الإسلاموية تأكل أولادها

الإسلاموية تأكل أولادها


14/01/2021

أحمد نظيف

وضع القضاء التركي نقطة النهاية لرحلة طويلة سلكها الداعية التركي عدنان أوكتار، وكانت خاتمتها السجن المشدّد بتهم تباينت بين الاعتداء الجنسي وغسيل الأموال والتجسس.

من كان يصدق أن الرجل الذي ألهب مشاعر قطاعات واسعة من الشباب التركي عند الهزيع الأخير من ثمانينات القرن الماضي من خلال سلسلة كتب مثيرة، زرعت في عقولهم مسائل نظرية المؤامرة التي تحيق بالإسلام، سينتهي سجيناً بمثل هذه التهم.

كان أوكتار، رمزاً فكرياً لجيل كامل من شباب الطبقة الأناضولية الفقيرة. هو الجيل نفسه الذي أصبح القاعدة الاجتماعية لقيادة الدولة التركية بعد عقود من الصراع مع المؤسسة الكمالية الصلبة وجيشها. فيما شكلت كتبه التي كان يدّعي فيها أن اليهود والماسونيين متغلغلون في مؤسسات الدولة بهدف هدم القيم الدينية والأخلاقية للشعب التركي، خامةً جيدة شيدت عليها الحركة الإسلامية التركية خطابها الشعبوي في مواجهة الجمهورية العلمانية لعقود. ومع الوقت تحول أوكتار من فرد إلى جماعة، بعد ما أسس لنفسه شبكة واسعة من المريدين والأتباع، رغم غرابة أفكاره وشذوذ ميوله عن السائد الإسلاموي، وتحول إلى صديق وداعم لحزب "العدالة والتنمية" وزعيمه رجب طيب أردوغان، منذ صعودهما إلى السلطة في عام 2002.

لكن مكر التاريخ لا يلبث أن ينسج غلالة من جفاء بين إخوة الأمس. فيما كان أردوغان يوطد دعائم حكمه، ويطرد عنه رفاق الأمس واحداً تلو أخر، كانت الفجوة بينه وبين أوكتار تزيد يوماً بعد يوم، حتى طويت الصفحة الإاثنين الماضي بحكم قاسٍ، قسوة الإسلاموية التي تأكل أولادها، كما تأكل أعداءها تماماً. لم يكن أوكتار أول المتساقطين من غربال السلطة، فقد سبقه إلى ذلك فتح الله غولن، الداعية النورسي، وزعيم جماعة "الخدمة" أحد تيارات الحركة الإسلامية التركية، والتي قدمت الكثير لأردوغان وحزبه على مدى سنوات داخل الدولة والمجتمع.

لكن الودّ والتحالف المقدس ما لبثا أن انقطعا وتحولا فجأة إلى عداء عندما ظهرت الخلافات علناً بين غولن وأردوغان منذ أواخر 2013، بعد أن كشف قضاة قيل إنهم من أنصار غولن فضيحة فساد داخل أجهزة الحكومة التي يقودها حزب "العدالة والتنمية"، خصوصاً أن الفضيحة قد طاولت عدداً من المقربين من أردوغان، ومن بينهم نجله بلال، لتبدأ بعدها حملة واسعة من الاعتقالات والفصل من العمل في أجهزة الدولة طاولت أتباع غولن، في محاولة من أردوغان لتجفيف منابع تأثير جماعة الخدمة. وهكذا تأكل الإسلاموية أولادها دائماً، حيث تتبخر الأحلاف القائمة على الدين والأخلاق ونصرة الإسلام فجأة وتبرز الرغبة في الاستئثار بالسلطة، في برهان واضح على أن شعارات الدين والأخلاق لم تكن إلا غطاءً براقاً لجلب الأتباع وكسب الشرعية.

وعندما تضيق القمة بالزعماء تبدأ الحرب. وكل طرف يدّعي أنه الممثل الحقيقي للإسلام، فيما ينتظر الأتباع هوية الفائز، حتى يختاروا ممثلهم الحقيقي للإسلام، على مذهب نابليون عندما سأله أحد الجنود في إحدى المعارك، "هل الله مع الكاثوليك أم مع البروتستانت" فأجابه بأن "الله مع مع أصحاب المدافع الأكبر". وذلك ما حدث في نهاية عام 1999 عندما انقطع حبل الودّ بين طرفي الجبهة الإسلامية الحاكمة في السودان، فيما عرف في أوساط الحركة الإسلامية السودانية بـ"مفاصلة رمضان"، حين دخل كل من الشيخ حسن الترابي والفريق عمر البشير في خلاف لم ينتهِ إلا بوضع الترابي ورفاقه في السجن، وتتويج البشير رئيساً مطلقاً للسودان، على الرغم من أن الترابي كان هو مؤسس الجبهة وقائدها وهو من صنع البشير ورفعه من مجرد ضابط صغير يعمل في مجاهل الجنوب إلى قائد إنقلاب عسكري أوصله إلى السلطة. ولأن الترابي كان ذكياً، فقد اختار البشير ظناً منه أنه ليس على قدر كبير من الذكاء حيث يسهل عليه التحكم به، لكن مقادير التاريخ ومكره دائماً ما تفاجئ المرء وتضعه أمام ضعفه وقصور رؤيته، وتجعله يدفع الثمن باهظاً، بيد أن الثابت الوحيد في هذه المقادير هو أن الإسلاموية تأكل أولادها.

وليس أدلّ على ذلك من المصير المأسوي الذي انتهى إليه أحد مؤسسي "الحركة الإسلامية التونسية" صالح كركر، الذي مات كمداً بعد سلسلة من الجلطات الدماغية التي تداولت على رأسه منذ عام 2005 وحتى رحيله في عام 2012، وسبقتها رحلة طويلة من المنفى وجحود إخوة الكفاح. قاد كركر "حركة النهضة" في مفاصل تاريخية عديدة، أهمها صراعات آخر الثمانينات من القرن الماضي مع نظام الرئيس الحبيب بورقيبة ثم رحل نهائياً إلى المنفى وبدأ في سلوك طريق غير مألوفة، حيث بدأ في نشر سلسلة مقالات في جريدة "الحياة" اللندنية طالب فيها بالفصل بين العمل السياسي والديني داخل الحركة، في دعوة غير مسبوقة، جلبت له الكثير من النقد والانتقاد من رموز حركته ومن رموز جماعة "الإخوان المسلمين"، وانتهت بقرار راشد الغنوشي فصله نهائياً من الحركة التي ساهم في تأسيسها، في عام 2002، بتهمة "منازعة الحركة في منهجها التغيري"، مع أن الغنوشي نفسه عاد وفصل بين الدعويّ والسياسي في عام 2016، على حد زعمه.

ويبدو أن الصراع الدائر منذ أكثر من عام داخل الحركة سيفتح شهية الإسلاموية التونسية على أكل أولادها، في اللحظة التي يحاول فيها أحدهم أن يقترب من كرسي الزعيم. بل حتى الذين لم يحاولوا ذلك وكان لديهم نوع من إمكان الفعل تم العصف بهم باكراً كي لا يشكلوا خطراً في الطريق. فالرجل، الذي يعتبر شريكاً مؤسساً للحركة مع الغنوشي نداً للند، منذ أن كان اسمها "الجماعة الإسلامية" في عام 1969، عبد الفتاح مورو فضل الخروج من اللعبة بدلاً من خوض الصراع بالرغم من شعبيته الجارفة على مستوى القاعدة. فما حدث للرجل خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة، كان صادماً ومحبطاً. في حركة تدير خلافاتها السياسية بمعيار واحد هو مدى القرب أو البعد من "الزعيم المؤسس" وحاشيته.

عن "النهار" العربي



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية