيات معينة تمثله وتمثل كل مشارب وخلفيات المجتمع، لتكون هي ممثله في الحوار مع السلطة، وإلا بقينا في حلقة مغلقة، قد تسمح للنظام بأن يستعيد عافيته، ويسترجع روح المبادرة ويفرض حلوله بطرقه السابقة".

اقرأ أيضاً: أهم أحداث الساحة الجزائرية

ويستدرك شنوف: "لكن أيضاً علينا الاعتراف بأنّ كلّ ما نعيشه اليوم في الجزائر، هو ناتج موضوعي لأزمة الثقة التي تكرست على مدار عقود طويلة، فالسلطة لم توفر جهداً للنكوص بتعهداتها والتزاماتها تجاه الشعب، وبالتالي؛ الحراك لديه مبررات كافية في ألا يثق في السلطة، والسلطة لا تبذل جهداً كافياً لإظهار حسن نواياها، خاصة فيما يتعلق بالتضييق على الحراك، وعلى وسائل الإعلام، وفي المقابل؛ هناك أزمة ثقة داخل الحراك، وعدم اتفاق حول الشخصيات التي تمثله، وهذا وضع مركّب يحتاج إلى معالجات خاصّة وجدية، تستصحب تداعيات هذه الأزمة المزمنة، فمن غير المعقول أن تحاور السلطة كلّ الشارع، وحريّ بالحراك اليوم أن يتجاوز العقدة التاريخية تجاه السلطة، ويتقدم خطوة نحو منح الثقة لممثليه والتوقف عن رفض أيّة شخصية؛ لأنّها لا تتوافق وانتماءات أو أفكار طيف من أطياف المجتمع، وحينها يمكن أن نختبر جدية السلطة، ومدى مصداقيتها تجاه المبادرة، على أن يبقى الشارع حياً ومستمراً في حراكه؛ لأنّه الضمانة الوحيدة لتحقيق مطالبه من جهة، ووسيلته للضغط على السلطة وإجبارها على تقديم التنازلات من جهة أخرى".



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية