بسبب مزيج من الأهداف السياسية الطموحة أكثر مما يجب، والعثمانية الجديدة الحاسمة، والقوة الصلبة المكتشفة كوسيلة لزيادة القوة الناعمة، وحجم الحسابات السياسية الخاطئة، أصبحت تركيا الدولة الوحيدة في التاريخ الحديث التي تُفرض عقوبات رسمية عليها من روسيا. وتواجه عقوبات من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في أقل من خمس سنوات.
حدث هذا في وقت يعاني فيه الاقتصاد التركي بسبب الاختلالات الأساسية في ميزان المدفوعات، ومعدلات الفائدة والتضخم، وارتفاع معدلات البطالة، والخزينة العامة التي تعاني من ضائقة مالية، والتي تفاقمت جميعها بسبب الأزمة الصحيّة. وبلغ صافي احتياطيات العملات الأجنبية الصافية في البنك المركزي التركي أدنى مستوى له عند 46.5 مليار دولار، وخسرت الليرة التركية 30 في المئة من قيمتها على مدار سنة 2020.
وسُلّطت العقوبات الروسية في بداية سنة 2016، بعد وقت قصير من إسقاط أنقرة لطائرة مقاتلة روسية من طراز سو-24 فوق حدود تركيا مع سوريا مدعية بأنها انتهكت المجال الجوي التركي.
في غضون ستة أشهر، كلفت العقوبات الاقتصاد التركي خسارات بمليارات الدولارات على مستوى الصادرات وانخفاض بنسبة 90 في المئة في عدد السياح الروس الوافدين إلى تركيا. ووافق الرئيس فلاديمير بوتين على رفع العقوبات تدريجياً بعد أن اعتذر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان له رسميا في يونيو 2016، بعد ستة أشهر من تهديده بأن "تركيا ستسقط كل طائرة أجنبية تنتهك المجال الجوي التركي". كما جاء اعتذار أردوغان مع تأييد ضمني للنفوذ الروسي في الحرب الأهلية السورية.
بعد خمس سنوات من إسقاط تركيا الطائرة الروسية، تحدى أردوغان الولايات المتحدة لفرض عقوبات على بلاده. وقال ردا على عدم اليقين بشأن العقوبات المحتملة التي تدرسها واشنطن بسبب شرائه لنظام الدفاع الجوي إس-400 روسي الصنع ولتجاوز العقوبات الأميركية على إيران عبر بنك تركي حكومي: "مهما كانت عقوباتك، فلا تتأخر".
سيختار الرئيس المنتخب جو بايدن، إذا قرر اعتماد قانون مكافحة خصوم أميركا من خلال العقوبات، من قائمة العقوبات الاقتصادية لفرضها على تركيا (على الرغم من أن الرئيس ترامب أوقف فرض عقوبات على تركيا بموجب قانون مكافحة خصوم أميركا سابقا، وتنص النسخة النهائية من مشروع قانون تفويض الدفاع الوطني السنوي الذي يجب تمريره، والذي كُشِف عنه في 4 ديسمبر، على أن يعاقب الرئيس تركيا على اشترائها النظام الدفاعي الروسي).
وبينما تمثل العقوبات الأميركية تهديدا محتملا قد يكلّف اقتصاد تركيا المتعثر مليارات الدولارات، إلا أن هذا التهديد ليس خطرا وشيكا.
وفرض الاتحاد الأوروبي عقوبات بسيطة على تركيا ولكن ستظل العقوبات الأوروبية الحقيقية على تركيا خيارا في المستقبل المنظور. وتبقى الأجواء العدائية بين أنقرة وبروكسل والتصعيد المحتمل في النزاعات المختلفة حقيقية لا تسمح للاتحاد الأوروبي بإسقاط ورقة العقوبات مرة واحدة.
إلى حدود فترة قريبة، كان هناك فجوة في الثقافة الديمقراطية المتزايدة في تركيا أوقفت محادثات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. وتطوّرت المشاكل إلى عجز ديمقراطي أوسع. وتشمل النزاع القبرصي المرتبط بالنزاع على التنقيب عن النفط والغاز قبالة الجزيرة المقسمة، والصراعات العسكرية والسياسية مع اليونان، وحدث "صدام الحضارات الصغير" بين أنقرة وباريس.
في الآونة الأخيرة، تضاعفت التوترات بعد أن اعترضت فرقاطة ألمانية، من بعثة الاتحاد الأوروبي التي تفرض حظر أسلحة على ليبيا، سفينة شحن تركية في البحر المتوسط ونفّذت ما وصفته الحكومة التركية بعملية بحث "غير قانونية". قبل ذلك بوقت قصير، في شهر يونيو، قالت فرنسا إن إحدى فرقاطاتها تعرضت لثلاث "ومضات لإشعاعات رادار" عندما حاولت الاقتراب من سفينة مدنية تركية يشتبه في تورطها في تهريب الأسلحة.
تتضمن قائمة العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي تدابير مصممة للحد من التنقيب التركي عن الطاقة. هناك خيار آخر تدعمه النمسا بشكل خاص، ويكمن في إنهاء خطة لتوسيع الأفضليات التجارية لتركيا مع الاتحاد الأوروبي. وتبدو بعض العقوبات حتمية، لكن السؤال يحوم حول تحمل الأسواق.
وأشار تقرير في سبتمبر في صحيفة "دي فيلت" الألمانية إلى أن مشاكل تركيا الاقتصادية قد تكون بسبب أخطائها، لكنها قد تنتشر إلى أوروبا وتصبح مشكلة للغرب، خاصة إذا انهار الاقتصاد التركي بالكامل.
وذكر المقال أن "على المؤسسات المالية الأوروبية أن تخشى انهيار تركيا. إذ لا تزال الكثير منها منخرطة في البلاد بمليارات اليوروهات. ولدى الغرب الكثير ليخسره. يجعل هذا فرض العقوبات الحقيقة أكثر صعوبة ويعزز موقف الرئيس أردوغان الاستبدادي. هذه هي البنوك الأوروبية التي، حتى بعد أربع سنوات من الأزمة التركية المستمرة، لا تزال منخرطة في تركيا باستثمارات بمليارات اليورو. سيتعين على المؤسسات المالية الغربية أن تخشى حدوث انخفاض خطير في قيمة العملة إذا دخلت البلاد في أزمة واسعة النطاق في ميزان المدفوعات ".
كما كتبت "دي فيلت" أن العقوبات على تركيا وانهيار الاقتصاد التركي تهدد المؤسسات المالية الإسبانية بما يعادل 62 مليار دولار. ويصل المبلغ إلى 29 مليار دولار بالنسبة للبنوك الفرنسية، و12 مليار دولار للبنوك البريطانية، و11 مليار دولار للبنوك الألمانية، و8.7 مليار دولار للبنوك الإيطالية. وهذا يعني أن المقرضين من خمس دول في الاتحاد الأوروبي معرضون لخسارة مجتمعة بقيمة 122.7 مليار دولار.
لتجنب سيناريو الكارثة، شن أردوغان هجوما جديدا. فقد وعد بإصلاحات ديمقراطية وقضائية واقتصادية، وقال إن "مستقبل تركيا في أوروبا"، وهو ما يدفع إلى الشعور بالحيرة بالمقارنة مع وصفه السابق لأوروبا بأنها ناد مسيحي معاد للإسلام، يشمل النازيين وبقايا النازيين والفاشيين.
يخشى أردوغان العقوبات الغربية لأنها قد تسرع الانهيار الاقتصادي التركي، بما قد يؤدي إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة قد تنتهي بإسقاط حكومته.
من المؤكد أن العقوبات والفقر ستقلل من نسب دعم أردوغان، لكنها قد تمنحه دفعا أيضا. ففي حالة فرض عقوبات من أوروبا و/أو أميركا، سيعود أردوغان إلى خطابه الشرس المناهض للغرب، والقائل إن "القوى الإمبريالية الأجنبية والشريرة والصليبيين المعاصرين يخططون لكل هذه المصائب ضد تركيا". يمكن لهذا الخطاب أن يوحد المحافظين والقوميين الأتراك في صفوفه ويضخم صوته. قد يكون التأثير المشترك سلبيا على الأرجح بالنسبة لأردوغان، لكن هذا ليس مؤكدا.
من ناحية أخرى، إذا اعتقد أردوغان أن بإمكانه الإفلات من مواجهته مع الحضارة الغربية واتباع سياسة أكثر عدوانية دون أي تكلفة عقابية، فلن يفوّت الفرصة، وهذا سيعني المزيد من المتاعب. ويبقى الأمر متروكا للعاقلين لإيجاد أفضل طريقة لتعليم المتنمّر بعض الأخلاق.
عن "أحوال" تركية