الإمارة المشعشعية... حكاية دولة عربية قاومت الغزوَيْن الصفوي والعثماني

الإمارة المشعشعية... حكاية دولة عربية قاومت الغزوَيْن الصفوي والعثماني

الإمارة المشعشعية... حكاية دولة عربية قاومت الغزوَيْن الصفوي والعثماني


31/10/2024

على امتداد قرابة 4 قرون ونصف، وفي مناطق الأحواز وجنوبيّ العراق، حكمت إمارة المشعشعين العربية، واستطاعت الحفاظ طوال أكثر عهودها على استقلالها عن كلٍّ من الدولة العثمانية، والدول الإيرانية المتعاقبة (الصفوية، والأفشارية، والقاجارية)، وباتت حكايتها بذلك فصلاً أساسياً من فصول تاريخ الحكم والسيادة العربية بالعصر الحديث، في المناطق الممتدة من الأحواز إلى العراق إلى الخليج العربي.

التأسيس... السيّد الذي وحّد قبائل العرب

في أعقاب الاجتياح المغولي للمشرق خضعت مناطق وسط وجنوب العراق لحكم الدولة الإيلخانية، التي كانت تحكمها سلالة مغولية من أبناء هولاكو. ومع بدء تهاوي هذه الدولة استولى الجلائريون -وهم سلالة أخرى من المغول- على الحكم في العراق وأجزاء من إيران، وكان ذلك في العام 1336م. إثر ذلك تقدمت قبيلة "القراقويونلو" التركمانية من الشمال، وأخرجت الجلائريين من بغداد عام 1411م، ومن ثمّ أخضعت كامل العراق لحكمها، وصولاً إلى البصرة، بحدود عام 1432م.

موقع مدينة الحويزة اليوم في إيران... بالقرب من الحدود العراقية

في ذلك الوقت، كان السيد محمد بن فلاح، طالب العلم في مدينة الحلّة، والذي يتصل نسبه بالإمام علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، قد غادر الحلّة (وسط العراق)، واتجه جنوباً لمناطق الأحواز، وهناك تمكن من جمع أعيان وشيوخ القبائل العربية في مناطق الأحواز وجنوب العراق حوله، وأهمها قبائل: بنو تميم، وبنو أسد، وبنو سعد، وبنو لام، والربيعة، والسواعد، والسواري، وبنو ليث، وبنو حطيط.

تمكن محمد بن فلاح من جمع القبائل العربية في مناطق الأحواز حوله مؤسساً الدولة المشعشعية

وليتمّ الإعلان بذلك عن تأسيس إمارة عربية في الأحواز، وكان ذلك في العام 1436م، وقد اتخذ محمد بن فلاح مدينة الحويزة عاصمة لإمارته. وأخذت الدولة اسمها لاحقاً من اللقب الذي لُقّب به محمد بن فلاح، وهو "المشعشع"، ويذكر أنّ سبب تسميته به هو تبرّك الوجهاء من حوله به وكأنّ نوراً يشعّ من وجهه.

سقوط الحُوَيْزة... وفترة من التبعية

أخضعت دولة المشعشعين كامل منطقة الأحواز لحكمها. وبالتزامن مع ذلك، وفي عام 1501م أسّس إسماعيل شاه الصفوي الدولة الصفوية في إيران، فبدأت عندئذ مرحلة من التحدي والمواجهة أمام الدولة، إثر ظهور الصفويين وتوجههم نحو إخضاع مناطق العراق لحكمهم، بما في ذلك المناطق الجنوبيّة المتداخلة مع الأحواز.

وفي عام 1509م، وبعد احتلال بغداد من قبل الشاه إسماعيل الصفوي، توجه جنوباً للصدام مع المشعشعين بهدف الإطاحة بهم. والتقى الجيشان خارج الحويزة في معركة استمرت عدة أيام، وبعد هجوم ليلي باغتت فيه قوات الشاه المشعشعين، تمكّنت من اقتحام الحويزة، وقامت بقتل المولى (الأمير) فياض، حاكم المشعشعين آنذاك، وقتل معه العديد من أمراء المشعشعين.

عام 1509م... احتلّت الحويزة من قبل القوّات الصفوية بقيادة إسماعيل شاه

ونصّب إسماعيل شاه أحد أمراء قزلباش على مدينة دزفول، (أقصى شمال الأحواز)، ليكون حاكماً على كامل منطقة الأحواز. وسمّيت منطقة الأحواز بعد ذلك بـ "عربستان"، أيّ المناطق والأراضي التي تنتشر فيها القبائل العربية، واستمرت أسرة المشعشعين في حكمها للأحواز، ولكن أصبحت تحت سلطة الحكم الصفوي.

الاستقلال من جديد

من جانبهم، كان العثمانيون يسعون أيضاً لاحتلال كامل مناطق العراق، بما في ذلك الأحواز، بهدف إكمال سيطرتهم بذلك على كامل البلاد العربية. وفي أثناء الحرب العثمانية الصفوية خلال الأعوام (1532ـ 1555م)، وبعد أن تمكّن العثمانيون من احتلال بغداد والبصرة، انطلقت حملة عثمانية لإخضاع الأحواز، وكان ذلك تحديداً في عام 1541م. إلّا أنّ الجيش المشعشعي تمكن من التصدي للقوات العثمانية وإلحاق الهزيمة بها.

في عهد المبارك بن عبد المطلب، امتدت الإمارة من الفرات الأوسط شمالاً حتى الأحساء جنوباً

وبالرغم ممّا قد بدا من موقف مُتحالف من المشعشعين مع الصفويين في مواجهة العثمانيين، إلا أنّ تبعية الدولة المشعشعية للدولة الصفوية لم تَدُم أكثر من 8 عقود، إذ تحرّرت وعادت مستقلّةً من جديد.

فما أن بدأ عهد حكم المولى السيد، المبارك بن عبد المطلب، عام 1589م، حتى بدأ حملة لاستعادة استقلال الإمارة، وقد تمكّن بالفعل من طرد الصفويين واسترداد مدن الأحواز الشمالية منهم، والتي كانت مركزاً لحكمهم في الأحواز.

الدولة المشعشعية في أقصى اتساع لها

استمرّ حكم المولى المبارك إلى عام 1616م، واعتبر عهده عهداً ذهبياً لإمارة المشعشعين، إذ استطاع استعادة فرض سيطرة الإمارة على كامل الأحواز، ومن ثمّ امتدت إلى مناطق مجاورة، من الفرات الأوسط شمالاً حتى الأحساء جنوباً. وقد تحالف المبارك وخلفاؤه مع البرتغاليين الذين كانت أساطيلهم تهيمن على مياه الخليج العربي في بداية القرن الـ17.

دولة عازلة

وفي الحرب الأخيرة التي وقعت بين الصفويين والعثمانيين، خلال الأعوام (1623-1639م)، وأثناء الإعداد الصفوي لغزو بغداد، طلبوا من المشعشعين التعاون معهم في ذلك، على اعتبار أنّ الدولة العثمانية عدو مشترك لهم من الناحية المذهبية، إلّا أنّ المشعشعين رفضوا الانحياز لأيّ من الجانبين. وبعد هزيمة الصفويين في الحرب، وقّعت "معاهدة زهاب" عام 1639م بين الدولتين، الصفوية والعثمانية، والتي أوقفت المعارك المستمرة بين الدولتين منذ قيام الدولة الصفوية. واعترفت الدولتان في المعاهدة باستقلال الدولة المشعشعية في الأحواز. والراجح أنّ السبب في ذلك الاعتراف هو رغبة الدولتين في إيجاد دولة عازلة تؤدي دور الحجز وتجنيب الصدامات المباشرة بينهما.

الانحدار والسقوط

وبعد زوال حكم الدولة الصفوية في إيران، وصعود حكم السلالة الأفشارية التركمانية، على يد مؤسّسها نادر شاه الأفشاري عام 1736م، تغيّرت السياسة الإيرانية، وتراجع التعامل مع الدولة المشعشعية باعتبارها منطقة عازلة، وذلك مع سعي نادر شاه لتوسعة حدود دولته، فقام بتوجيه حملة ضد الدولة المشعشعية، وتمكّنت بالفعل من احتلال عاصمتها الحويزة وقتل حاكمها محمد بن عبد الله المشعشعي.

جانب من لوحة تصوّر المعارك بين الصفويين والعثمانيين... والتي استمرّت نحو قرن ونصف

لم ينهِ احتلال الحويزة حكم الدولة المشعشعية، إلّا أنه تسبّب في إضعافها، وبدأت بعض القبائل والعشائر في الأحواز وجنوب العراق تتمرّد عليها، وخاصّة مع تزايد الضغط العثماني وقيام العثمانيين بدعم القبائل الموالية لهم بالمنطقة في مواجهة الإمارة، في سبيل مدّ النفوذ والحكم العثماني جنوباً باتجاه الخليج العربي.

في (معاهدة زهاب) اعترفت الدولتان، الصفوية والعثمانية، باستقلال الدولة المشعشعية في الأحواز

وكانت أقوى وأهمّ القبائل التي تمكنت من التمدد على حساب المشعشعين، قبيلة بني كعب، التي تمكّنت من مدّ نفوذها في مناطق حكم المشعشعين تدريجياً على مدى عقود عديدة، منذ تأسيس إمارتهم في المحمّرة (جنوب الأحواز) عام 1690م، وصولاً إلى عام 1888م عندما قام بنو كعب بتوجيه الحملة الأخيرة على معاقل المشعشعين، وقاموا بقتل آخر أمرائهم، مطلب الثاني بن نصر الله.

أدى انهيار دولة المشعشعين إلى حدوث تغير في الزعامات والتحالفات العشائرية في مناطق الأحواز وجنوب العراق، وكان سقوطها إيذاناً بظهور عشائر لم يعد في ذمتها أيّ ولاء لأيّ دولة أو تحالف، ما أدّى إلى إذكاء ونمو قوّة العشائر والحالة العشائرية، وبتأثيرات استمرّت حاضرة على امتداد التاريخ العراقي المعاصر حتى اليوم.

حدود إمارة بني كعب في المحمرة على الخليج مطلع القرن الـ19

الصفحة الرئيسية