
ربما يتميز التحليل الاستخباري عن بقية أنواع التحليل الأخرى بأنّ هدفه رسم صورة متكاملة لموضوع التحليل، تقارب الحقيقة بأعلى قدر من الموضوعية، لذا فإنّ التحليلات العسكرية التي تركز على الكيفية التي تمّت بها العملية ونوع السلاح المستخدم، وعناصر التنفيذ، ومكانه وزمانه، بالإضافة إلى التحليل الجنائي "المخبري" للجثة، والسياق السياسي، ونوعية الهدف وأهميته، كلها عوامل لا بدّ من الإحاطة بها لاستكمال نواقص المعلومات، التي تعتمد الإجابة عنها على ما يُعرف بالأسئلة الـ (5): "مَن، متى، كيف، لماذا، أين"؟ وفيما يلي تقدير موقف أوّلي، يحاول اجتراح إجابات على التساؤلات الكثيرة التي تحيط بالعملية.
أوّلاً: الحقيقة الأولى المؤكدة حول اغتيال هنية هي أنّه تم اغتياله في طهران، وهو في ضيافة الحرس الثوري الإيراني، فيما بقية المعلومات التي قد تشكل حقائق، تخضع لمقاربات ومعلومات سابقة، لا سيّما أنّ إسرائيل، بوصفها الطرف الأول المتهم بالعملية، لم تعلن عبر مصادر رسمية أو شبه رسمية مسؤوليتها عن العملية، في الوقت الذي أعلنت فيه مسؤوليتها عن تصفية "فؤاد شكر"، القيادي في حزب الله، والموصوف بأنّه قائد أركان قوات حزب الله، في بيروت قبل ساعات من تصفية هنية.
ثانياً: الحقيقة الثانية أننا أمام روايات، لا شك أنّها خضعت لدراسة وتمحيص قبل تصديرها، سواء من قبل الإعلام الغربي أو من قبل إيران؛ ففي الإعلام الغربي صدرت روايتان يبدو أنّهما منسقتان؛ الأولى وردت في تقرير لصحيفة (نيويورك تايمز)، وتزعم أنّ إسماعيل هنية قُتل جراء انفجار قنبلة وُضعت سرّاً قبل شهرين في مقر إقامته بطهران، وتم تفعيلها في الوقت المناسب، واستكملت هذه الرواية صحيفة (التلغراف) البريطانية، زاعمة أنّ الموساد قام بتوظيف عملاء أمن إيرانيين لزرع قنابل في (3) غرف منفصلة بالمبنى الذي كان يقيم فيه هنية، ونسبت معلوماتها إلى مسؤولين بالحرس الثوري "لم يُكشف عن هوياتهم"، وأنّ هؤلاء العملاء يعملون في صفوف وحدات حماية أنصار المهدي، المكلفة بتأمين المسؤولين رفيعي المستوى، لتنفيذ العملية، ومن الواضح أنّ الرسائل في تقريري (نيويورك تايمز، وتيلغراف) هي: أنّ إسرائيل تقف وراء العملية، وأنّ الحرس الثوري مخترق استخباريّاً لصالح الموساد الإسرائيلي، حيث تم تنفيذ العملية من قبل عملاء للموساد، وهو ما يعني توجيه أنظار القيادة الإيرانية إلى الداخل، وتعزيز عوامل الشكوك داخل الأجهزة الإيرانية.
ثالثاً: بعد صدور روايات إيرانية متضاربة، بعضها صدر من مواقع قريبة من الحرس الثوري الإيراني، وقاسمها المشترك أنّ إسرائيل تقف وراء عملية الاغتيال، وأنّ التنفيذ تم عبر إطلاق صاروخ من طائرات إسرائيلية مسيّرة، أو من غواصات إسرائيلية، وحتى من قبل عملاء للموساد، صدرت رواية رسمية تضمنت أنّ الاغتيال تم باستخدام مقذوف صغير المدى، يزن (7) كيلوغرامات، أُطلق من خارج منطقة إقامة هنية، وأنّ الانفجار القوي الناتج عن هذا المقذوف أدى إلى مقتله، وأنّ العملية تمّت بتخطيط وتنفيذ من جانب إسرائيل وبدعم أمريكي.
ورغم أنّ رواية الحرس الثوري جاءت في سياق حرج تعرضت له القيادة الإيرانية، بعد الروايات الغربية، وتعدد رواياتها والتساؤلات التي طرحت على هامشها وقاسمها المشترك أنّ المنظومة الإيرانية مخترقة وضعيفة، إلّا أنّها أكدت روايات غربية حول الاختراق الأمني الإسرائيلي، عززتها تسريبات إيرانية حول اعتقالات في صفوف الأجهزة الأمنية، لكنّها في الوقت نفسه تستبطن مستويات من الخلافات داخل القيادة الإيرانية بين الرئيس الجديد (بزشكيان) وفريقه من جهة، والتيار المتشدد بقيادة المرشد الأعلى ومعه الحرس الثوري من جهة أخرى، لأنّ تأكيد أنّ الاغتيال تمّ عبر هجوم واختراق للحدود يتطلب ردّاً إيرانيّاً، وأمّا تنفيذ الاغتيال بالصورة التي تم الإعلان عنها، فإنّه يتطلب "تحقيقاً" أمنياً داخلياً لكشف شبكات العملاء، وهي مهمة إيرانية داخلية، وربما يتطلب ردّاً إيرانيّاً بالمستوى نفسه، أي اغتيال شخصية إسرائيلية بمستوى هنية، وهو ردّ غير وارد في الحسابات الإيرانية، لصعوبة تنفيذه قياساً بالإمكانيات الإيرانية، ولعدم الرغبة بذلك، لأنّه لا يحقق ضجيجاً إعلاميّاً كما تريد لردودها.
وفي الخلاصة؛ فإذا كانت مصادر المعلومات "بشرية، أو فنية، أو بالاشتراك مع أجهزة حليفة"، فيرجح أنّ المصادر البشرية هي التي لعبت الدور الأكبر في العملية، دون تحييد معلومات تشاركية أو فنية، ومن المؤكد أنّه لا إسرائيل ولا إيران ستكشف كيفية تنفيذ العملية، خاصة بالنسبة إلى إسرائيل، حيث يعتبر الحفاظ على سرّية أسلوب تنفيذ العمليات أحد مبادئ العمل المخابراتي، ومرجح أنّ إيران، رغم ما شهدته العملية من ارتباكات لديها، إلا أنّها تعرف كيف تم تنفيذ العملية، ونشر معلومات حقيقية حول ذلك ربما يحرجها ويجعلها في حالة انكشاف أمني أكثر، ويشار هنا إلى أنّ هناك قائمة من العمليات التي نفذها الموساد داخل إيران باغتيال شخصيات إيرانية بالطريقة نفسها.
وعلى خلفية من بخدمة الآخر، السياسي أم الأمني؟ فإنّ الأمني في اغتيال هنية جاء بخدمة السياسي بالمنظور الإسرائيلي، لأنّ الاغتيال خدم مقاربات الردع الاستراتيجي لإسرائيل، كما خدم نتنياهو شخصياً، فيما انتقلت إيران لاستثمار العملية سياسيّاً وفقاً لاستراتيجياتها، حيث طغت التساؤلات حول الرد الإيراني المحتمل على كشف تفاصيل الاغتيال، لأنّ الأمني هنا لا يخدم إيران، ويبدو أنّ طهران مرتاحة لهذه النتائج، لا سيّما أنّها فتحت لها آفاقاً عبر التواصل المكثف معها من عواصم دولية وإقليمية، تطلب منها ضبط النفس، وهو ما يمكن توقع ألّا يكون هناك ردّ إيراني، إلا بعد استنفاد هذه الاتصالات.