الإسلاميون وملف التسفير: قضية فكرية أكثر منها أمنية

الإسلاميون وملف التسفير: قضية فكرية أكثر منها أمنية

الإسلاميون وملف التسفير: قضية فكرية أكثر منها أمنية


25/09/2022

مختار الدبابي

بقطع النظر عمّا ستصل إليه التحقيقات الأمنية من نتائج بشأن المتورطين في موجة التسفيرات التي قادت الآلاف من التونسيين إلى بؤر التوتر مثل ليبيا وسوريا، وهل ستثبت تورط النهضة كحزب أو بعض عناصرها، أو تبرّئها وتبرّئهم، فإن القضية لديها أبعاد أخرى بالنسبة إلى الإسلاميين، وهي البعد الفكري الذي يجعل بعض الحركات والجماعات تعيش على حقيقة أنها فرع أو هامش لمركز موجود خارج القطر الذي تعيش فيه.

وهي حقيقة لا تتوقف على الإسلاميين، بل ارتبطت بالحركات اليسارية والمجموعات القومية الحاملة للفكر العابر للدول والذي يريد تغيير العالم، وارتهان الفرع لأجندات قادمة من الخارج. الآن اليسار كمشروع لم يعد موجودا في المنطقة العربية، والقوميون في مرحلة كمون بسبب الإطاحة بتجاربهم الإقليمية في الحكم، وهم يسعون لتأهيل أنفسهم داخل الدولة القطرية من خلال تحالفات تناقض هويتهم ومبررات وجودهم.

والفارق أن الإسلاميين تحت الأضواء من ناحية، ومن ناحية ثانية أنهم يقدمون أنفسهم بدائل محلية/قطرية، ويسعون لنفي أي ارتباطات خارجية فكرية أو سياسية خاصة ما تعلق بالتنظيم الدولي للإخوان المسلمين. ولعل المثال الأبرز في طريق هذا التحول إلى المحلي هم الإسلاميّون في تونس، وأساسا حركة النهضة التي تدافع عن هويتها المحلية وتنفي أي ارتباط بالخارج.

ولكن كيف يمكن التدليل على مصداقية هذا التوجه، هل تكفي التصريحات الرسمية والبيانات التي تشدد على الهوية المحلية؟ طبعا لا تكفي خاصة لتيار طالما اتهم بالتقية والمناورة وازدواجية المواقف. ولعل أبلغ اختبار هو ردّات الفعل في القضايا المفاجئة التي لا تخضع للتكتيك والبراغماتية والإعداد المسبق مثل موجة “الربيع العربي” التي حررت الإسلاميين من الخوف والحيطة وأطلقوا لتصريحاتهم ومواقفهم العنان دون حساب، خاصة بعد أن نجحوا في تونس ومصر في بداية “الربيع”.

وكانت التغييرات في سوريا مقياسا لهذا الانفلات. وإذا كان دعم الاحتجاجات في انطلاقها أمرا مفهوما ومقبولا قياسا بالعداوة بين الإسلاميين والنظام السوري وداعميه في الساحة التونسية، فضلا عن حالة الزهو التي كانت تونس تعيشها بفعل ثورة 2011 ومناخ الحرية الواسع الذي عاشته، وكان منطقيا أن تؤمن أحزاب ومجاميع فكرية تونسية بـ”تصدير الثورة”.

لكن التحول الذي كشف الهوية العابرة للإسلاميين في هذه الحرب كان ساعة انتقالها من الاحتجاجات الشعبية السلمية إلى الحرب، واستدعاء مفهوم الجهاد الذي يشجع على الذهاب إلى سوريا، وهو الخطاب الذي راج في المساجد وعلى ألسنة أئمة قد قفزوا لحظتها على الزمان والمكان واستعادوا فتاوى قديمة للحض على جهاد في حرب يتداخل فيها المحلي بالإقليمي والدولي، ما يكشف عن عقل قاصر في التحليل والتأويل والتوقع.

من ضمن هؤلاء الأئمة حبيب اللوز، وهو قيادي في النهضة ورئيس جمعية الدعوة والإصلاح (الذراع الدعوية للحركة)، الذي قال في 2013 “لو كنت شابا لا أمانع في الذهاب للجهاد في سوريا”. صحيح أنه قال في نفس السياق إنه لا يحث الشباب على الذهاب إلى سوريا، إلا أن اعتباره ما يجري في سوريا “جهادا” يخفي إعجابا وشرعنة لذهاب الشباب إلى بؤر التوتر، وإن كان ذلك قبل أن تظهر التنظيمات المتشددة في المعارك وتحول الآلاف من الشباب العرب الذين التحقوا بـ”الثورة” إلى حطب لحرب لا تبقي ولا تذر.

لقد ساهمت تلك الخطابات في خدمة التيارات المتشددة وسهلت استقطاب التونسيين الذين سافروا إلى ليبيا لرفع السلاح تحت تأثير مقولات “الجهاد في سوريا”، وتحريض الشباب على مساندة “الثورة السورية”.

ويجادل الإسلاميون بأن دعم الجهاد في سوريا لا يعني التحريض أو التشجيع على السفر للمشاركة في الحرب. هذا أمر ممكن إذا كان الهدف منه التفصّي من المسؤولية القضائية والسياسية، لكنه على الأرض يؤدي إلى نفس النتيجة. وتاريخيا، ورغم أن الإخوان لم يرفعوا السلاح كإستراتيجية في مواجهة الأنظمة، لكن أفكارهم الأولى التي تحرض على اعتزال المجتمع وسهولة إصدار فتاوى التكفير قد دفعت الكثير من الشباب الذين تربّوا في حضن الجماعة على هذه القيم للحاق بالتيارات المتشددة الذي رفعت السلاح. الفرق هو رفع السلاح، لكن الأفكار هي نفسها.

إن التحول من الهوية العابرة إلى الهوية القارة الثابتة يحتاج إلى أكثر من المواقف السياسية ومن البيانات، إنه يحتاج إلى ثقافة تمثل أرضية هووية تنقل أي حزب إسلامي عابر إلى هويته الوطنية، وهي تأخذ وقتا طويلا وبحوثا وكتبا وفنونا وحركة ثقافية مجتمعية، وهذا عسير بالنسبة إلى الإسلاميين الذين لا يهتمون كثيرا للثقافة إلا من جانبها الدعائي الحزبي.

هذا عنوان واحد من عناوين كثيرة تخص ازدواجية الإسلاميين بين الظاهر والباطن، الظاهر الذي تفرضه الظروف وبراغماتية الحزب في التموقع، والباطن هو ما يرسخ في الذهن والمشاعر من المنظومة الفقهية الإخوانية التي تريد تغيير العالم وتقسم الناس والمجتمعات حسب مستويات الإيمان وليس حسب الانتماء المرتبط بالأرض والجغرافيا والعلم.

لا تستطيع أن تكون وطنيا محليا وفي نفس الوقت تردد شعارات وأفكارا عابرة للدول ومناقضة لمفهوم الدولة الوطنية. قد تنجو حركة النهضة من المسؤولية المباشرة عن قضية التسفير، لكنها تحتاج لأن تتخلص من ثقافة التسفير العابرة، التي تؤسس لضرب هويتها المحلية التي تكابد لإثبات صدقيتها فيها.

كل ذلك يستدعي مراجعات نوعية داخل الحركة الإسلامية في العلاقة بالخلفيات الدينية وكيفية تأصيل مقارباتها للهوية الوطنية ولقيم الدولة القطرية الحديثة مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان، والاتجاه سريعا نحو الفرز الداخلي على أساس هذه المقاربات بما يعنيه من تخلّ في صفوفها عن الذين يرددون نفس الخطاب الذي تنتجه الآلة الفكرية السلفية المتشددة، وهو الذي مهد الطريق ودفع بمئات من الشباب التونسيين إلى اللحاق بالمجموعات المقاتلة في ليبيا وسوريا والعراق.

عن "العرب" اللندنية



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية