"منتدى الإعلام العربي" والرقمنة الموضوعية

"منتدى الإعلام العربي" والرقمنة الموضوعية


08/04/2018

أحسنتْ دبي باختيار عنوان "تحولات إعلامية مؤثرة" ليكون محور أعمال "منتدى الإعلام العربي" بدورته السابعة عشرة، الذي انعقد الثلاثاء الماضي، بتنظيم من قِبل نادي دبي للصحافة. ولعلّ من المصادفات، التي لا تخلو من دلائل مُعبّرة، أن ينعقد المنتدى في اليوم الذي تنشر فيه صحيفة مرموقة مثل "الحياة" خبراً على موقعها يفيد بأنّ مجلس إدارتها عقد اجتماعات في الأيام الأخيرة لمناقشة إعادة هيكلتها ودراسة "المستجدات التي يشهدها الإعلام المرئي والمسموع والمقروء، نتيجة تراجع الدخل من الإعلانات، والتحوّل في النشر الورقي إلى الرقمي، ما انعكس على كل المؤسسات الإعلامية والصحافية".

لقد أصبح غالبية القراء، من الأجيال الحديثة على نحو خاص، يتوجهون إلى أجهزتهم الذكية لمعرفة ما يجري حولهم وفي العالم، وليس إلى الصحف الورقية المطبوعة، وصار بدهياً أنّ التحوّل الرقميّ "هو التوجّه الرابح"، كما يُقال.

هنا، يجب ألا نغفل ونحن نقارب تأثير التحولات السياسية في الصناعة الإعلامية، وتأثير الإعلام في السياسة الإشارة إلى التحولات التي طرأت على مفهوم النخبة في العقود الأخيرة، مع زيادة أعداد المتعلمين، وسهولة الوصول إلى المعلومات وحرية استخدام التكنولوجيا. من جانب آخر، فإنّ صعود الشعبوية كان، في واقع الحال، ردّاً على الفجوة الآخذة في الاتساع بين النخب والقاعدة الشعبية. وينبغي ألا يغيب عن الأذهان هنا حالة التصادم بين الشعبوية والإعلام التقليدي.

الطفرة الرقمية والتكنولوجية التي يشهدها العالم ألقتْ بتأثيراتها في ميادين كثيرة خاصة الصناعة الإعلامية

لكن في الردّ على جمود الإعلام التقليدي ورتابته، وعزوف الجمهور عنه، وضعف مجاراته للتحولات الدراماتيكية التي أحدثتها "الرقمنة"... انتشرت ظاهرة "الأخبار الكاذبة" (fake news) و"الحقائق البديلة" (alternative facts) و "ما بعد الحقيقة" (post- truth). وأصبح كثير من القرّاء والمشاهدين فريسة سهلة لأشكال مختلفة من التزييف، وفبركة الأخبار والأشكال والأصوات. ولقد جرى الربط بين وسائل الاتصال الجديدة وتحولها، على يد مؤسسات وكيانات ودول وجماعات، إلى أداة للتزييف والأخبار الكاذبة وإثارة الفوضى وانتهاك القوانين.

وبعد فضيحة "كامبريدج آناليتكا"، اتضح أنّ "فيسبوك" فشل في حماية البيانات الشخصية لقرابة 50 مليون شخص من مستخدميه، وكان غير مكترث بالأمر، حتى ثارت الفضيحة مؤخراً. كان هذا دليلاً جديداً على فشل مساعي "فيسبوك" السابقة في أن يكون منصة وسائل الإعلام العالمي. وبعد توظيف "فايسبوك" في التلاعب بانتخابات الرئاسة الأمريكية الأخيرة من جانب السلطة الروسيّة، صارت شركة "فيسبوك" تواجه تحديات فعلية بشأن مآلاتها المستقبلية، ومدى ثقة المستخدم فيها، وقد يكون العمل على تعديل اللوغريتمات (الخوارزميات) التي لديها؛ فرصة من أجل استعادة تلك الثقة، وضمان الخصوصية.

إنّ الطفرة الرقمية والتكنولوجية التي يشهدها العالم ألقتْ بتأثيراتها في ميادين كثيرة، وقد نالت الصناعة الإعلامية قسطاً مهماً منها، من حيث تغييرها لأنماط سلوك المستهلكين، والكيفيات التي تدار بها الموارد، وهذا، إنْ غيّر في تضاريس هُويات الفاعلين السياسيين، فإنه ترك أيضاً أثره العميق في أساليب الرصد والتنبؤ وطرق مقاربة التحولات وقراءة الواقع والأحداث. وكما قالت مداولات "منتدى دبي الإعلامي" فإنّ ثمة تُخمة في الأخبار الصادقة والكاذبة، وما يُعوَّل عليه هو تقديم التحليل الدقيق، والرؤية الموضوعية؛ والقراءة التي تتوسل الحقيقة؛ فـ"المواطن الصحافي" لا يغني عن الخبير والمحترف وواسع الاطلاع، لكنّ المؤسسات الإعلامية الذكية والناجحة هي تلك التي تحاول أنْ يجمع العاملون في صفوفها بين شغف "الصحافي المواطن" وسرعته واندهاشه ومغامرته وبين دقة الصحافي المحترف وخبرته المتراكمة والتزامه المعايير المهنية وقدرته المضطردة على توظيف التكنولوجيا والرقمنة في تقديم مادة إعلامية مميزة وجديدة.

هناك تُخمة في الأخبار الصادقة والكاذبة، وما يُعوَّل عليه هو تقديم التحليل الدقيق، والرؤية الموضوعية

إنّ سرعة الأحداث وتوالي الصدمات الإستراتيجية فرضت تحديات جديدة على حقلي التعليم والإعلام على حدّ سواء، من أجل استحداث منهجيات تُوظِّف المهارات والخبرات المتراكمة في سبيل تقليص "هوامش اللايقين" قدر المستطاع، وهو ما ينبغي على الدول والحكومات الاستثمار فيه، والاستجابة له بكفاءة واقتدار. ولا يبدو أنّ الذكاء الصناعي والروبوتات وسواها كفيلة وحدها بسدّ هذه الثغرة؛ فالإسهام البشري ما يزال أساسياً في تغذية التكنولوجيا بالحقائق، وبعد معالجة التكنولوجيا لتلك الحقائق ثمة حاجة، مرة أخرى، للعقل البشري الذي يقرأ ويحلل ويقيّم، ويسعى لسدّ الثغرات وربما إعادة التغذية مرة أخرى، خصوصاً في حال حدوث تطورات جديدة يدركها البشر قبل الآلة، في كثير من الأحيان.

ومع أنّ التاريخ حافلٌ بعبارات مثل "المعرفة والمعلومات قوةٌ"، فإنّ التحدي الذي خلقته الثورة الرقمية يتمثل في أنّ سرعة المعلومات تفوق قدرة البشر على معالجتها واستيعابها، ما يؤكد ضرورة تلاقي السرعة مع المهنية العالية، والسبق الإعلامي مع الدقة والصدقية، ولعلّ هذا المعنى كان حاضراً، في شكل موارب، في بيان صحيفة "الحياة" المشار إليه أعلاه؛ حين نبّهت الصحيفة بأنّ تحوّلها إلى سمة العصر الإعلامي؛ أيْ الرقمية، لن يبعدها عمّا عوّدت قارئها عليه... فهي ستبقى "ملتزمة بنهجها الموضوعي وميثاقها الصحافي".


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية