
يمثل التواجد الإسلاموي في الغرب، بل انتشاره في أوساط عديدة، سواء تعليمية أو ثقافية أو مجتمعية، بجانب قدرته على التمفصل في قطاعات متفاوتة، وتشكيل شبكات رعائية، يمثل أمراً يستدعي مخاوف جمّة، خاصة مع ظهور حوامل إيديولوجية لفكر التنظيمات الأصولية المتشددة، وهي المتسببة في الانعزالية وعدم الاندماج، فضلاً عن تنامي تصورات معادية لثقافة الغرب، ترقى إلى التحقير والتكفير، واستدعاء العداء المباشر؛ ومن ثمّ تتولد ثقافة كراهية وعنف، تبرز من خلال "الذئاب المنفردة" وحوادث القتل العشوائي والمنظم.
ويمكن القول إنّ جماعة الإخوان، المصنفة على قوائم الإرهاب في مصر كما في عدد من البلدان العربية، تُعدّ الركيزة الاستراتيجية في اتجاه بناء تيار إسلامي أصولي بعواصم أوروبا منذ عقود وفي خمسينات وستينات القرن الماضي. وهذا التيار تتشكل من خلاله تكوينات مختلفة في هيئة جمعيات ثقافية تنموية إلى جانب مدارس وهيئات إغاثية، حيث تبدو مثل بنية صلبة تظهر على متنها الأفكار والمواقف التي تتماهى وأدبيات التنظيم "الأم" للإسلاموية. ورغم التعمية عن الارتباط بالعنف، إلا أنّ هذا التخفي المؤقت يتسلل إليه التوتر في سياقات عديدة، وتظهر الفجوات التي تفضح كوامن اشتهاء القتل، والرحم الذي يتدفق منه "شهداء الله الجدد".
حدث ذلك مع الاصطفاف الإسلاموي بداية من الإخوان مروراً بتنظيمي القاعدة وداعش الإرهابيين، وحتى الفروع الإقليمية المختلفة لكل هؤلاء، مع هجوم حماس على إسرائيل واندلاع حرب غزة في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) عام 2023. وكان الأمر الأبرز في هذا الاصطفاف يتمثل في إعادة خطابات الكراهية وحشد المتعاطفين على أساس إيديولوجي مسيّس، مفاده أنّ العالم بين تيارين؛ أحدهما "دار الإسلام"، والآخر "دار الحرب". الأوّل هو "حزب الله" والثاني "حزب الشيطان"، وعليه تمّ استثمار الحوادث في ابتعاث طاقات عنف وكراهية لإعادة تعويم الصراع مع الغرب، وزيادة وتيرته إلى حدودها القصوى، وتنفيذ هجمات دموية.
أنماط الإرهاب وتجلياته
في مدينة نيو أورليانز الأمريكية، مطلع العام الحالي، نجح تنظيم داعش الإرهابي في تنفيذ هجوم دموي أسفر عن مقتل ما لا يقلّ عن (15) شخصًا وإصابة (30) بجروح، وفق موقع (الحرة). وقد علّق آرون زيلين، زميل في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، المتخصص في شؤون الجماعات الجهادية، على هجوم نيو أورليانز، بالقول: "ما شهدناه يتماشى مع النمط المعتاد الذي رأيناه من تنظيم داعش منذ فترة طويلة. لقد دعوا مرارًا إلى تنفيذ هجمات باستخدام المركبات كأسلحة". وقال إنّ التنظيم الإرهابي "دأب يوميًا على نشر دعوات لأنصاره ومجندين محتملين لتنفيذ هجمات بالنيابة عنه". ووثقت جامعة سان خوسيه في دراسة بأنّه قد وقع أكثر من نصف الهجمات في دول متقدمة مثل الولايات المتحدة، وبريطانيا، وأوروبا. فمنذ عام 2003 شهدت الدول المتقدمة (41) هجومًا باستخدام المركبات، وتصدرت الولايات المتحدة القائمة بـ (13) هجومًا، تلتها فرنسا بـ (10) هجمات، وبريطانيا بـ (5) هجمات.
إذاً، إلى جانب تكتيكات التنظيم الإرهابي في حشد الأفراد وتجنيدهم لتنفيذ العمليات الإرهابية، فإنّ انتشار الغطاء الفكري لا يبدو خافياً، وذلك ما توفره جماعات عديدة تملك شبكات رعائية، وقد وصلت إلى حدود أن باتت لها مجتمعات منغلقة ومتجانسة، وتقف للمجتمعات الأوروبية مثل عدوى خبيثة متحفزة للهجوم في أضعف نقاطها، ومناطقها الرخوة، أو الاستمرار في إضعاف جوانب لملء فراغاتها بالقوة وأصداء القتل والدهس، وبالسكاكين الطائشة والرصاص العشوائي والسيارات المندفعة تحصد ضحايا من المدنيين، لا تفرق بين أطفال وغيرهم.
مع نهاية الشهر الماضي باشر القضاء الفرنسي في محكمة الأحداث الخاصة بباريس محاكمة (6) متهمين على خلفية الاتهام في التخطيط لأعمال عنف مستوحاة من هجمات تنظيم داعش، وكان أحدهم يبلغ (16) عاماً فقط عند وقوع الحادثة، بينما تتراوح أعمارهم الآن بين (21 و39) عاماً. وتعود القضية إلى خلية كانت تنشط داخل محل قصابة في مدينة بريست غرب فرنسا، وفق "شبكة أخبار الشرق". كما رفضت المحكمة طلب الدفاع والنيابة العامة عقد الجلسات سراً، مؤكدة أنّ من مصلحة المجتمع أن تكون المرافعات علنية. وبدأت السلطات التحقيق في القضية عام 2019، بعد ملاحظة تحركات مشبوهة لشخص يدعى محمد، الذي دخل فرنسا في نهاية 2015 بصفته لاجئاً، لكنّه فقد هذا الوضع لاحقاً.
محاولات للضبط والسيطرة
مرة أخرى، التحقيقات لا تعدو كونها أمراً جديداً. بيد أنّ اللافت هو الاستدارة الجادة من قبل عواصم أوروبية لضبط نشاط القوى الإسلاموية، والانتباه لأدوارها المشبوهة. فقد نشرت صحيفة (لو فيغارو) الفرنسية تقريراً مفصلاً عن تغلل الإخوان المسلمين في المجتمع البلجيكي والمخاطر التي يشكلها على البلاد. ووفق تحقيق مطول ومعمق "يخشى البلجيكيون أن يُتهموا بكراهية الإسلام، إذا ما تحدثوا عن الأخطار التي يشكلها تغلغل تنظيم الإخوان الإرهابي في المجتمع والدولة، لذا فهم يبقون صامتين. ويرى خبراء في الإسلام السياسي أنّ المسلمين المعتدلين الذين يناهضون الإخوان لا يحصلون على المساعدة أو الدعم أو الاستماع لهم بشكل كافٍ، وهو ما قد يساعد في وضع استراتيجية مشتركة ضدّ الإيديولوجيات المتطرفة".
وبات المسلمون يشكّلون نحو 12% من سكان بلجيكا البالغ (11) مليون نسمة، إلا أنّهم في بروكسل، عاصمة الاتحاد الأوروبي، يشكلون حوالي 23% من إجمالي السكان، حسب دراسات رسمية يرى البعض أنّها مبالغ بها وتابعة لمؤسسات يمينية، إلى درجة أنّه بعد الاستقراءات الأخيرة، وعلى هذا الوتيرة، ستكون عاصمة أوروبا ذات أغلبية مسلمة في غضون (15) عاماً، أي في عام 2040. ويرجع ذلك إلى تزايد عدد السكان المسلمين بسرعة نتيجة استمرارية الهجرة ونسبة الولادات المرتفعة للغاية.
وقال مُعدّا التقرير المحللان الفرنسيان نجاة شيريجوي وجوديث وينتراوب: إنّ عاصمة أوروبا تغيرت بشكل واضح على مدى الأعوام الماضية، وباتت ملامح الإسلاموية واضحة جداً وبشكل متزايد في شوارع بروكسل، وخاصة عبر الاقتصاد التابع للإخوان من المطاعم والتجارة إلى صالونات تصفيف الشعر ومتاجر الملابس، وهو اقتصاد أحادي لا يخدم المسلمين، بل الإسلامويين وأجنداتهم فقط.
وعلّق الإمام حسن الشلغومي حول ذلك بالقول: إنّ "الوضع في بلجيكا مثير للقلق، فبعد مرور أعوام طويلة تنبه الاتحاد الأوروبي والسلطات البلجيكية إلى النفوذ الهائل للإخوان المسلمين. وإذا لم يتم اتخاذ الإجراءات السياسية اللازمة، فإنّ بروكسل قد تكون مركز التوترات المجتمعية في أوروبا. ومن الملحّ كذلك أن يحشد مسلمو بلجيكا جهودهم لمكافحة هذا التطرّف الذي يغرز في مجتمعاتنا".
هذا، وشهدت عاصمة أوروبا تحولاً سياسياً خطيراً، تمثل في تحول جهاديين إلى شخصيات محلية مؤثرة بعد انخراطهم في العمل السياسي، على الرغم من أنّهم يدعون صراحة إلى إنهاء الديمقراطية وإقامة دولة إسلامية في البلاد، وذلك على غرار فؤاد بلقاسم زعيم جماعة الشريعة في بلجيكا، الذي حكم عليه بالسجن عدة مرات، وفقد جنسيته البلجيكية لتورطه في تجنيد مقاتلين متطرفين في سوريا. كما بدأت تظهر في المشهد السياسي قوائم متشددة مثل قائمة فؤاد أحيدار، التي أحدثت مفاجأة ضمن الانتخابات الأوروبية في حزيران (يونيو) 2024، حين فازت لائحة حزبه الجديد بـ (5) مقاعد. وحزبه منشق عن الاشتراكيين الديمقراطيين البلجيكيين، بعد أن تمّ طرده منه بسبب توجهاته المتطرفة.