أطفال بلا تعليم.. متى يتوقف نزيف سنوات السوريين؟

أطفال بلا تعليم.. متى يتوقف نزيف سنوات السوريين؟


08/08/2020

 يعبر كثيرون عن احتفائهم بالأمهات والاعتراف بفضلهن بقول الشاعر أحمد شوقي: الأم مدرسة إذا أعددتها.. أعددت شعباً طيب الأعراق. اللافت في قول شوقي، هو تشبيه الأم بالمدرسة، لا العكس، مع أنّ الأم هي مدرسة ما قبل المدرسة، والأب أيضاً وإن بدرجة أقل، بحكم تقسيم العمل بين النساء والرجال؛ فالأم هي التي تعلم أولادها وبناتها لغة المجتمع وثقافته وقيمه، فمن الأولى أن تُشبَّه المدرسةُ بالأم، وأن تكون المدرسة كالأسرة للمتعلمين والمعلمات، تحرص على صحة أولادها وبناتها الجسدية والنفسية والذهنية وعلى تنمية معارفهم ومهاراتهم...

لذلك أعتقد أنّ الأسرة (المؤسسة التربوية) والمدرسة (المؤسسة التعليمية) هما المؤسستان اللتان تحددان مستقبل أي مجتمع معافى و"حسن التنظيم"؛ فهما اللتان تزودان منظمات المجتمع المدني وسوق العمل ومؤسسات الدولة بدماء جديدة وقدرات جديدة، فترسمان مستقبله.

 

تعرّضت الخدمات الأساسية في سوريا بما في ذلك الالتحاق بالمدارس إلى تدهور كبير

ولكن فاعلية هاتين المؤسستين مرهونة بطبيعة النظام الاجتماعي - الاقتصادي والسلطة السياسة. فإما أن يكون النظام الاجتماعي – الاقتصادي والسلطة السياسية ترجمة اجتماعية وسياسية لوظائف الأسرة والمدرسة، وإما أن يكونا عاملي كبت وكف وكبح، كما هي الحال في سوريا، منذ عقود، وخاصة بعد العام 2011.

في مقالة سابقة تطرقنا إلى الفقر المتفشي في سوريا، وركزنا على الفقر المتعدد الأبعاد، الذي يعد الحرمان من التعليم ومن الموارد الثقافية والخيرات الاجتماعية، كالمساواة والحرية والعدالة من أبرز مظاهره، وأشرنا وإلى السياسات، التي تركت أكثر من 80% من سكان سورية فريسة الإفقار والتجويع والتهميش، نصفهم يعانون من فقر مدقع أو فقر شديد، تضافر الفقر مع الحرب في حرمان ملايين الأطفال والطفلات من التعليم، وحرم الملتحقين والملتحقات بالمدارس من التعليم الجيد، جراء انهيار النظام التعليمي وفساد المؤسسات التعليمية، التي صارت مؤسسات تعبئة وتجييش.

اقرأ أيضاً: تركيا تقود أطفال سوريا إلى رحلة الموت في ليبيا

يرى المركز السوري لبحوث السياسات أنّ النزاع قد ترك أثراً سلبياً على حاضر السوريين ومستقبلهم على حد سواء؛ إذ كان التدهور الحاصل في النظام والمخرجات التعليمية من بين أكثر أشكال التدهور حدّة. فقد تعرّضت الخدمات الأساسية في سوريا، بما في ذلك الالتحاق بالمدارس، إلى تدهور كبير نتيجة تدمير البنية التحتية ونزف الجسم التعليمي، (إما في ساحات القتال وإما في السجون والمعتقلات وإما في بلاد اللجوء). فلا يزال السوريون يخسرون ملايين سنوات التعليم؛ ففي العام 2019 كان هناك 2.3 مليون طفل ) بين الخامسة والسابعة عشرة من العمر) غير ملتحقين بالمدارس. السؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما مصير هؤلاء المحرومين والمحرومات من التعليم، ومن التعليم الجيد؟ بل ما مصير مجتمع حرم هذا العدد الهائل من أطفاله من التعليم؟

في إحدى الحاراتِ المكتظةِ بالعمران والسكان والغبار في إحدى المدن السورية، تتجمع في طرقاتِها الضيقةِ مجموعاتٌ وعُصَبٌ من أطفالٍ تراوح أعمارهُم بين سبعِ سنواتٍ واثنتي عشرة؛  يلعبون لعبة الحرب، مثل الكبار، بعضُ هؤلاء الأطفال من أبناء العائلات الوافدة أو النازحة من مختلف المحافظاتِ السوريةِ، وبعضهم الآخر من أولادِ البلد، وجميعهم عناوينُ لأسرهم، لأنّ الثيابَ المستعملةَ صارت غاليةً هي الأخرى.

اقرأ أيضاً: أطفال سوريا..ضحايا أطماع أردوغان في ليبيا

هؤلاءِ الأطفالُ نماذج لأطفال مثلهم، في كل بلدةٍ وكل حيٍّ من أحياء المدن السورية؛ الحروبُ الصغيرةُ المتداخلة في حربٍ واحدةٍ، بلا اسم، استباحت طفولتَهم وسرقت أفراحَهم وأعطتهم بدلاً منها لعبةَ الحرب، وفنونَ الكرّ والفرّ، وألقابَ المقاتلين ورتبَهم وأسماءَ طوائفِهم.

وفي الحارة ذاتها سوبر ماركت صغيرة يعمل فيها ثلاثة أطفال ليل نهار، يقومون بتوصيل الحاجيات إلى المنازل مقابل خمس وعشرين ليرة سورية لكل طلبية، وفي وقت فراغهم ينضمّون إلى رفاقهم في اللعب أو العمل الفدائي الذي يقومون باختراعه.

 هذه صورةٌ واقعية، وعن قرب، لأطفالِ الأزمة، التي أفرزت هذا النمطَ من الطفولة، فمن المسؤولُ عن تسيّبِ الأطفالِ في الشوارع، وما هو الحلُّ لهذهِ الظاهرةِ التي تُعتبرُ جريمةً بحق الطفولةِ والأطفال؟ من المسؤولُ عن غرس التقسيمِ الفئويِّ في أذهانِ الأطفالِ الذين ربما صار المقاتل أو قائد العصابة مثلَهم الأعلى؟

اقرأ أيضاً: أطفال سوريا إلى ليبيا بأوامر تركية.. لماذا؟

ليس ما يُشاهَد في تلك الحارة أو غيرها من الحارات في المدن والبلدات السورية تسرباً من المدرسة فقط، وليس عمالة أطفال بسبب تفشي الفقر وفقدان المعيل الأول للأسرة وحسب، إنما هو حرمان الطفولة من العيش بسلامٍ وزجها فيما يجري من نزاعاتٍ عسكريةٍ ودينيةٍ ومذهبيةٍ وعشائرية.

 

في العام 2019 كان هناك 2.3 مليون طفل بين الخامسة والسابعة عشرة غير ملتحقين بالمدارس

من حق الطفل أن يلعب، وأن ينمو نمواً طبيعياً سليماً، في بيئةٍ آمنة ومستقرة، تراعي إمكانياتِه وتنمي قدراتِه الإبداعية، نحن الأمهاتُ والآباءُ لا نكلف أنفسَنا إبعادَ أطفالنا عن مظاهرِ العنفِ ومشاهدِ القتل والتدمير، التي تبثها القنواتُ التلفزيونية، من دون أدنى شعورٍ بالمسؤولية، ولا نجنبهم الثرثراتِ المذهبية والطائفية، وما تبثه من حقدٍ وكراهية، فلعلنا نرغب في إنتاج أبناءٍ على صورةِ الآباء، وبنات على صورة الأمهات، حفاظاً على هويتنا القومية والدينية.

السؤال الذي يطرح نفسه اليوم: هل فطنت الأسرة وهل فطن المجتمع والدولة إلى تربية الأجيال الجديدة على المواطنة، ومتى يمكن أن تفطن؟ فما زلنا نتلفع بعباءة التقليد والسائد اللذين يكونان ملامحنا في ملامح أطفالنا وسلوكنا في سلوكهم، "فالطفل يبدأ حياته في سنيّه الأولى وهو يعبّر عن الكثير من إمكانات الإبداع العفوي إلا أنّ أسلوب التنشئة القمعية التي تقمقم الطاقات يفعل فعله في البيت ويستكمل في المدرسة في نوع من الخطة المبرمجة لقمع العفوية والإبداع والانطلاق والحيوية ..." حسب مصطفى حجازي؛ فقد حُرم بعض أطفالنا من المدرسة وتوجه إبداعهم نحو التطرف والعنف والتمييز الطائفي والفئوي.

في ضوء ما تقدم، يبدو أنّ نتائج الحرب، ولا سيما الإفقار والتجويع والتهميش، والحرمان من التعليم، ومن التعليم الجيد، ومن الموارد الثقافية، هي التي ستحدد مستقبل المجتمع السوري، الذي قد يحتاج إلى زمن غير قصير لكي يستأصل نتائج هذه الحرب من العلاقات الاجتماعية والمؤسسات الخاصة العامة.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية