الانسحابات الأمريكية.. مَن غير إيران يملأ فراغ الخراب؟

الانسحابات الأمريكية.. مَن غير إيران يملأ فراغ الخراب؟


12/07/2021

بعد الكثير من الحروب والأزمات والصراعات، وخلق بؤر التوتر، وتحويل دول كاملة إلى فوضى، تتوصل الولايات المتحدة الأمريكية أخيراً إلى قرار التخلي عن فكرة "الحروب الأبدية"، تلك الحروب التي قدمت لها الأسباب والدوافع، وخلقت لها الظروف والبيئة، وزوّدتها بالرصاص والبارود، وعملت على تحضير عناصر الاستدامة لها كي تظل مستعرة.

لقد كدنا نتوصل إلى فكرة أنّ الحرب هي بحد ذاتها مؤسسة من المؤسسات الأمريكية التي بقدر ما تقدم لها من تعزيزات ودعم، بقدر ما توفر لها مصالح كبرى على المستوى المادي والمعنوي.

تكاد الحروب أن تكون مؤسسة من المؤسسات الأمريكية توفر لها مصالح كبرى على المستوى المادي والمعنوي

لكن الولايات المتحدة الأمريكية كانت تتوصل دوماً إلى نتيجة حتمية، أنّ هذه الحروب الطويلة يجب أن تنتهي، لماذا..؟، لأسباب متعلقة حتماً بمصالحها، وليس بمصالح دول الصراعات والأزمات والحرب، والدليل على ذلك تصريح الرئيس الأمريكي جو بايدن بأنّ بلاده وجيوشه ومقاتليه "لم تذهب إلى أفغانستان لبناء دولة"، لهذا اتخذ قراراً بالانسحاب منها دون أي التفات إلى محصّلة ما خلّفته عساكره هناك، وهذا ما يمكن تطبيقه على العراق أيضاً، فقد انسحبت منه وتركته في مواجهة حالة عصية من الفوضى وتنازع مصالح الطبقة السياسية المرتبطة حتماً بخيوط أمريكية أو دولية.

اقرأ أيضاً: ملامح المشهد الأفغاني بعد الانسحاب الأمريكي

لقد دخلت أمريكا كلاً من أفغانستان والعراق بمقدمات وأسباب ودوافع ليس مهماً الآن مناقشة موضوعيتها، لكنّ النتائج التي حدثت بالفعل على أرض الواقع، متشابهة إلى حد بعيد، لا يوجد استقرار سياسي، ولا أمني، وما تزال هنالك قوى وطائفيات وميليشيات بإمكانها أن تضبط إيقاع الصراع الداخلي وفق المستوى المرغوب من الفوضى. هذه الفوضى التي يزعم بايدن أنّه لا علاقة له ولا لقواته بها، فقد ذهب إلى أفغانستان من أجل تحديات الإرهاب والتطرف، وقد حقق ذلك، كما يزعم، أما ما عدا ذلك فهو لأسباب متعلقة بوجود فساد لدى جميع الأطراف في أفغانستان.

اقرأ أيضاً: واشنطن تبحث شن ضربات جوية على كابول بعد الانسحاب... لماذا؟

كان بايدن صادقاً مع نفسه إلى حد كبير، حين قال إنّهم لم يذهبوا لإقامة دولة، لكنه لم يكمل؛ إنّه أيضاً لم يترك خلفه أي حل، ورغم الحرب التي خاضها طيلة عشرين عاماً، إلا أنّه ينسحب دون أي إعلان عن أي انتصار متحقق، الشيء الوحيد الذي تحقق هو الفوضى واستدامة الصراع.

دخلت أمريكا أفغانستان والعراق بمقدمات ودوافع مختلفة لكنّ النتائج على أرض الواقع متشابهة إلى حد بعيد

على مدار عقدين من الزمان منذ بداية الألفية الثانية خاض رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية "بوش وأوباما وترامب" حروباً كثيرة، في العالم، ضد جماعات الإرهاب والتطرف، حسب قولهم، لكنه يتضح فيما بعد أنّ هذه الحروب ذهبت بتلك الدول إلى حالة الفوضى، وجاءت بجماعات التطرف والإرهاب لكي تستمر، فما تزال طالبان موجودة، وما تزال داعش قادرة على إعادة إنتاج نفسها، والميليشيات الإيرانية تتوزع على خريطة تلك الدول بقوة.

سياسيون أفغان يحذرون من كارثة وحرب أهلية في بلادهم، وسياسيون عراقيون يحذرون أيضاً من كثير من الأمور منها الفساد والانفلات الأمني وغياب السياسات وسوء الاقتصاد، وتجاوزوا التحذير من الذهاب للفوضى، إلى الخوف من الذهاب للمجهول.

عبارة بايدن الشهيرة "لم نذهب لصناعة دولة"، عبارة صحيحة في أفغانستان والعراق وفي سوريا وليبيا أيضاً مع الحلفاء والقوى الشريكة، إنّها تعني "نحن ذهبنا لصناعة دولة فاشلة".

اقرأ أيضاً: بعد الانسحاب الأمريكي: هل تغرق أفغانستان مجدداً في وحل الحرب؟

لم يتحدث بايدن عن "إيران" وأنّها تشكل على أرض الواقع علامة تجارية للسياسة الأمريكية، ففي كل مكان تدخله أمريكا وتخرج منه بلا هزيمة أو انتصار، تتواجد إيران بقوة، أو ربما تحل محلها، فتأثيرها في أفغانستان، منذ أول دخول لقوات أمريكية إليها وحتى اليوم، كبير ومتنامٍ، وقد انتقلت إيران على سبيل المثال تجاه طالبان من العداء إلى التحالف، وأذرعها الميليشياوية، حادة وضاربة، ومنها على سبيل المثال "فاطميون"، والمفارقة العجيبة أنّها ميليشيا شيعية إيرانية باسم أفغانستان ومقاتلين أفغان تعمل على الأرض السورية.

كان بايدن صادقاً مع نفسه إلى حد كبير حين قال إنّهم لم يذهبوا إلى أفغانستان لإقامة دولة

إيران تمتلك قوة إستراتيجية مهمة، وهي بالإضافة لبرنامجها النووي الذي تديره باحتراف سياسي ودبلوماسي كبير، لديها أوراق إقليمية حاسمة، في المناطق التي تعاني الفوضى بالمفهوم الأمريكي، ولكنها بالمفهوم الإيراني فوضى خلاقة؛ ففي دول الاستقرار والاستقرار النسبي لا يوجد أي نفوذ لإيران، لكن في دول الفوضى السياسية والعسكرية والميليشياوية في مناطق النفوذ الخماسي في العراق وسوريا ولبنان واليمن وأفغانستان، ينمو هذا النفوذ بشكل خطير، بمعزل عن أية عقوبات لم تحقق غاياتها، أو دعوات لم تخرج عن إطار التمنيات، ومنها الدعوة الأمريكية لتعديل سلوك إيران الإقليمي، وكل ما حققته إيران من نفوذ لا يمكن أن تتخلى عنه بسهولة، وتديره بشكل متفوق على الطموحات الأمريكية نفسها، ففي حين ترغب أمريكا في التعامل مع مجمل التهديدات الإيرانية كملف واحد،  "السلاح النووي والصواريخ الباليستية والنفوذ والسلوك الإقليمي"، إلا أنّ إيران تنظر وتتعامل وتفاوض على كل ملف بشكل منفصل. بما يحقق لها توزيع خريطة الضغوطات عليها، والوصول إلى مكتسبات متعددة تبعاً لتعدد الملفات.

اقرأ أيضاً: صعود داعش في أفغانستان.. ما علاقة الانسحاب الأمريكي؟

لا أرى أية فرص ممكنة على المدى القريب بتحقيق تقدم في تعديل سلوك إيران، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ المشروع الإيراني شديد الاتصال بالمشروع الغربي برمته في المنطقة والإقليم، ليس لأنّ الغرب أراد ذلك، أو لم يرد، بل لأنّ إيران أرادت ذلك بالمعنى الحرفي للإرادة، ومخلفات المشروع الغربي من فوضى وأزمات وحروب هي عناصر بناء النفوذ الإيراني.

بالمحصلة، لا أريد أن أقول إنّ إيران العدو الأكبر للغرب وأمريكا تحديداً، ولا أنّها صنيعة الغرب وأمريكا، وأنّها شريكة استراتيجية في كل ما يحدث، تلك مسألة جدلية للإلهاء والعبور إلى أفق المصالح الغالبة.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية