إلى متى سيبقى القمر في بيت متاعبنا؟

"أنا متعبة بابا، القمر في بيت متاعبي اليوم. ياللهول: وكيف عرفتِ ذلك؟ أخبرني صديقي تامر: عندما يكون أحدنا متعباً ولا تسير أموره جيداً يكون القمر في بيت متاعبه. وما هي متاعبكِ؟ بلعومي يؤلمني، لا أستطيع اللعب مع أصدقائي. وما سبب الألم في بلعومكِ؟ ربما لأنني تناولت كميةً كبيرةً من الآيس كريم. حسناً وكيف يمكن أن نساعد بلعومكِ؟ (تمزح) بالوصفة المرعبة، الغرغرة بالماء وخلّ التفاح. جيد، والآن من الذي أتعبكِ الآيس كريم أم القمر؟ (تضحك) سأخبر تامر: لا علاقة للقمر بمتاعبنا".

يحتل التنجيم مساحات واسعة من انشغالات الأفراد في المجتمعات التي يعصف بها الجوع والخوف

في الحوار السابق رغم بساطته، يتضح أنّ الحلول تبدأ عندما نربط الأسباب بالنتائج، وهذا بالضرورة يقتضي أن نُحلّل الحدث تحليلاً منطقياً، هذا التحليل الذي يشكّل (تحييد الأوهام) أهم خصائصه. يمكننا أن نتساءل: ماذا لو تمّ إقفال باب الحوار بجملة "نعم هذا صحيح القمر في بيت متاعبكِ"، ألن تكتسب هذه الطفلة في المستقبل دافعاً قوياً يفتح مصيرها على فناجين القهوة، أو أن تصبح خطوط كفّها البوابة إليه؟ وماذا عن الأبراج ألن تكون حاضرة دائماً كشمّاعة تعلّق عليها آمالها ومخاوفها؟ وماذا لو اتسعت دوائر الوهم أكثر وأكثر ألن تبتلع في تمدّدها مصيرها وتجرفها إلى مجهولٍ ضيّق تحرسه العتمة من كلّ صوب؟ 

اقرأ أيضاً: صور الأطفال التي هزّت العالم...هل هذا ما حدث فعلاً؟

كثيرةٌ هي الدراسات الحديثة التي أثبتت أنّ التنجيم ليس علماً، كما أنّ الطرق التي ينتهجها ليست علميّة على الإطلاق، إلّا ما تروّج له دائرةٌ ضيّقة يُشكّل المنجمون فيها الأغلبية، ومع ذلك ما زال التنجيم يحتلّ مساحات واسعة من انشغالات الأفراد في كافة المجتمعات، والمُلفت أنّ هذا الانشغال يزداد ويصبح أكثر جدّية في المجتمعات التي يعصف فيها الجوع والخوف؛ فهل تلعب عتبات الأمان المتدنيّة في هذه المجتمعات دوراً في ذلك؟ أم أنّ أحداً ما يقف وراءها ويجعل منها مطيّة يشرعن وجوده أو ما يريده من خلالها؟

لقد حلّل "مصطفى حجازي" في كتابه "سيكولوجية الإنسان المقهور" وضعية الفرد في مجتمعاتنا المقهورة بعمق، وعرض بدقة كيف تُسيطر الخرافة على مصائرنا. هناك تناسب طردي بين ازدياد الوهم وتنامي الإحساس بالعجز والضعف، وبحسب حجازي؛ فعندما تضيق فرص الخلاص أمام الفرد في هذه المجتمعات، سيستبدل السببية المادية بسببية غيبية، هنا بالتحديد يظهر دور المنجمين أسياد هذه اللعبة، حيث تزعزع آلية السببية الغيبية التي ينتهجونها التفكيرَ النقدي والتحليل العلمي للظواهر، ما يجعلهم يديرون العلاقة بين الفرد ومستقبله بكفاءةٍ عالية، وهذا ما يتيح لهم التلاعب بآمال الفرد في الخلاص، كما يتيح لهم تحريك مخاوفه من الحاضر وقلقه من المستقبل.

اقرأ أيضاً: كيف نخوض حرباً ضد الحرب؟

إنّ المصداقيّة التي يحظى بها المنجمون تدعمها التحالفات التي تعقدها السلطة مع المنجمين أنفسهم، "من يعرف إيهام الجماهير، يصبح سيداً لهم" بتعبير "غوستاف لوبون" في كتابه "سيكولوجيا الجماهير"، فليس هناك أسهل من السيطرة على العقول لمن يجعل الأوهام حقائق، وقد تصبح المشكلة أكبر ممّا نتصور، عندما يتمُّ استبدال وخلط الوقائع بالأوهام؛ إذ إنّ تشجيع السلطة لهذه الممارسات، يهدف في الحقيقة إلى صرف الفرد عن التصدي الفعّال والموضوعي للواقع، ما يُعفي السلطة من مسؤولياتها عمّا يحدث أو ما سيحدث، وبذلك يتم قبول الأزمات والكوارث التي تحل بالمجتمع كقدر مُنزّل حاكت النجوم خيوطه في الخفاء، وليس أمام الفرد سوى الامتثال والقبول لهذه المشيئة الغامضة، ولكنّ لحظة القبول هذه، هي اللحظة التي تضمُر فيها عضلات التغيير الاجتماعي؛ فكلما استسلم واستكان الفرد للأمر الواقع، حافظ الواقع على استمراريته، ما يجعل الخلاص الذي ينشده الجميع خلاصاً مؤجلاً لن يحدث إلّا في الوهم والنوم. 

المصداقيّة التي يحظى بها المنجمون تدعمها التحالفات التي تعقدها السلطة مع المنجمين أنفسهم

ويمتاز التنجيم، شأنه شأن كل الغيبيات، بقدرته على محاكاة العواطف لا العقول، ولم يعد مُهماً إثبات مصداقيته أو نفيها أمام تغييبه للعقل داخل السببية المزيّفة التي ينتهجها، واستحواذه الكامل على الفرد، وعلى ما يبدو أنّ صناعة الأوهام اليوم أخذت منحىً تصاعدياً، على ضوء مستجدات التواصل الاجتماعي، ما جعل العالم الافتراضي مستثمراً ناجحاً يُحقّق قبولاً متزايداً، من خلال تطبيقات إلكترونية تعمل على سبر شخصية المستخدم والتي تنتج أساساً عن استخدام خصوصية الحسابات. خلال تصفّح "الفيسبوك"، سنرى أنّ الكثيرين باتوا مولعين بالاختبارات والتكهنات المستقبلية لصورة وعمل وسلوك المستخدم، الأمر الذي قد يبدأ عند البعض كتسلية ودعابة ولكنه ينتهي عند الكثيرين إلى إدمانٍ يعززه النقص الوجودي للحياة والتجربة الحقيقية على محكّ الواقع. 

اقرأ أيضاً: "السوار الأرجواني"...هل هو حلّ لتذمّرنا؟

على ما يبدو أنّ أذرع الوهم باتت طويلة جداً في هذا العالم، وقد أصبحت تمتلك قدرة فائقة في إحكام القبضة على العقلانيّة والموضوعيّة وخنقهما ببطء. وإن بدا التنجيم بطرقه المختلفة الذراع الأقصر إلّا أنّه يُمهّد الطريق للأذرع الأطول، ومن المفارقات الملفتة أنّ الإعلام الرسمي في مجتمعاتنا بينما يحارب الشعوذة والسحر، يحتفل بشكل علني بالمنجمين ويفرد لتنبؤاتهم مساحات واسعة في برامجه، خاصةً تلك التي تسبق رأس السنة الميلادية في كل عام، فالسلطة بارعة جداً في بيع الحُقن المخدرة والمهدئة لأفراد تتقاذفهم المخاوف والآمال، إنّها تفرش الطريق إلى الهاوية بحرير الوهم.

السلطة بارعة جداً في بيع الحقن المخدرة والمهدئة لأفراد تتقاذفهم المخاوف والآمال

من الواضح أنّ كلّ شيء من حولنا يتدهور تدهوراً غير مسبوق في عالم يستثمر الغباء ويحرسه؛ فإذا كان اعتقاد الفرد بهذه التكهنات يجعله يتقهقر، بحسب مصطفى حجازي، "من العقلانية التي تميّز حياة الراشدين، إلى مرحلة التفكير الطفولي الذي يخلط الواقع بالمخيّلة، والحقائق بالرغبات والصعاب الماديّة بالمخاوف الذاتيّة"، فالأخطر من ذلك أن تبدأ هذه الأوهام في مراحل الطفولة الأولى بقصدٍ أو بغير قصد، لتجعل الفرد سجين مرحلة التفكير الطفولي وأبعد ما يكون عن العقلانية، لذا فإنّ التربية وفي نطاقاتها الضيقة قد تكون جدار المقاومة الأخير.

 أطفالنا يستحقون الكثير، إنهم يستحقون منذ البداية أن نُعيد تربية أنفسنا، فإذا كانت مشاريع التغيير قد غُيبت أو أخفقت واستحالت إلى رماد، فهناك إمكانيّة دائماً للبداية، لا أحد يستطيع منعنا من أن نتغيّر، وقد يبدأ هذا التغيير عندما ندرك أن مشاكلنا لا علاقة للقمر بها.