الحديث عن الإخوان المسلمين لا يعني تجاهل السياق العام المنشئ للأزمة الكبرى، ولكن القضية الأساسية في محاولة فهم الإخوان ومراجعتهم هي أنّهم لم يشغلوا بالإصلاح كما يفترض أن يكون وصاروا جزءاً من السياق نفسه يعيد إنتاج الأزمة في طبعات وحالات أشد قسوة ورسوخاً، وقد كتبت كثيراً عن تهميش المدن والمجتمعات والموارد والتصادم، المقصود وغير المقصود، الذي أدارته النخب مستخدمة الدولة والسلطة لمنع المجتمعات والمدن والأسواق من التشكل على النحو الملائم لاستقلال المجتمعات وقدرتها على اختيار قادتها وممثليها وبناء مؤسساتها وولايتها على احتياجاتها وأولوياتها وما ينشأ عن ذلك بطبيعة الحال من فكر وثقافة تلهم وتنظم الحياة السياسية والعامة!
في شغل الإخوان بالدعوة والتأثير فإنّ ذلك يعني ببساطة أنّها تراهن على الناس والمجتمعات، وأنّها تستمد تأثيرها من مجتمعات فاعلة ومستقلة، ولذلك فإنّ جهدها وطاقتها سوف تكون في مساعدة المجتمعات والناس على التنظيم الاجتماعي الذي يرتقي بروابطهم وتشكلاتهم لتكون حول القانون والموارد والأعمال والمصالح، وليست تجمعات عشائرية ودينية في مدن كبيرة ومعقدة تقوم على الأسواق والمصالح والمهن والتنظيم الشبكي للمرافق والخدمات والسلع والتعليم العالي والمتقدم!
الحلقة الأخرى في متوالية المتاهة التي أدخل الإخوان أنفسهم فيها هي مظنّة أن تطبيق الشريعة موكول بهم وحدهم
ولكن في انتقال الإخوان إلى العمل السياسي؛ تأييداً أو معارضة أو مشاركة أو حكماً، فإنّهم يوظفون تشكيلاتهم الاجتماعية والدعوية وما اكتسبوه من ثقة وتأييد لأجل بناء السلطة السياسية أو معارضتها وليس لأجل بناء المجتمعات وتمكينها، ثم إنّهم يستخدمون خطاباً دعوياً استنهاضياً وإصلاحياً لإدارة منظومات أكثر تعقيداً من المؤسسات والبرامج والتشريعات، فهم يقحمون أدوات وأفكاراً في غير مجالها وعملها، ويدخلون أنفسهم في تجارب لم يستعدوا لها ولا تجمعوا لأجلها ابتداء، لا يختلف ذلك عن محاولة عشيرة أو نقابة مهنية أو عمالية للمشاركة السياسية وتشكيل الحكومة أو المشاركة فيها أو معارضتها!
الحلقة الأخرى في متوالية المتاهة التي أدخلنا الإخوان وأنفسهم فيها هي مظنّة أن تطبيق الشريعة موكول بهم وحدهم وأنّه لا يمكن تطبيقها أو قيام دولة إسلامية بدونهم، وأنّ أي دولة قائمة اليوم ليست إسلامية!! فبعد أن أدخلوا أسلوب الجماعات والنقابات في العمل السياسي فقد أقحموا الدين في عملية اجرائية محددة، وهي أنّه لا وجود للدين بدونهم! وأنّ الدين هو ما يؤيدون ويرونه وأنّ ما يعارضونه ليس من الدين!
ويتساءل بإلحاح وشعور بالفراغ إعلاميون وديبلوماسيون وباحثون ومراكز دراسات ومراصد سياسية وإعلامية عن الحالة السياسية والعامة في غياب الإخوان المسلمين، وعن الفراغ المتوقع حدوثه بعد هذا الغياب، وتنتهي لقاءاتي معهم دائماً بشعور يغمرني أنا أيضاً بالفراغ والغباء، وأنّي عاجز عن إجابتهم، وتنتابني حيرة مزعجة وتساؤل خبيث إن كنت غير قادر على إدراك ما يريدون أن أقوله، وأني إذا لم أقل ما ينتظرونه أضيع وقتهم، لأن السؤال: وما ذا بعد؟ يظل معلقا، لكن محاولة التذكير بأنه لم يكن من قبل شيء مما يتحدثون عنه، ولا فرق يذكر بين الحالتين، وأن الناس في عزاء بلا ميت، أو في عرس بلا عروسين، تصل في خروجها عن المألوف إلى مستوى الجهل والبلاهة.
هل سينشأ فراغ سياسي وفكري بعد الإخوان المسلمين؟ لكن السؤال الحقيقي هو هل كان الإخوان المسلمون يملأون فراغاً سياسياً من قبل؟ وهل شكلوا (الإخوان المسلمون) في أثناء نشاطهم ووجودهم في البرلمانات العربية (والإسرائيلية أيضاً) حاجزاً فكرياً وعملياً أمام التطرف والإرهاب؟ ماذا سيفعل الإخوان المسلمون بعيداً من البرلمان والعمل السياسي العلني؟
الإخوان المسلمون بمشاركتهم السياسية والنيابية طوال العقود الماضية بدول عربية عدة لم يضيفوا شيئاً للحياة السياسية والعامة
الواقع إنّ الإخوان المسلمين في مشاركتهم السياسية والنيابية طوال العقود الماضية في دول عربية عدة لم يضيفوا شيئاً إلى الحياة السياسية والعامة، ولم يكونوا في مشاركتهم تلك يملأون فراغاً، وربما كانوا يساهمون في إنتاجه، ولم يقدموا شيئاً يذكر، كما يشاع دائماً، على نحو يقترب من الإغراق في مواجهة العنف والتطرف، بدليل أنّ العنف والتطرف شهدا أعلى ذروة من التأثير والانتشار في الفترة نفسها التي شهدت ذروة مشاركة الإخوان المسلمين في البرلمانات والحياة السياسية العربية.
ذلك أنّه وببساطة تقوم الحياة السياسية والمنافسة على السلطة وتداولها على أساس من الجدل والتفاعل بين اتجاهات وبرامج وأفكار مؤسسة ابتداء على تحسين الحياة وتحقيق التقدم وتصحيح العلاقة بين الموارد والأعمال والأنظمة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية على النحو الذي يرتقي بالعدالة والحرية والحياة الكريمة والإنتاج والرفاه، وهي في ذلك تراوح بين ليبرالية ترى السوق تنظم نفسها بنفسها، وأن الثقافة والمجتمعات تشكلها الأسواق والدول، أو "محافظية" ترى الأنظمة السياسية والاقتصادية تعبيراً عن الثقافة والمجتمعات السائدة، أو ديموقراطية اجتماعية تسلك نحو العدالة الاجتماعية متطرفة في هيمنة الدولة وتجاهل المبادرات الفردية، أو معتدلة تراوح بين الدولة والمجتمع والفرد والسوق، فتخفق أو تنجح في التوفيق والاستيعاب، أو تجنح نحو اليمين أو اليسار، أو تلفق، كما في الصين، بين دكتاتورية سياسية وحرية اقتصادية، أو تبدع، كما في الهند والبرازيل، بين ليبرالية سياسية واشتراكية (نسبية) اقتصادية.
وهكذا فإنّ النظر إلى مشاركة الإخوان المسلمين ودورهم لا يخرج في تقويمه والنظر إليه على هذا المعيار، فهل أضاف الإخوان المسلمون إنجازاً يذكر في تحقيق الحريات والعدالة الاجتماعية وتحسين الحياة والأعمال والتشريعات والرفاه؟ وأين هم في موقعهم من هذه الاتجاهات والأفكار الثلاثة، هل كانوا، على سبيل المثال، مع تعزيز دور القطاع العام والارتقاء به؟ مع التوازن بين الحكومات والشركات والمجتمعات أم مع تحرير الأسواق والخدمات والأعمال والأجور؟ هل كانوا مع العدالة الضريبية أم المساواة الضريبية؟ هل كانوا يدركون في مزاوجتهم بين انحياز للشركات والقطاع الخاص في الصحة والتعليم وبعض السياسات والتشريعات وفي التحالف مع اليسار في الوقت نفسه في المعارضة السياسية للحكومات وفي التحالف مع المحافظين في السياسات والتشريعات الاجتماعية أنّهم كانوا ينحازون إلى الجانب الأكثر ظلماً واستبداداً في الليبرالية أو المحافظية أو اليسارية؟ وأنّهم أخلوا بالتوازن المفترض بين المكاسب والمخاسر، وما نقدمه ونحققه في المقابل، وبين السلبيات والإيجابيات، وأنّنا في المقابل قد حصلنا على توليفة مرعبة بين حرية السوق وتأميم السياسة وظلم المرأة والمجتمعات والفقراء والأقليات، وإلغاء الثقافة والفنون، وشيء قليل من الاحتفال بذكرى المولد النبوي ومقاومة التطبيع!!
وبالطبع فليس هذا التحليل تأييداً للحكومات، لكنه محاولة لملاحظة مشهد سياسي يتشكل بعيداً من الاهتمام الإعلامي والديبلوماسي والبحثي، وفي الوقت نفسه فإنّه يجري فهم المشهد نفسه على نحو يكرس التحالف (ليس مهماً أن يكون واعياً أو غير مقصود، مجاناً أو بثمن) بين الإخوان والاستبداد، ويحول دون نشوء تشكل سياسي واجتماعي وثقافي للتيارات والطبقات والجماعات والمجتمعات على أساس تقديرها لأولوياتها وأفكارها وبرامجها المفترض توافقها مع هذه الأولويات والاحتياجات، وأنّ التنافس والصراع يتحولان من كونهما بين دور الدولة والسوق أو على الحريات والعدالة أو الحقوق العامة والسياسية، أو توزيع الضرائب والموارد إلى صراع لا ناقة لنا فيه ولا جمل، ولكنه على رغم ذلك يعطل الحريات والعدالة، ويغطي على الفساد والاستبداد، ويؤجل الديموقراطية.
والغريب أنّ هناك من الإخوان المسلمين من يتبرع بإشعال هذا الصراع غير المفهوم وتبريره وتمريره، تحريك مشاغل وصراعات واهتمامات مريبة وبائسة تصرف الناس والجماعات والتيارات والطبقات عن قضيتها الأساسية، وإنتاج للفراغ والخواء!