الإسلام والعلمنة في فرنسا

الإسلام والعلمنة في فرنسا


27/03/2021

محمد السماك

في ذكرى مرور 115 عاماً على صدور قانون العلمنة في فرنسا، صدَرَ قانون جديد ملحق به يتعلق تحديداً بمسلمي الدولة. يؤكد القانون الجديد على ثلاثة مبادئ أساسية عامة: المبدأ الأول هو حرية الإيمان. المبدأ الثاني هو حرية اللاإيمان. أما المبدأ الثالث، فهو حياد الدولة.
يتماهى الإسلام مع المبادئ الثلاثة. فالمبدأ الأول يضمن للمسلم حرية الإيمان وحرية ممارسة شعائره الدينية. ويترجم المبدأ الثاني ما يقول به الإسلام من أنه «لا إكراه في الدين» و«لكم دينكم ولي ديني». كذلك، فإن المبدأ الثالث الذي يقول بحيادية الدولة يجد تعبيراً عنه في الإسلام الذي لا يقول، ولم يقل أبداً، بالدولة الدينية. فنظام الحكم، أي نظام سياسي، هو حصيلة جهد إنساني لمعالجة قضايا إنسانية عامة. والناس أعلم بشؤون دنياهم.
إذن، لا مشكلة بين مسلمي فرنسا والقانون الجديد من حيث المبدأ. المشكلة في التفاصيل. من هذه التفاصيل مثلاً منع تدريس الدين حتى في البيوت. فالقانون الذي يحظر التدريس الديني في المدارس والمعاهد الخاصة والعامة، يعتبر التدريس المنزلي التفافاً على القانون ومخالفة له يعاقب عليها. وينطلق هذا الاعتبار من أن تدريس الدين - أي دين - هو مخالف لسياسة الدولة في تكوين أجيال مؤمنة وملتزمة بالعلمنة أو باللادينية. ومن هنا تعتبر الدولة أن التعليم المنزلي هو التفاف على قانون العلمنة وتحدٍّ للاستراتيجية التربوية الوطنية العامة للدولة.
قد يبدو هذا الموقف التشريعي مستغرباً. ولكن الظروف السيئة تولد تشريعات سيئة. والتشريع الجديد يصدر في وقت سيئ، بل بالغ السوء. من مظاهر ذلك:
أولاً: بين عام 2012 و2018 توجّه من فرنسا للعمل مع الجماعات الإرهابية في سوريا ما مجموعه 2000 مواطن فرنسي مسلم. فكيف تمّت عملية غسل أدمغة هؤلاء حتى يتجندوا للقتال في صفوف منظمة إرهابية؟
ثانياً: وقعت في فرنسا سلسلة من العمليات الإرهابية باسم الإسلام، يزيد عدد ضحاياها على 250 شخصاً. وكان آخرها في باريس (قطع رأس المدرّس باتي)، والتفجير الإرهابي الذي استهدف إحدى الكنائس في مدنية نيس. فكيف ومن يتولى غسل أدمغة مسلمين في فرنسا لارتكاب هذه الجرائم؟
ثالثاً: يقول استطلاع للرأي العام الفرنسي إن 79 بالمائة من الفرنسيين يعتقدون أن «الإسلام في حالة حرب» مع فرنسا. فكيف يمكن للإنسان الفرنسي غير المسلم أن يثق- أو في الحدّ الأدنى- أن يتعايش مع المواطن الفرنسي المسلم.. إذا كان ينظر إليه وكأنه قنبلة موقوتة؟
أدّت هذه المظاهر السلبية إلى خلق هوّة بين الفرنسيين المسلمين وغير المسلمين. من أجل ذلك وصف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مجتمع المسلمين في فرنسا بأنه «مجتمع انفصالي»، بمعنى أنه انفصالي عن قيم ومبادئ وعن طريقة عيش الفرنسيين الآخرين. ومن أجل وضع حدّ لهذه الحالة الانفصالية كان القانون الجديد. وكانت الإجراءات الجديدة وغير المسبوقة في تاريخ فرنسا الحديث. من هذه الإجراءات إقفال 15 مسجداً وأربع مدارس إسلامية، ومنها أيضاً منع التمويل الخارجي لمشاريع إسلامية في فرنسا. وهو ما سبق أن قررته الحكومة النمساوية في العام الماضي.
صحيح أن التمويل الخارجي (أياً يكن هذا الخارج) يربط نشاط (وربما ولاء) المؤسسات الإسلامية الفرنسية بهذا الخارج، وهذه مشكلة حقيقية، خاصة عندما يكون هذا الخارج جهة أو دولة معادية لفرنسا أو في حالة صراع أو خلاف معها. إلا أن المشكلة الأهم والأخطر تكمن في «استيراد» أئمة المساجد ومدرسي الدين من الخارج، سواء كان هذا الخارج دولة أو جمعية أو أي جهة أخرى.
فالإمام «المستورد» يدين بالولاء الأدبي والأخلاقي للجهة التي انتدبته والتي تتحمّل نفقاته، وقد يكون على تناقض مع أسس وقواعد الحياة في المجتمع الفرنسي. من هنا أهمية «التكوين» الذاتي للأئمة المسلمين الفرنسيين. ولكن هذه المهمة لا يمكن أن تقوم بها دولة علمانية. ومن المؤسف أنه لا تستطيع أن تقوم بها أيضاً الجمعيات الإسلامية المحلية (مالياً وثقافياً). وما لم تبتدع وسيلة خاصة للتكوين الذاتي، وللتمويل الذاتي، فإن مجتمعات المسلمين في فرنسا (وكذلك في بريطانيا وهولندا وألمانيا والنمسا وإيطاليا وبلجيكا وحتى في الدول الإسكندينافية) ستبقى تترنّح بين ثقافة العلمنة للانفتاح على شرائح الوطن كله، وثقافاتها الذاتية؛ بمعنى الانغلاق على الذات حتى الاختناق أو حتى التعرض للخنق.
من هنا، ليست القضية هي قضية المسلمين الفرنسيين وحدهم. إنها قضية المسلمين في كل مكان. ذلك أن ثلث المسلمين في العالم الذين يزيد عددهم على مليار و300 مليون إنسان، يعيشون في دول ومجتمعات غير إسلامية (مع الهندوس والبوذيين ومع الإنجيليين والأرثوذكس والكاثوليك وغيرها من المجتمعات العقائدية العديدة الأخرى).
لقد أدرك العلماء المسلمون معنى وأهمية هذا الواقع الجديد فاجتهدوا بتقديم مقاربات حديثة وجريئة، انطلاقاً من اجتهادات فقهية تجديدية تستند إلى «مقاصد» الشريعة. ومن أهم هذه المقاربات: وثيقة مراكش حول المواطنة (صحيفة المدينة المنورة)، ووثيقة الأزهر حول الحريات الدينية، ووثيقة مكة المكرمة حول العيش المشترك، ووثيقة أبوظبي حول الأخوة الإنسانية.
إن الاجتهادات الإسلامية الجديدة التي تتضمنها هذه الوثائق وسواها، ترسي قواعد وأسساً شرعية يمكن البناء عليها لسحب فتائل قنابل التطرف الموقوتة، ولبناء علاقات ثقة واحترام ومحبة بين المسلمين والمواطنين الآخرين في فرنسا (أمّ ثورات الحرية وكرامة الإنسان) وفي دول العالم الأخرى شرقاً وغرباً.

عن "الاتحاد" الإماراتية


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية