الإخوان كما عرفتهم

الإخوان كما عرفتهم

الإخوان كما عرفتهم


06/07/2023

رجب البنا

عندما كنت فى العاشرة كانت دمنهور منقسمة بين الإخوان والوفد. كان مقر شعبة الإخوان فى مبنى كبير فى وسط البلد ينظم لقاء تحتشد فيه أعداد كبيرة وتُلقى فيه محاضرة كل ثلاثاء، يخرج بعدها المجتمعون يهتفون: الله اكبر ولله الحمد.. حى على الجهاد.. الموت فى سبيل الله أحلى أمانينا، والأطفال خلفهم يرددون الهتاف دون وعى.

وعندما كنت فى المرحلة الابتدائية كنا نتجمع لنشاهد مسيرة فرق الكشافة التابعة للإخوان، وهى تطوف شوارع المدينة وأمامها حملة الأعلام عليها شعار الإخوان، المصحف والسيفان، وحملة الطبول. وكان هذا الاستعراض هو فرحتنا كل أسبوع.

وفى يوم اشتعلت دمنهور بالصيحات، ورجال يسارعون الخطى متجهين إلى جامع (الزرقا)، لأن حسن البنا سيصلى الجمعة بالإخوان، ولم أكن أعرف من هو حسن البنا، وتصورت أنه واحد من عائلتنا، ولكن والدى نفى لى ذلك وقال إنه ليس من دمنهور ولكنه من المحمودية، وهى مركز من مراكز البحيرة. وفوجئ الناس بخروج الإخوان من الجامع وهم يحملون العصى ويتجهون إلى مقر حزب الوفد.

حيث كان الوفديون مجتمعين مع أحمد بك الوكيل، عضو مجلس النواب، واشتبك شباب الإخوان مع الوفديين وسقط كثير منهم، وجاءت سيارات الإسعاف لتحمل الجرحى والمصابين، واختفى الإخوان فى لمح البصر. وكان يومًا لا أنساه.. وفى اليوم التالى سار الإخوان وهم يهتفون: القرآن دستورنا.. والرسول قائدنا.. والموت فى سبيل الله أحلى أمانينا.

وعندما كنت فى السنة الأولى فى مدرسة دمنهور الثانوية كان الأستاذ محمد القراقصى، مدرس أول اللغة العربية، وكان ابنه معى فى نفس الفصل، وفى يوم نادانى وقال لى: لماذا لا تكون معنا.. ألست مسلمًا؟ أنت طالب فيك خير إن شاء الله.. تعالَ الليلة صلِّ معنا العشاء فى مسجد التوبة واستمع إلى الدرس. وذهبت واستمعت إلى درس عن بناء المجتمع المسلم ومسؤولية المؤمنين عن الدعوة إلى العمل بحكم الله. وتحدث عن أستاذية العالم حديثًا لم أفهمه فى حينه.

بعد ذلك طلب منى الأستاذ القراقصى أن أواظب على حضور حديث الثلاثاء فى مقر شعبة الإخوان، فكنت أذهب لمجرد إرضاء أستاذى وخوفًا من غضبه، رغم أنى كنت أشعر بالملل وأنتظر انتهاء الدرس لأجرى بعيدًا عن هذا الجو المتزمت. وحمدتُ الله عندما انتقلت إلى السنة الثانية وكان الشيخ أبوعوف هو مدرس اللغة العربية الذى رحمنى من درس الثلاثاء، وحببنى فى حصة الدين بأسلوبه السهل وأجاب حين سألته عن الإخوان بأن الأفضل ألا تنضم إلى أى جماعة والإسلام لكل الناس وليس حكرا على جماعة.

وذهبت إلى كلية الآداب بجامعة الإسكندرية، وفى كافيتريا الكلية كانت هناك دائمًا جماعات من طلبة الكلية ومن كليات أخرى، منهم تجمع الإخوان، وكانوا يسمون أنفسهم حزب الله ويطلقون على غيرهم حزب الشيطان، وكنت أجلس معهم، ومنهم أصدقاء وبلديات، ولكن لم أكن مقتنعًا بما يقولون، وأنا أدرس الفلسفة والمنطق، وأستاذ الفلسفة الإسلامية هو الدكتور أبوالعلا عفيفى.

وبعده الدكتور على سامى النشار، وهما من أكبر أساتذة الفلسفة الإسلامية، ما أكد لدىّ أن الإيمان لا يستلزم الاشتراك فى جماعة تلزم أعضاءها بالسمع والطاعة، وتحرم حرية الرأى وحرية التفكير. ومن دراسة الفلسفة تعلمت أن أحتفظ باستقلالى، وأن أفكر فى كل ما أسمع ولا أسلم عقلى لأحد، ولم تفلح محاولات جذبى إلى جماعة الإخوان أو إلى خلية الشيوعيين بالكلية.

ويبدو أن اسمى (البنا) كان يدفع الآخرين إلى الظن بأنى قريب حسن البنا، وواجهت مواقف كثيرة بسبب تشابه الأسماء، مع أن اسم (البنا) شائع وموجود فى محافظات كثيرة وليس بينها قرابة. والتفاصيل فى هذه المرحلة كثيرة لا يتسع لها المقام.

ولكنى بعد ذلك على عدد من قادة الإخوان الذين تركوا الجماعة بعد أن اكتشفوا حقيقة نواياها، ومنهم الشيخ عبدالرحمن البنا، شقيق حسن البنا، وجمال البنا، شقيق حسن البنا أيضًا، والعالم الكبير الشيخ محمد الغزالى، والدكتور عبدالعزيز كامل، وزير الأوقاف، وغيرهم، ربما يأتى ذكرهم فى فرصة أخرى يمكن فيها الحديث عنه بالتفصيل.

حكى لى الشيخ عبدالرحمن البنا عن حماسه فى فترة الصبا والشباب حين شارك فى نشاط الجماعة تحت قيادة شقيقه، ولكنه بعد فترة وجد الجماعة تتجه إلى أهداف غير الأهداف المعلنة، وكان قد وصل إلى السن التى يُسمح له فيها بالانفصال عن الجماعة وتحمل ما نتج عن ذلك من متاعب، وقال لى جمال البنا إن البداية كانت نشر مبادئ وقيم وأخلاق الإسلام وتعليم الناس المعاملات الإسلامية.

وبعد أن وصلت إلى مرحلة الانتشار وأصبحت لها فرق كشافة بزيها المميز، ولها علم غير علم البلاد، ولها نشيد، وتنظم للشباب معسكرات للتدريب شبه العسكرى، وجد نفسه يبتعد يومًا بعد يوم إلى أن حدثت القطيعة وتفرغ للبحث والكتابة حول قضايا الإصلاح الإسلامى، وأنشأ مطبعة لطبع كتبه وكتب غيره.

وتوقفت عند أقوال الشقيقين، وأقول: إذا كان هذا موقف أقرب الناس إلى مؤسس الجماعة فكيف يكون موقفى؟

وكان من ضمن اختصاصاتى فى «الأهرام» متابعة نشاط وزارة الأوقاف، وكان الشيخ محمد الغزالى وكيل الوزارة، فكنت أتردد عليه وعلى الوزير وقيادات الوزارة كل يوم تقريبًا، وقال لى الشيخ الغزالى إنه كان من مؤسسى الجماعة مع حسن البنا، وشارك فى نشاط الجماعة الخاص بالدعوة، وبعد سنوات اكتشف وجود تنظيم سرى لا يعلم به حتى أقرب الأعضاء إلى المرشد العام.

وعلم أن هذا التنظيم يقوم بعمليات الاغتيال وإثارة المعارك وتصفية كل من يخرج من الجماعة، وعندما ابتعد تعرض لاغتيال فى مناسبة المولد النبوى، أبلغته زوجته بأن شخصًا لا تعرفه أعطاها علبة حلوى المولد، ولأنه يعرف أسلوب الجماعة شعر بأن هذه العلبة فيها عقاب الجماعة له، فأبلغ الأمن، فاكتشف خبير المفرقعات أن فى العلبة مواد متفجرة بمجرد فتحها، وأنهم كانوا يريدون قتله ليكون ذلك عقابًا له وعبرة لغيره.

والقصص كثيرة نُشرت فى حينها فى «الأهرام» ومجلة «أكتوبر»، وقد أستعيد بعضها للذكرى والتاريخ، ولكى يعلم الجيل الجديد خطورة هذا التنظيم الذى يعيش الآن فى فترة الكمون وينتظر اللحظة المناسبة ليعاود التخريب.

عن "المصري اليوم"




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية